حكم محكمة التمييز التركية بعدم حظر حزب العدالة والتنمية، لاشك أنه جاء فى منتصف المسافة بين حسابات النصر والهزيمة لكافة القوى السياسية التركية، على الرغم من رهان كل تلك القوى بما فيها الحزب الحاكم محل الاتهام، بأن حزب العدالة والتنمية سيشهد مصير سلفيه حزبى الرفاة والفضيلة، اللذين حظرا على التوالى فى تسعينيات القرن الماضى، بعد تكريسهما لنموذج الإسلام السياسى فى تركيا على يد نجم الدين أربكان، لكن جاء الحكم مخالفاً لتوقعات الجميع بعدم حظر الحزب والاكتفاء بتوقيع غرامة مالية وتقليص دعم الدولة له إلى النصف، مع التحذير المباشر بأن الحزب بات بين يدى أجهزة مؤسسات الدولة الحامية للعلمانية، وهو ما اعتبر بالإجماع أخف حكم يمكن أن تصدره المحكمة بحق حزب، طالما صوبت نحوه اتهامات بالمساس بالمبادىء العلمانية التى صاغها دستور الدولة الأتاتوركية التى تأسست عام 1923. خلفية الاتهامات التى وجهتها المحكمة إلى حزب العدالة والتنمية، كانت موجهة بشكل مباشر إلى شخصية رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، كونه حاول مراراً وتكراراً تمرير قانون يسمح بارتداء الحجاب لفتيات الجامعات، وهو ما اعتبرته الطبقة السياسية اليمنية والقومية ومعهما جنرالات الجيش ردة عن أسس علمانية الدولة، ومن ثم تهديداً لأمنها القومى، جاءت عبر رجل ينعوتونه ب"ميكافيلى الجديد" لتحقيق ما يصبو إليه من أهداف، ولا يبالون بأصداء ترنيماتيه حول احترام ذلك الدستور أو تلك الأسس التى بنى عليها، فهو الذى قضى خلف أسوار السجون 4 شهور بعد أن ألقى على مسماع جمهور من عامة مدينة اسنطبول، التى كان عمدتها منتصف التسعينيات، شعراً إسلامياً، شهور وإن كانت قليلة إلا أنها فرضت عليه حرماناً من ممارسة العمل السياسى لسنوات طويلة، لولا أن تم تعديل الدستور ليسمح له بمزوالة العمل السياسى من جديد. فهم الجميع تركيبة الدولة التركية كدولة مركبة، يقف وراء بنيتها المؤسسية شبكة قوية قادرة على حماية الصبغة العلمانية للدولة، من جنرالات وناشطين وقوميين وأحزاب علمانية قويه وطبقة سياسية ممتدة على كافة المستويات، يمكن أن تقف بالمرصاد ضد أى محاولات للانقلاب على دستور الدولة.. الموقف الذى يراهن عليه الجميع فى تركيا الآن ليس فى المفاجأة التى خلفها حكم المحكمة، ولكن ماذا عن المستقبل، وما تداعيات هذا الحكم؟ وهل ستسير الأمور إلى مبارة مقبلة فى سباق شرس بين العلمانية والإسلام السياسى، لا تحقق نصراً لفريق على حساب الآخر وهزيمة لفريق تسبب له انتكاسه؟ كل معطيات الموقف فى تركيا الآن تقود إلى أن مصير مثل هذه التساؤلات وغيرها، ربما لن تكون ذات موقع من الإعراب فى جملة الشارع السياسى بعلمانييه وبإسلامييه، بعسكره وبقومييه، فالكل أضحى يفكر فى مستقبل الدولة التركية، بعدما بات الجميع موضع اتهام، فالنسبة للحزب لم ينف الحكم اتهامات الانقلاب على النظام الدستورى، بل ثبته بلا جدال، حتى وإن لم تقُد تلك المعطيات إلى تحقيق المعادلة المتوقعة سلفا بإقصاء الحزب من الحياة السياسية جملة وتفصيلا، وكذلك فريق المعارضة فهم جيداً أن ساحته لم تبرأ كلية على