«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



موقع محمد مندور في المشهد النقدي المعاصر والنظرية الأدبية
نشر في أخبار الأدب يوم 19 - 03 - 2016

قبل ما يقرب من عقدين كتب فاروق العمراني مقالة نقدية حول منجزات محمد مندور عنوانها "النزعة الجمالية الإنسانية في نظرية محمد مندور النقدية" تناول فيها عوامل تكوين مندور الثقافي والأدبي أو النزعة الجمالية - الإنسانية في نظرية مندور النقدية، ومنهج مندور النقدي بشكل عام، منتهيا بالإشارة إلي علاقة الشعر بالحياة عند مندور أو ما يطلق مندور عليه "المهموس" في الشعر، موضحا مصطلحه من شعر ميخائيل نعيمة. والبحث في مجمله اضافة مفيدة للتراث النقدي عند هذا الناقد الذي يعد من الرواد الأوائل ممن حملوا مشعل الحداثة في الأدب والنقد، ووقف موقفا صلبا من التجديد، وصمد صمود المفكرين الشرفاء في المعارك التي كانت تدور رحاها مع عتاة المتزمتين الذين حاربوا التغيير بجبروت عنادهم.
ورغم كل ما قدمه العمراني من إطراء في تقديمه محمد مندور، إلا أن خاتمة البحث لم تكن منصفة، بل إنها متناقضة مع السياق النقدي المعاصر الذي استقي منه محمد مندور نقده، وهذا ما يجعلنا نقف عند خاتمة البحث، أملا في توضيح الأمر برمته، عل ما نقوم به هنا يكون من شأنه تقديم منظور أشمل للناقد ويضيف الي ما قدمه العمراني. وهذه هي الخاتمة المشار إليها.. "علي أن عيب مندور أنه غالي أحيانا في نظرته الجمالية، حتي غرق في مثالية متطرفة، فقطع الفن عن أواصره التاريخية الاجتماعية وجعله خالصا، وغفل عن الحقيقة التاريخية والسياق الاجتماعي لتلك الأصول الجمالية" - (فصول، فبراير، 1991، ص63).
بداية، يغفل العمراني عن السياق التاريخي للنقد الأدبي الغربي الذي اعتمد مندور عليه اعتمادا رئيسيا، وتهدف هذه الورقة إلي تقديم ما تيسر من خلفية النقد الأدبي الغربي ونظريته التي سادت المشهد، موضحة الأسباب التي دعت محمد مندور إلي تأكيده علي أهمية النظرية الجمالية؛ إذ إنه لم يكن بوسعه أن يتجاهل هيمنة الشكلانية التي ارتكز عليها النقد الأدبي الغربي، وخصوصا الفرنسي والانجلوسكسوني، علاوة علي رغبة محمد مندور في مد جسور هذه الركيزة الحداثية الي المشهد النقدي العربي المعاصر.
بداية، لابد أن نستذكر أن الحداثة تتسم بتركيز خاص علي الشكل بدلا من المضمون، الذي كان سابقا محورا رئيسيا في الأدب والنقد، إذ كان الكاتب منشغلا بمحاكاة الواقع وأحداثه. وكأن الأدب ضرب من الضروب المعرفية، مثل التاريخ والجغرافيا، والاجتماع، والسياسة، وغيرها من سائر تلك المعارف. في العقد الأول أو الثاني من القرن الماضي تحول اهتمام الكاتب في الأدب من المضمون الي الشكل، ولا أدل علي ذلك أكثر من الروايات التي ظهرت في عشرينيات القرن الماضي مثل: يوليسيز للروائي جويس، ورواية بروست أشياء من الذاكرة ورواية فرجينيا وولف مسز دالاوي وغيرها، إذ إنها جاءت تعبيرا عن الشكل في الدرجة الأولي. ولابد هنا أن نستذكر الشكلانية الروسية التي أرست قواعد الشكل لعقود تلت.
ولمزيد من التوضيح تجدر الاشارة الي أ.ي ريتشاردز الذي أخذ علي عاتقه وضع حجر الأساس للمدرسة الشكلانية في جامعة كيمبردج في عشرينيات القرن الماضي، وعبارته حول الشكل كركيزة أساسية للفن هي: تصل إلينا التجربة في الحياة بعد أن تكون حتما قد اتخذت شكلا.
