بعينيه المحدقتين فى صفاء وعمق ونفاذ، وبجلسته الوديعة المطمئنة، وقد بسط على ركبتيه لفافة من ورق البردى، وبجسده العارى من الزينة وأوسمة المجد الزائل، ينظر إلى أمواج البشر وقد لاحت على شفتيه مسحة خفيفة من الذكاء والمرح والسخرية الحانية المكتومة، يخترق الجموع ببصيرته، ويقرأ ماء النهر ويؤوِّل حركة أمواجه فى الليل والنهار، ويستنبط منها حسابات التنبؤات والتحذيرات الخفية من علو الفيضان الكاسح أو قحط السنين العجاف. يشع كيانه بوهج البازلت الأسود أو حجر الصوان الرمادى إشعاع الصلابة الفياضة بالحنان والحكمة، وتنبعث من جلسته الحجرية معانى الرسوخ فى العلم والثقافة ومسئولية حمل أمانة الكلمة وطهارة القلب، يكاد صمته الواثق يكشف خطى الماضى ومعنى الحاضر وبشارات المستقبل المجهول. أخرجه الآثاريون من ظلام السراديب، ووضعوه فى مكان حسبوه يليق به أكثر من أى مكان آخر، على قاعدة عالية من الحجر أمام بوابة البناء الذى يعج بضجيج المطابع ولفائف الورق وجموع الموظفين الذين يتشبهون به ويدعون الانتساب لرسالته الخالدة، فهو ينصت طول النهار ويستعيد ما كان يحفظه من النصوص القديمة، يكاد قلبه الحجرى يتفتت بالحزن وهو يردد فى صمته ما كتبه "إيبوور" عن أزمنة الخراب والفوضى ومناظر الجوع والبؤس، ويجلجل فى مسمعيه الحجريين صوت الفلاح الفصيح وهو يفضح اللصوص ويعرى الزيف ويرثى العدل: "انظر.. إن الحقيقة والعدالة قد طردتا من مكانهما، واستقامة القول طرحت جانبا، والقضاة يسرقون، والمسئولين عن الأمن والأمان يروّعون الناس، والمسئول عن العدل لص ومرتكب للشر، والبلادُ معقودةٌ موحدةٌ تحت سيطرة عصابات اللصوص.. فاحذر حقيقة أن الحساب يقترب". وإذ يخترق بعينيه مشاهد المخاتلات وأفانين النفاق وتجارة الكلام، يتذكر بابتسامته الساخرة بعض الرسوم القديمة التى تتندر بصورة قطيع الأوز الذى يقوده ويحرسه السرحان "الذئب"، وترد إلى خاطره صور كل سرحان مخادع فاجر الخلق معدوم الضمير فى كل العصور، ثم يتذكر صورة لاعبى الشطرنج من الحمير والقرود، التى تدعى الذكاء وتلبس أقنعة الحكمة. فى غبشة الفجر، والمدينة نائمة، يترك مكانه فوق القاعدة الحجرية ويسرع إلى النهر المتحدِّر أمامه، وفى أحضان مائه يغسل ما تساقط على رأسه وكتفيه من ذرْق الطير ونفايات التراب والدخان، ويزيل من نبضاته الحجرية أوساخ ما علق به من ثرثرة المنافقين ولجاج الفارغين، ويغسل عينيه من رمل الكذب، حتى يتابع طول النهار تدفُّعَ أمواج النهر والبشر.