د. هشام عبدالحكم يكتب: خد وهات.. لتبسيط المفاهيم الصحية    «ترانس جاس» تنفي شائعة تسرب الغاز بكفر الشيخ    مأساة إنسانية.. طبيبة فلسطينية تفقد أبناءها التسعة في قصف إسرائيلي    نبيلة مكرم عن علاقتها بشيخ الأزهر: بحبه وما بقلهوش غير يا أبويا وما أستحملش كلمة فيه (فيديو)    ميلاد جديد ل«تاريخ لا يغيب».. العالم يترقب «سيمفونية الخلود» على أرض الأهرامات    الصحة: إنقاذ شاب تعرض لكسور متعددة بالجسم في مستشفى 15 مايو النموذجي    حريق محدود بورشة رخام في جهينة دون إصابات    تعاون شبابي عربي لتعزيز الديمقراطية برعاية "المصري الديمقراطي"    هزة أرضية بقوة 3 ريختر تضرب جزيرة كريت في اليونان    "تاس": طائرة تقل 270 جندياً روسياً أُعيدوا من الأسر الأوكراني هبطت فى موسكو    نبيلة مكرم عن أزمة ابنها: قررت اتشعبط في ربنا.. وابتلاء رامي كشف لي أنا جيت الدنيا ليه    «مش شبه الأهلي».. رئيس وادي دجلة يكشف رأيه في إمام عاشور    نجاح مركز طب وجراحة العيون بكفر الشيخ في إجراء جراحة دقيقة لزراعة طبقية قرنية    رابط نتيجة الصف الأول الثانوي الأزهري الترم الثاني 2025.. رابط مباشر وخطوات الاستعلام    رابط نتيجة الصف الأول الابتدائي بالقاهرة 2025 وخطوات الاستعلام عبر بوابة التعليم الأساسي    حملات أمنية لردع الخارجين عن القانون في العبور| صور    اليوم| أولى جلسات محاكمة «القنصل» أكبر مزور شهادات جامعية و16 آخرين    أسماء المقبولين بمسابقة 30 ألف معلم.. تعليم الشرقية تعلن النتائج    حرب شائعات.. المستشار الإعلامي لمجلس الوزراء ينفي معلومات مغلوطة بشأن تصدير المانجو    ضبط 2.5 طن أعلاف مخلوطة بالقمح المحلي في التل الكبير بالإسماعيلية    نشرة التوك شو| الاتحاد الأوروبي يدعم مصر ماليا بسبب اللاجئين.. والضرائب تفتح "صفحة جديدة" مع الممولين    خبيرة أسرية: البيت بلا حب يشبه "بيت مظلم" بلا روح    هل يجوز الحج عن الوالد المتوفي.. دار الإفتاء توضح    ترامب يهدد الاتحاد الأوروبي بفرض رسوم جمركية بنسبة 50%    اليوم.. نظر دعوى الفنانة انتصار لزيادة نفقة أبنائها    بن شريفة: بنتايج من أفضل لاعب في مركزه.. ومصدق مستقبل الدفاع المغربي    حلمي طولان: تراجعنا عن تعيين البدري مدربًا للمنتخب لهذا السبب    طائرات الاحتلال الإسرائيلي تستهدف خيمة تؤوي نازحين في منطقة الصفطاوي بمدينة غزة    واشنطن ترفع العقوبات عن موانئ اللاذقية وطرطوس والبنوك السورية    الضرائب: أي موظف يستطيع معرفة مفردات المرتب بالرقم القومي عبر المنظومة الإلكترونية    استشارية أسرية: الحب مجرد تفاعل هرموني لا يصمد أمام ضغوط الحياة    ننشر أسماء المقبولين في وظيفة «معلم مساعد» بالمنوفية| صور    سعر الذهب اليوم السبت 24 مايو محليا وعالميا بعد الارتفاع.. بكام عيار 21 الآن؟    سعر الدولار أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية السبت 24 مايو 2025    سعر طن الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم السبت 24 مايو 2025    ترامب والشرق الأوسط.. خطط مخفية أم وعود حقيقية؟!    