وفي الربع الثاني من القرن الماضي، وعلي وجه الدقة في الأربعينيات منه، سيطر النقد الجديد علي المشهد الأدبي في العالم الانجلوسكسوني وقد كان شعار أصحابه أن القصيدة هي الكلمة التي تظهر علي الصفحة المكتوبة وأن اللغة هي الأساس في تعامل الأديب والناقد في العملية الابداعية، وهذا ما كان محمد مندور ينادي به كما وضح العمراني. وقد أدلي أحد زعماء النقد الجديد الشاعر ماكليش بعبارة شاعت بين النقاد والقراء علي السواء وهي أن القصيدة وجود لغوي بلا معني أو بترجمة العمراني "وجود موضعي" والعبارة في شكلها البسيط في الانجليزية »Objective reality«
بلغت هيمنة الشكل أوجها في ستينيات القرن الماضي إثر ظهور البنيوية التي لم تعمر طويلا، رغم ما استقبلت به من حفاوة بالغة، ربما بسبب مغالاتها في الاهتمام باللغة كشكل ونظام صارمين يختزلان الأبعاد التاريخية والاجتماعية ودور المبدع في العملية الابداعية.
أما التحول الأهم الذي طغي علي التحولات السابقة فقد جاء من خلال النقد الثقافي الذي تخطي حدود الشكلانية الضيقة وجبّ الاهتمام الشديد بجماليات العمل الأدبي الي تحد بطبيعتها من تفعيل المقومات الهائلة للغة وتحصرها في شكل تدريبات لغوية ومشاعر انسانية مجردة غير مرتبطة بواقع الحياة. لم يغفل النقد الثقافي عن اللغة، بل إنه استدرك ما فات الشكلانية من اهمال لآفاق اللغة المتجددة والتي لا غني لها عن علاقتها الضرورية بالمجتمع. تطور النقد الأدبي الحديث "ليس الجديد" في ظل النظرية الأدبية ونشأت علاقة جديدة كل الجدة بين نقاد الأدب أمثال ادوارد سعيد، وتيري ايجلتون، وفريدريك جيمسون، وغيرهم ممن نهلوا من النظريات الأدبية ومفكريها أمثال: دريدا، وبارت، وفوكو، وألثوسير، وأدورنو، ويونغ ولاكان، وقدموا لنا الأدب من خلال قراءة موازية تقريبا تستند الي ماركسية جديدة أو علم نفس جديد أو فلسفة جديدة أو تأريخية "لا تاريخية" دون اختزال للنص الأدبي نفسه. بإيجاز أصبح النص بما فيه من ثقافة ولغة متداخلتين وبما يكتنز من قراءات لا حصر لها لحياتنا التي نعيشها، هو المنطلق للقراءات النقدية التي لا تقف عند حد.. أضحي الخطاب لغة فاعلة فعالة في المجتمع وسبيلا للاتصال مع النقاد والأدباء.
هل من الإنصاف أن نطالب محمد مندور أن يكون شاهدا نقديا علي عصر غير عصره؟ يكفي أنه واكب عصره ولم يتخلف عنه نقديا رغم الأصوات التي كانت تعزف علي التخلف عن ركب الحداثة.
ومن قبيل الإنصاف أيضا ألا ننسي أن محمد مندور ناقد موضوعي تنقل بيسر بين الأدب العربي وتراثه النقدي من جهة والنقد الغربي الحديث من جهة أخري، مؤثرا طرح رؤية نقدية استقاها من الآداب الأوروبية خصوصا الفرنسية منها لاستكمال مقولته النقدية الشمولية للأدب العربي قديمه وحديثه. ورغم أنه يميل عمدا الي التركيز علي جماليات الشكلانية غير أنه لا يغفل عن البعد الاجتماعي للأدب. ها هو مثلا يفرد جزءا بعنوان "الأدب والحياة الاجتماعية" ضمن كتابه في الأدب والنقد الذي ظهر عام 1949، وطبع بعد ذلك أكثر من مرة.
لا مراء في أن الأدب قد لعب خلال التاريخ دورا كبيرا جدا في ثورات الشعوب وحركاتها الاستقلالية والاجتماعية، وذلك أنه وإن تكن هناك علاقة وثيقة بين معنويات الحياة ومادياتها، إلا أن إدراك تلك العلاقة قبل أن تصبح أمرا واقعيا محسوسا لا يتأتي لعامة الناس، فما يسمي استقلالا أو حرية قد تتعشقه النفوس الكبيرة لذاته، وأما جمهرة الشعب فلابد أن تدفع الي ذلك، لابد أن توضح العلاقة بين هذه المعاني وبين المعاني المادية اليومية حتي يغضب الشعب لتلك المعنويات. وكذلك الأمر في الحركات الاجتماعية، فالبؤس المادي ذاته لا يحرك الشعوب بل يحركها الوعي به، وفي الفلاح المصري شاهد علي ذلك.
وعن هاتين الحقيقتين الثابتتين وهما:
1 - إدراك العلاقة بين معنويات الحياة ومادياتها.