ملفات أخرى منها الانقلاب على الحكومة القائمة، فشخصية مثل دينز بسكال زعيم المعارضة، الذى اعتبر أن الحكم خلق أزمة سياسية فى البلاد ولم يدرأ الخلاف مع الحكومة التى تسعى إلى "أسلمة تركيا - على حد تعبيره - بينما عمق جذور هذا الخلاف وأعطى فرصة جديدة للعدالة والتنمية". لكن من المؤكد أن باسكال نفسه كان يعرف أنه محل اتهام رصدته أجهزة الاستخبارات التركية، حتى وإن لم تؤكده أو تنفيه، لكنها اعتقلت كثيرين وجهت لهم هذه التهمة قبيل أسابيع من نطق قاضى محكمة التمييز عبد الرحمن يلتشن قايا بالحكم. ولكن هل فى مواقف الأطراف ما يبعث على أمل الانقلاب على هذه الأزمة السياسية للدولة الطامحة إلى التوجة الأوروبى؟ المشروع الوطنى الذى تتحد عليه رؤى المتهمين بأسلمة الدولة قبل تيار المعارضة الجامح. مواقف الأطراف السياسية المختلفة فى المشهد التركى، يفضى إلى أربع ملاحظات أساسية: أولاًً: حزب العدالة والتنمية ليس امتدادا لنموذج حزبى الفضيلة والرفاة، فهو أكثر اعتدلاً منهما، شاهد ذلك رفض أردوغان الانضمام إلى حزب الرفاة وتأسيسه لحزب العدالة والتنمية، رغم أن نجم الدين أربكان معلمه الأول هو مؤسس الحزب، وبالتالى أصبحت هناك تراكمات خبراتية وفروق فردية وشخصية لفريق تيار الاعتدال الذى يتزعمه أردوغان من ناحية، ومن ناحية أخرى هذه الفروق بلا شك ستظل علامة على طريق المستقبل، الذى لا يزال أردوغان يرسمه لنفسه، وهو بلا شك طريق لمصلحة تركيا، فلا يمكن التطرق إلى الجانب الدينى فى شخصيتة أردوغان وإهمال الجانب العملى، فواقعياً هو صاحب برنامج اقتصادى واعد بدرجة امتياز بشهادة الجميع، ومقرب من تحالف رجال الأعمال، ومشهود له بنظافة اليد فى الحكم فى زمن كانت فيه المحاكم التركية تعج بقضايا فساد أركان النظام، وكذلك لديه أجندة واضحة المعالم والتفاصيل تجاه التوجه نحو الاتحاد الأوروبى، جعلته فى يوم من الأيام يوافق على إلغاء قانون يحرم الزنا فى مبادرة كبيرة لتسهيل انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبى، وما قوله تعقيباً على الحكم ببعيد فقد أعلن أنه سيمد يده للتيار العلمانى وأولويته الراهنة هى إعادة الاستقرار والمصالحة الوطنية إلى تركيا التى انقسمت على نفسها. ثانياً: رفض المحكمة لطلب المدعى العام بمنع 71 من أعضاء الحزب، من بينهم رئيس الدولة عبد الله جل، وإن جاء بفارق صوت واحد 7-6 بعدم حظر الحزب إشارة قوية إلى أنه لن يتم حظر أى سياسى من ممارسة الأنشطة السياسية الحزبية دلالة واضحة على مبدأ ديمقراطى، هو التكريس لشرعية حكومة وصلت إلى سدة الحكم عبر انتخابات حقيقة ومعبرة عن رؤية الشارع الذى جاء بها عبر صناديق الانتخاب. ثالثاً: وضع الحكم حداً لحالة عدم اليقين السياسى التى سادت تركيا لشهور، منذ مجىء العدالة التنمية لحكم البلاد، بأن لدى هذا الحزب النخبوى أجندة للانقلاب على دستور الدولة وفق ما أسماه البعض وقتئذ ب "الجمهورية الثانية" فى تركيا. رابعاً: لا شك أن الحكم سيعيد قراءة أردوغان وفريقه لخريطة العمل السياسى، وفق مبدأ الحوار مع مناهضيهم وهو ما سيرسم انعكاسات أكثر إيجابيه فى مستقبل تركيا.