الأرصاد الجوية: طقس الغد شديد الحرارة نهارا والعظمى بالقاهرة 37 درجة    مصر تعيد 71 مواطنا مصريًا من ليبيا    وفاة 3 شباب إثر حادث سير أليم بكفر الشيخ    باختصار.. أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. جوتيريش يرفض أى خطة لا تحترم القانون الدولى بشأن قطاع غزة.. ترامب يتوعد "أبل" ب25% رسوم جمركية.. وإصابة 12 فى هجوم بسكين بمحطة قطارات هامبورج بألمانيا    وزير الزراعة: صادرات مصر الزراعية إلى السعودية تتجاوز 12% من إجمالي صادراتها للعالم    أسماء المقبولين في مسابقة 30 ألف معلم الدفعة الثالثة بالشرقية (مستند)    بالأسماء.. «تعليم الإسكندرية» تعلن قائمة المقبولين بمسابقة ال30 ألف معلم    إسقاط كومو لا يكفي.. إنتر ميلان يخسر لقب الدوري الإيطالي بفارق نقطة    عمرو أديب: الناس بتقول فيه حاجة مهمة هتحصل في البلد اليومين الجايين (فيديو)    بعد وفاة زوجها.. كارول سماحة لابنتها: هكون ليكي الأمان والسند والحضن لآخر لحظة من عمري    "الثقافة" تصدر "قراءات في النقد الأدبي" للدكتور جابر عصفور    "الظروف القهرية يعلم بها القاصي والداني".. بيراميدز يوضح تفاصيل شكواه للمحكمة الرياضية بشأن انسحاب الأهلي أمام الزمالك    يوريشتش يستقر على تشكيل بيراميدز أمام صن داونز.. يجهز القوة الضاربة    صلاح سليمان: مباراة بتروجت مهمة للزمالك لاستعادة الانتصارات قبل نهائى الكأس    تعرف على نتائج المصريين فى اليوم الثانى لبطولة بالم هيلز المفتوحة للإسكواش    نصائح لتجنب الارتجاع المريئي، و7 أطعمة تساعد على تخفيف أعراضه    أخبار × 24 ساعة.. حصاد 3.1 مليون فدان قمح وتوريد أكثر من 3.2 مليون طن    وفقا للحسابات الفلكية.. موعد وقفة عرفات وأول أيام عيد الأضحى 2025    ما حكم الكلام فى الهاتف المحمول أثناء الطواف؟.. شوقى علام يجيب    هل يحرم على المُضحّي قصّ شعره وأظافره في العشر الأوائل؟.. أمين الفتوى يوضح    خطيب المسجد النبوى يوجه رسالة مؤثرة لحجاج بيت الله    بحضور انتصار السيسي، "القومي لذوي الهمم" ينظم احتفالية "معًا نقدر"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"المسك المغشوش" قصة قصيرة لمحمد فهيم
نشر في اليوم السابع يوم 19 - 07 - 2011

ألقى الشيخ درسه بعد صلاة العشاء، سادت حالة من السكون بين الجالسين، بعدما قطع الشيخ حديثه وسكت لبعض الوقت، ووضع كفيه على الحائط، ثم حركهما بشكل دائرى من اليسارإلى اليمين، حتى سقطت بضع ذرات من التراب على جلبابة الأبيض، لم يعبأ بها، وأطبق جفنيه فالتقى رمشاه بعد جفاء دونما عناق، حتى بان لى بياض عينيه الناصع وسوادهما القاتم من بين شعيراتهما، فتح عينيه ورفع حاجبيه إلى أعلى، فرأيت فيهما سعة البحر وغضبه، وكأن موجا هادرا يقبل من بعيد.
خفت أن أغوص فيه، فرددت عيناى عنه بسرعة، لم يقطع خوفى سوى كلمات تمتم الشيخ بها، دون أن يحرك شفتيه، اعتقدت أن شخصا آخر هو الذى يتحدث، انتفض جسدى من فوق الأرض بعدما طرق الشيخ الحائط بعنف، فسقطت قطعة من ملاطه الطينى فوق فخذيه، وضع كفيه فوق الأخرى تشابكت أصابعه، رفعها إلى شفتيه، نفخ فيهما وتمتم بكلمات جديدة ،حرك فيها شفتيه، شم يده اليمنى فاحت رائحة مسك لم أشمه يوما ما، ثم نطق قائلا: ما أجمل هذا العطر الفواح!
