كان شرط المستورد على الشركة اليابانية ألا تزيد نسبة التالف أو المعطوب من الأجهزة المستوردة عن2%.. فلم تستطع تلك الشركة الوفاء بهذا الشرط (التعجيزى) إلا بالإتلاف المتعمد لبعض تلك الأجهزة.. حيث إن جودة إنتاج تلك الشركة ونسبة صلاحية منتجاتها لا تقل عن 100%، فظن القائمون عليها أن المستورد يريد أجهزة تالفة أو معطوبة، كشرط فى العقد، فاضطروا إلى هذا الإتلاف المتعمد.. القصة ليست خيالية، بل هى مقال قرأته لأحد كبار الكتاب المحترمين منذ سنين.. بيد أنه عالق فى ذهنى وكأنما قرأته منذ يوم أوبعض يوم.. هذه الأمة اليابانية وغيرها من أمم أوروبا التى اخترعت وأبدعت وأتقنت ليس لديهم قنوات دينية ولا علماء ومشايخ لا ينفكون عن عظة الناس ليل نهار يحثونهم على الأمانة ومراعاة الضمير والإخلاص فى العمل.. ورغم ذلك نراهم بهذه الجدية وبهذا الإتقان وبهذه الروح.. فما بال قومى لا يهتدون هذا السبيل؟ فديننا الحنيف لم يدع إلى العمل فحسب بل دعا وحض على إتقان سواء كان ذلك الأمر متعلقا بالشعائر والعبادات أوما يمارسه الإنسان من عمل يقتات منه قال تعالى ( تبارك الذى بيده الملك وهو على كل شىء قدير الذى خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور) لم يقل سبحانه (أكثر عملا) بل الأفضلية هنا للإتقان والإحسان.. وأحسب أن لا انفصام بين حركات الصلاة والتسبيح وبين حركات العامل فى مصنعه والفلاح فى حقله والطبيب فى مشفاه.. بل والمعلم فى حصة التربية الرياضية الذى يدرب تلاميذه على التمرينات والتدريبات التى تقوى أبدانهم وتشحذ هممهم.. فكل ذلك عبادة يجب إتقانها.. وكيف لا يكون ذلك حقا وقد قال الرسول الأكرم: إذا قامت القيامة وفى يد أحدكم فسيلة واستطاع أن يغرسها فليغرسها فله بها أجر..! وها هو فيلسوف اليونان الكبير أفلاطون يتوجه إلينا بالنصح قائلا: لا تطلب سرعة العمل بل أطلب تجويده لأن الناس لا يسألونك فى كم فرغت منه بل ينظرون إلى إتقانه وجودة صنعه. فلا طائل ولا جدوى من عمل يؤدى بلا إتقان بل ربما أدى إلى عواقب ومآسى تفوق تركه دون أداء.. لينطبق عليه قول أمير الشعراء: وأخف من بعض الدواء الداء..! أعيانى التفكير فى سبب ما نحن فيه من مشاكل وتخبط وأزمات حتى اهتديت إلى أن حل كل ذلك يكمن فى كلمة واحدة هى (الإتقان).. أن يتقن كل منا ما يؤدى من عمل يسند إليه.. ويحار عقلى ولا ينطلق لسانى عندما أجدنا نكرر صباح مساء الحديث الشريف (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه) بينما على صعيد الواقع نجد نقيض ذلك فهناك أناس تعرضوا لمحن وخطوب كانت نتيجة إهمال طبيب أو تقاعس مسئول أو تقصير موظف ربما لا يترك صلاة ولا صياما ولا عمرة إلا أداها ويحسب أنه من المهتدين.. ألم يعلم هؤلاء المتعبدون أن من لطائف الفقه الإسلامى أن من السنة ترك السنة أحيانا.. بمعنى أن السنة تفرض على الموظف أن يترك صلاة السنة ليقضى مصالح الناس أولا.. وهل علم هؤلاء القوم أنه قد ورد فى الصحاح أن الرسول الأكرم قد جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء فى غير خوف ولا مطر.. أقول هذا مع إقرارى ودعوتى لكل مسلم بالحفاظ على أداء الصلاة فى وقتها.. ولكننى فى الوقت نفسه أتوجه بهذا الخطاب لهؤلاء القائمين على مصالح العباد تاركين الرجال والنساء فى الطوابير تحت شمس حارقة أو مطر صاعق.. ويعلم الله أن من بين هؤلاء القوم من أتى من أقصى الجنوب أو أقصى الشمال ولربما عاد إلى أهله دون إنهاء مصلحته لأن السيد الموظف عندما فرغ من صلاته وسنة الصلاة وختام الصلاة وذكر الأوراد بعد الصلاة لم يكن قد تبقى إلا القليل من الوقت الذى لم يسعفه لكى ينهى كل هذه المصالح الدنيوية الحقيرة والزائلة.. !ألم يصل إلى مسامع هولاء المتعبدين قول الرسول (لأن يمشى أحدكم فى حاجة أخيه وأشار بإصبعه أفضل من أن يعتكف فى مسجدى هذا شهرين)؟ إن إتقان العمل هو من جوهر هذا الدين الحنيف والله تعالى يقول (إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا) الكهف 30. فالعمل وحده لا يستحق الجزاء ما لم يكن حسنا ومتقنا.. ونحن حينما ننادى بالإتقان وندعو إليه فنحن لا ننادى باستيراده من الخارج أو ندعو إلى تقليد الغرب فى هذا الأمر لأن الإتقان بضاعتنا فى الأساس ولكن متى ترد إلينا بضاعتنا ونحفظ أوطاننا ونكون من المفلحين فى الدنيا والآخرة؟ يا ليت قومى يعلمون..!