تبدو الحالة المصرية كما لو أنها فى مفترق طرق مفتوح على جميع الاحتمالات، خاصة أن ثمة ثنائيات تتصادم مع بعضها البعض: ميدان التحرير وميدان روكسى، الثوار والبلطجية، الشهداء والقتلى، سلفيون وعصريون، ليبراليون وإسلاميون، دولة مدنية ودولة دينية، مجلس عسكرى ومجلس حكماء، مطالب الثورة وتمويل الأجانب.. إلخ، وقد لا تكون ثمة علاقة مباشرة بين هذه الثنائيات، مجرد تفاصيل متناثرة فى المشهد العام، لكنها بالقطع مؤثرة فى تكوينه وحركته ومستقبله. وبالقطع هذا التنوع يثرى الحوار فى المجتمع المصرى، ويقطع بأن التشابه قد انتهى بلا رجعة، والتنوع حيوية، والتشابه جمود، لكن هذا التنوع منذ ما يزيد على شهرين، تحديدًا منذ جمعة الإنذار الأخير إلى جمعة تصحيح المسار، وهو فى حالة اشتباك عنيف، وكل طرف يقول للآخر: سيب وأنا أسيب! يا ترى ما تفسير هذه الحالة؟ وإلى متى ستدوم؟! أتصور أن الأزمة لها سببان رئيسيان. الأول: نخبة فيها قدر غير قليل من التناقض والصراع والشرذمة أكثر ما فيها من الائتلاف والتنافس والتجمع، لأسباب تاريخية ممتدة لأكثر من مائة وخمسين سنة، ويمكن رصد ملامحها القوية منذ ثورة أحمد عرابى ضد الخديو توفيق، وإلى الآن.. فالمصالح الآنية المباشرة تختلط دومًا بالمصالح العامة البعيدة، وهذا الاختلاط وسع من دائرة الانتهازية السياسية، وهى الانتهازية التى استغلتها السلطة من حكم محمد على إلى حكم حسنى مبارك، وأخضعت هذه النخبة فى مجملها لسلطانها، وجاءت الفرصة الآن على طبق من ذهب، فمصر فى حالة سيولة، ويمكن أن تتشكل فيها أوضاع وامتيازات جديدة، تحت قناع ثورى أشبه بالقناع الذى تخفت وراءه أيام عبدالناصر وقادت البلاد فى عكس طريق الديمقراطية. وهنا يأخذ الصراع السياسى بين التيارات والقوى الموجودة على الساحة شكل خناقة أو اشتباك محتدم على تحويل الامتيازات ونقلها من البطانة القديمة «سياسية واقتصادية وثقافية» إلى بطانة جديدة، وأن تتم عملية النقل بسلاسة وخفة عن طريق صندوق الانتخابات، مستغلين حالة الارتباك العقلى والنفسى التى تضرب المصريين حاليًا بقوة، خاصة فى الطبقات الفقيرة والمهمشة والأقل تعليمًا ووعيًا، وهى تمثل أغلبية فى مصر. ولهذا لم يقدم تيار أو جماعة أو قوى مشروعًا متكاملاً لنهضة مصر وانتشالها من التخلف إلى التحضر، وبناء دولة قوية ديمقراطية بالمعايير التى صنعت العالم المتقدم فى العصر الحديث، على غرار ما حدث فى أوروبا أو جنوب شرق آسيا، فانحصر الصراع فى توقيت الدستور وإجراء الانتخابات ونزاهتها فقط. ثانيًا: دور القوات المسلحة فى النظام الجديد، وهو دور لم يتحدد بعد فى ظل هذه السيولة، فالمؤسسة العسكرية سواء قبل ثورة يوليو أو بعدها كانت لها مكانة واضحة ودور مسنود إليها فى حماية النظام والدستور، وامتيازات تحظى بها، لكن فى النظام الجديد - الذى لم يولد بعد - أو على وجه الدقة فى هذه المرحلة الانتقالية مازالت هذه الجوانب الثلاثة غامضة إلى حد ما، وخاصة فيما يتعلق بالامتيازات ودوام الدور القديم نفسه، أو تطويره وإدخال تعديلات عليه تضمن «نوع الدولة والحفاظ على كيانها مستقرّا متماسكًا غير مهدد من داخله»، وغموض هاتين المسألتين إلى الآن أو عدم طرحهما لحوار مجتمعى واسع للبت فيهما، منعكس على علاقات المجلس العسكرى بكل التيارات والقوى السياسية والاجتماعية فى المجتمع، فيبدو المجلس أحيانًا كما لو أنه يترك للزمن أن يسوى مشكلات مثارة تبحث عن حل. صحيح أن المجلس العسكرى قد لا تستهويه فكرة الاحتفاظ بالسلطة، مفضلاً «مدنية» الدولة، وهى مدنية ضد العسكرة والتديين أيضًا، لكن فى الوقت نفسه لا يريد ترك السلطة «ومكانة الجيش ودوره وامتيازاته» معلقة على مستقبل غير محدد اتجاهات من ستؤول إليه هذه السلطة. وكان طبيعيّا أن تستغل البلطجة هذا «الوضع» المضطرب وتحاول هى أن تحكم الشارع لأطول فترة متاحة. وهدوء مصر مرتبط بتوافق النخبة وترشيد صراعها نحو هدف أكثر قيمة من «تقسيم» التركة وتحديد دور القوات المسلحة وليس قبلهما.