هلل الجالسون الله عليك ياشيخ سعيد.. الله يا شيخ الله الله.. والتحموا ككتلة واحدة ألقت بنفسها فوقه، كى يشتموا عطره ويقبلوا يده، حتى سقطتُ تحت أرجلهم، فأشار بيده وكأنه يصنع حولى دائرة، فوجدتهم يتساقطون بعيدا عنى، زاد خوفى واشتدت حيرتى، قرأ الخوف بين جبينى، فتبسم لى ضاحكا، شعرت حينها بشىء من الأمان، وذبت فى نشوة العطرالذى لم أسمع عنه إلا عند وصف الجنة، أو الكعبة الشريفة، نظرت إليه نظرة جاهل يطلب المعرفة، وسائل ينتظر الجواب، ورغبة فى معرفة الحقيقة، فرد نظرتى بنظرة العالم الواثق، وأومأ برأسه ففهمت المعنى، وارتاحت نفسى بعض الشىء، وأخذت نفسا عميقا من العطر، فنسيت نفسى والشيخ سعيد ولغط الحاضرين.
أوشك عقد الليل أن ينفرط، ولاح فى الأفق شعاع من النور، ظهر خلف الشباك الحديدى المكسو بالبلاستيك، كى يمنع برد الشتاء، أيقن الجميع اقتراب الفجر، زادت أصوات التثاؤب، واشتدت رغبة النوم عند الجميع، ولم يمنعها غير نوادر الشيخ التى لا تنتهى، وقفشاته التى لا تخلو من الحكمة دائما.
قرر الشيخ أن تنتهى الليلة عند هذا القدر، بعدما تسربل الجمع من بين يديه، مع سماع قرآن الفجر واقتراب رفع الآذان، وكأن عقارب لدغتهم، فناموا كالأموات بين يديه، يتخطفون غطاء الصوف من شدة البرد.
أما أنا وما رأيت وسمعت فى ليلتى، فكان أكبر من أن يقهره النوم، الذى ولى ولم يداعب جفونى، حتى سبحت أشعة الشمس فى المكان، فاخترقت جدار نومى الرقيق، وها هى قدم تركلنى! إنه الشيخ سعيد، يبدو أن الأمر جد خطير، فالركلة ليست عادية، استيقظت واقفا، مسحت وجهى بكلتا يدى، أنفض عنهما أثار النوم الذى لم يكتمل، رأيت الجميع مجرد خيالات، ودوار رأسى كاد يسقطنى على الأرض، أخذت نفسا عميقا، مازال العطر فى يدى يذكى أنفى ويملأ المكان، فأخذت نفسا أعمق، حتى أفقت وانتشلتنى قدماى من الهبوط، وجدت الكل واقفا والوجوم يسود المكان، وكأن طبول الحرب قد أعلنت عن قدوم العدو، نادى الشيخ علىّ، تيقنت أن هناك أمٌر جلل، بدأ يتفحص الوجوه، وكأنه يقرأ خفاياها، ويتمتم كعادته بكلماته غيرالمفهومة، اضطربت بعض الشىء، ثم ارتجف جسدى، وتبادلت ركبتاى اللكمات، عندما اقترب منى فبحلق بعمق داخل عيناى، كدت أن أسقط بين يديه مغشيا علىّ، قال لى: كيف تجرؤ؟ قلت له على ماذا؟ أنا لم أفعل شيئا يغضبك، وكيف أجرؤ على ذلك؟ وهذه أول ليلة لى فى حضرتك، قال لى: أنت لص سارق، سرقت ثلاثة جنيهات من سيالة شيخك وهو نائم، قلت: لا لم أفعل؟ قال: المية تكدب الغطاس أخرج ما فى جيبك، ترددت بعض الشىء وزاد خوفى مما سيحدث، وبدأ الشك يسلب منى الأمان، تحسست جيبى بيدى اليسرى، زادت دهشتى، فوضعت اليمنى داخل الجيب، أخرجتها بسرعة بعدما وجدت النقود، وأنا لا أعرف كيف وصلت لجيبى ومن وضعها، تصبب العرق من وجهى حتى غسله، وسقط شعرى المنكوش مع تساقط العرق، فوضع الشيخ يده فى جيبى وأخرج منها الجنيهات الثلاثة، صرخت مذعورا: لم أسرق شيئا! لا أعرف ما حدث! فألقى بهم على الأرض، وكانت الصاعقة لقد تحولت النقود إلى أفاعى تجرى وسط الجمع، أمرهم الشيخ أن يثبتوا، لكنهم فروا من المكان، كما فعلت الثعابين التى اختفت فى لمح البصر، إلى أين؟ وكيف؟ لا أدرى وما عدت أرى لها وللنقود أثرا.