2 - وعي الفرد بما فيه من بؤس.
عن هاتين الحقيقتين تصدر وظيفة الأدب الاجتماعية من حيث انه محرك لارادة الشعوب. والذي لاشك فيه أن الحركات الكبيرة التي قامت في التاريخ الحديث كالثورة الفرنسية ووحدة إيطاليا وثورة روسيا البلشفية، قد مهد لها الكتاب بعملهم في النفس البشرية تمهيدا بدونه لم يكن من الممكن أن تقوم هذه الحركات (ص36-37).
ولا يتسع المجال هنا لتقديم ما يلزم من أمثلة توضح وعي محمد مندور بأهمية البعد الاجتماعي في الأدب بل والايديولوجي، رغم انشغاله بالجمالية النقدية وخصوصا قضية الفن للفن التي يحاول جاهدا أن يبين أنها غير منفصلة عن المجتمع.
وأود في هذه العجالة أن أشير إلي مقولتين نقديتين هامتين عرض لهما محمد مندور في سياق عنوان "دراسته الأساليب" التي ظهرت أول ما ظهرت في مجلة الثقافة عام 1942، ثم جمعت في مجلد تحت عنوان "في النقد الأدبي" (والاشارة هنا الي هذا المرجع). تبدأ المقولة الأولي بعبارة تلخص تعاملنا مع الآداب الأوروبية بشكل عام إذ يقول مندور "لعل دراسة الأساليب أشد أبواب النقد تخلفا في أدبنا الحديث. ولعل تأثرنا بالأدب الأوروبي كان أضعف في هذا الاتجاه من تأثرنا بالتفكير الأوروبي. والذي يبدو لي أن هذه الظاهرة كانت من أكبر الأسباب التي عمت معني الأدب عندنا وأنزلت الاضطراب به..." يتابع مندور تعليقه علي عدة أنواع من الأساليب في أدبنا الحديث مشيرا إلي أسلوب طه حسين بداية: "فثمة أسلوب طه حسين الذي يعرفه الجميع. أسلوب سمح تسلم الصفحة منه عند أول قراءة كل ما تملك، فلا تشعر بالحاجة الي أن تعود تستوحيها جديدا، ولكنك رغم ذلك تحمد للكاتب يسره. أسلوب واضح الموسيقي، يكشف في سهولة عن أصالته، فيقلده الكثيرون بوعي منهم أو غير وعي، ولكنه مع ذلك موسيقي نفس. أسلوب عذب" (ص 382).
يقدم لنا محمد مندور بعد ذلك مقتطفا من فيض الخاطر مشفوعا بتعليقه علي المقتطف، مع أن التعليق يشمل ضمنيا أسلوب طه حسين لكنه يؤثر لأسبابه الخاصة ألا يبوح باسم عميد الأدب العربي وهذا هو المقتطف والتعليق:
"إن السعادة لخير ما يحقق مذهب (أنشتين) في النسبية. فكل شيء في الحياة من لذة وألم نسبي. وليست اللذة والألم يعتمدان علي الشيء الخارجي فحسب، بل هما نتيجة تفاعل بين لاشيء الخارجي والنفس. ويختلف هذا التفاعل اختلافا كبيرا باختلاف النفوس، فليس الألم من الحر والبرد يعتمد علي درجة الحرارة وحدها؛ بل إن صح أن يكون الترموتر مقياسا لحرارة الجو فلا يصح أن يكون مقياسا لألم النفس من الحر؛ وليس لهذا الحال ترمومتر مشترك يتساوي فيه الناس، إنما لكل إنسان في الألم من الحر والبرد ترمومتره الخاص، ولذلك تري من يموت من الحر ومن يموت من الضحك" (فيض الخاطر، ج1، ص342-343).
أما التعليق فهو: "تقرأ هذه الأسطر لأحمد أمين فتخرج منها بفكرة " أن الألم واللذة أمران نسبيان وأنهما نتيجة لتفاعل بين النفس وما يحيط بها". ثم تنظر فإذا الكاتب يعرض لك نفس الفكرة بعدة طرق ويحتال علي نقلها إليك بكافة أوجهها، فتهم بأن تصيح: وما عملي أنا إذا، ولم لا يترك لي حظ تنمية فكرته فأشاركه عمله وأجد من لذة الجهد الشخصي ما يغريني بقراءته؟ لم لا يترك فكرته مركزه فتحتفظ بقدرتها علي الإيحاء؟ إننا لا نريد "الفكة" بل نريد "جنيهات صحيحة"؛ وفي هذا التشبيه علي ابتذاله ما يوضح حقيقة هذا الأسلوب. فالجمل بسيطة صغيرة ليس فيها من التماسك أو التداخل ما يجدي في التفكير، وفي العبارة ذلك "السيل الموسيقي" الذي يميز بين الأساليب تبعا لطبيعته. أسلوب يترك القارئ في موقف سلبي لأن الكاتب لم يترك له شيئا. أسلوب جزئيات فلا موج فيه. أسلوب واضح، ونحن في حاجة إلي ظلال وأسرار ولو من حين الي حين. أسلوب تجاوز لا بناء. أسلوب تعليمي" (ص382-383).