ضحك الشيخ بصوت عال، ودعانى لجواره، وضع يديه فوق كتفى، غاض بأصابعه فى لحمى، عصر رأسى، وتمتم بكلمات لم أفهم منها شيئا كالعادة، أيقنت أن الأمر مر بسلام، وبدأ الجمع يعود فقال لهم الشيخ سعيد: هذه إحدى الكرامات والعلامات التى لا تتأتى إلا للقليلين أمثالى، قالوا: لقد أفزعتنا ياشيخ ونحن جوعى ونريد الطعام، وانطلق شخص سمين يقول: يا مولانا نريد لحما وفتة ومرقا، وقال آخر نريد سجائر ودخان، قال الشيخ: ادعوا معى، وقولوا: يا عزيز ارزقنا بالأكل اللذيذ- يا رؤوف ارزقنا بالرز والخروف، فدعوا بصوت سمعه سكان القرية بأكملها، ودعوت معهم بصوت مهزوز، وزادت حيرتى وغربتى، وشعرت أنى أحيا حياة غير التى عشتها من قبل، وقلت لنفسى هل تركت الأرض وطرت إلى السماء، وبينما أنا أهذى، إذا بسيدة تدخل، وتحمل فوق رأسها صينية كبيرة فوقها خروف محمر، وتقول: هذا نذر يا سيدنا، ادعى لبنتى ربنا يكمل حملها على خير.
هجم الجائعون على الخروف، نهرهم الشيخ، أكلنا قطعة ملبسة من اللحم والدهن معا، والكل ينظر إليه وينتظرأمر الهجوم، نظر إلىّ أن أقبل، جلست إلى جواره أطعمنى بيده، قال لى ُكل ما يسقط منى فهو شفاء لك من أدران دنياك فى الخارج، اغتاظ الجميع من ذلك الصبى المدلل عند الشيخ، والذى يبدو أنه قد حاز على حبه، وسيكون له شأنا معه، انتهى الشيخ وانتهيت معه، وكأنى لم آكل فى حياتى من قبل، طعم آخر كالمسك الذى مازال فى يدى، شعرت بسعادة غريبة، مازلت أشعربها حتى اليوم، بعد أن منحنى الشيخ عهده، ومن على بخلافته، بعدما فارق الدنيا، وفارقت قلبى الفرحة من بعده، ولم يخفف عنى آلامى سوى قدومه فوق رأسى كل ليلة فى المنام، يذكرنى بالعهد، وأسأله فيجيبنى، وأنفذ أمره دون أن أناقش أو أفهم، كما كان يفعل معى فى الدنيا، وما زال مسك أول ليلة رأيته فيها بين يدى، أشمه ويشمه منى كل مريدينى، ولكن هذه الليلة ليست كليالى خمسين عاما مضت، فقد أتانى شيخى ليس بهيئته، ولا طلته ولا عادته، وقال لى "عد للوراء خمسين عاما وابدأ من جديد"، لم أفهم معنى ما يقوله الشيخ لأول مرة، استيقظت والصداع يكاد يشق رأسى، فركت عيناى بكلتا يدىّ، مسحت وجهى بكفى كى أزيل عنه آثار النوم، شيىء غريب لقد زالت من يدى رائحة المسك لم أعد أشمها، أدركت أن مفعوله قد انتهى إلى الأبد، وصار كالمسك المغشوش يطير فى الهواء، وهكذا سقط عنى تاجى، ففهمت الرسالة، وعلمت أن عهد الشيخ لى قد ولى، والولاية قد انتزعت منى، فنفذت أمر الشيخ للمرة الأخيرة، وتركت حياتى وعدت إلى حياة الناس، وبدأت من جديد، وأيقنت أننا فى وسط الطريق لابد أن ننظر خلفنا، فقد نجد أشياء قد سقطت منا دون أن ندرى، ونحتاج إلى التقاطها كى نكمل المسير، وأيقنت أننا فى وسط الطريق نحتاج إلى مراجعة الخرائط كى نصل لبر الأمان، وأيقنت أننا فى وسط الطريق نحتاج بعض الوقت لمراجعة النفس والتقاط الأنفاس.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.