ليس بخاف علينا أن تعليق محمد مندور هذا يصدر عن وعيه بنظرية التلقي التي يشار إليها أحيانا بنظرية القارئ والتي تعد من أبرز النظريات الأدبية في النقد الحديث ويعد المنظر الألماني آيزر رائدها. أما المقولة النقدية الأخري التي أود استذكارها فتقع ضمن نقاشه "النقد العام" في كتابه في النقد والأدب إذ يحذر محمد مندور النقاد من الاعتماد علي التبسيط في نقد الكتاب الكبار أمثال شكسبير، كأن يحاول أولئك النقاد رد مسرحيته الي فكرة واحدة أو عاطفة واحدة مما يؤدي في نظر مندور الي حرمان العمل المسرحي من التنبه الي العناصر التي تغنيها، ويوضح مقولته هذه بالقول: "وعندما يقول النقاد أن رواية "هاملت" مثلا تمثل الانتقام والملك لير العقوق، وعطيل الغيرة الجنسية، وتاجر البندقية الجشع المادي، يجب أن نحذر مثل هذه العبارات المركزة، وان كنا نتخذ منها هاديا للنقد، لأنها وان كانت في جملتها حقيقية، إلا أنها لا تصور الحقيقة كاملة، فإلي جوار الانتقام في هاملت سنجد شل التفكير للارادة البشرية وتبدد الحماسة ألفاظا، والي جوار الغيرة في عطيل نجد الدس والدجل والبراعة وهكذا. وليس من الضروري أن يكون بطل الرواية هو حامل مغزاها أو المعبر عن آراء كاتبها، فكثيرا ما يحدث أن يزج المؤلف بشخصية ثانوية تكون هي المعبرة عن آرائه الخاصة في الموضوع الذي يعرضه". (ص152-153).
مثل هذا النقد لم يقله سوي الشاعر الكبير أودن الذي ألقي سلسلة من المحاضرات عن شكسبير بمناسبة حصوله علي لقب "شاعر البلاط". من بين هذه المحاضرات محاضرة عن مسرحية عطيل التي ألقاها بتاريخ 12 آذار عام 1947، أي قبل صدور كتاب مندور في النقد والأدب بعامين تقريبا، إذ يبين آودن أن شكسبير ربما بدون وعي منه، قد أضحي مسكونا بقدرة إياجو علي الشر لدرجة أنها حولت انتباهه أو اهتمامه من الشخصية المحورية عطيل الي الشخصية الثانوية إياجو، وكأن أودن يقول لنا إن قدرة شكسبير علي رصد موهبة إياجو اللغوية في التعامل مع الشر جعلتنا تلقائيا نتحول نحو الاهتمام بهذه الشخصية الشريرة وننظر اليها علي أنها سيدة الموقف الذي أصبح فيه الشر طاغيا علي الخير. ومع أن محمد مندور لا يقدم التفاصيل التي قدمها أودن إلا أن التقارب بين الرؤيتين لا يمكن تجاهله. وينظر نقاد شكسبير الي ما قدمه أودن في محاضرته هذه علي انه اضافة نوعية الي قراءة المسرحية لم ترد في نقد شكسبير من قبل، وفي هذا السياق لابد أن نعترف بنظرة محمد مندور النقدية الثاقبة حتي لو صدف أنه اطلع سلفا علي نقد أودن.
وبعد، يظل محمد مندور ناقدا رائدا ساهم مساهمة جليلة في المشهد النقدي في عصره من خلال قراءاته الجادة في الأدب الأوروبي ومحاولاته فتح نوافذه علي الأدب العربي ومجاراته روح العصر. بل والتنقل بوعي نقدي مرموق بين الآداب العالمية وهو ينقل الي أدبنا ما غاب عنه بغية الارتقاء به. هنالك محاولتان قد تكونان وحيدتين ربما في صوغ نقد أدبي عربي حديث استلهم التراث وانفتح علي الثقافة الكونية، تتمثل في مساهمتين هما: مساهمة الدكتور محمد مندور ومساهمات يحيي حقي التي يمر عليها كثيرون بسرعة لا تليق بهما.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.