قبل بدء تنسيق المرحلة الأولى.. اعرف خطوات ترتيب الرغبات بموقع التنسيق    مستقبل وطن بالبحيرة يُنظم مؤتمراً جماهيرياً لدعم مرشحي الحزب بمجلس الشيوخ 2025    تنسيق الجامعات 2025.. ننشر الجامعات والمعاهد المعتمدة لطلاب الثانوية العامة    أسعار الأسماك والمأكولات البحرية في سوق العبور اليوم    سعر الذهب اليوم الجمعة 25 يوليو 2025 بعد آخر انخفاض محليًا وعالميًا    إزالة 196 حالة تعدٍ على أراضي أملاك الدولة بأسوان خلال 20 يومًا - صور    حفر 3 آبار لتوفير المياه لري الأراضي الزراعية بقرية مير الجديدة في أسيوط    مصر ترحب بإعلان الرئيس الفرنسي اعتزام بلاده الاعتراف بالدولة الفلسطينية    «القاهرة الإخبارية»: الوفد الإسرائيلي غادر بعد تلقيه رد حماس    «جروسي»: من الضروري إعادة العلاقات الطبيعية مع إيران    واشنطن تدعو إلى وقف فوري للاشتباكات بين تايلاند وكمبوديا    إصابة عضو بلدية الضهيرة بجنوب لبنان بإطلاق نار إسرائيلي    «ريبيرو» يعقد محاضرة للاعبين قبل لقاء البنزرتي    تقارير: الفتح يستهدف ضم مهاجم الهلال    عبد الحميد معالي ينضم لمعسكر الزمالك بعد وصوله للقاهرة    رفع 32 سيارة ودراجة نارية متهالكة خلال حملات بالمحافظات    مصرع طفل وإصابة 3 شباب في تصادم بالشرقية    يهدد سلامة المواطنين.. محافظ الجيزة يوجه بضبط «الإسكوتر الكهربائي»    الداخلية تنفي شائعات الاحتجاجات داخل مراكز الإصلاح والتأهيل    بعد أزمتها الصحية.. مي عز الدين تدعم أنغام بهذه الكلمات    «الألكسو» تعلن اليوم العربي للثقافة رمزا للوحدة والتكاتف بين الشعوب    بعض الليالي تترك أثرا.. إليسا تعلق على حفلها في موسم جدة 2025    بطابع شكسبير.. جميلة عوض بطلة فيلم والدها | خاص    عرض أفلام تسجيلية وندوة ثقافية بنادي سينما أوبرا دمنهور ضمن فعاليات تراثك ميراثك    حكم الصلاة خلف الإمام الذي يصلي جالسًا بسبب المرض؟.. الإفتاء تجيب    «إدارة الوقت مفتاح بناء الإنسان الناجح».. موضوع خطبة الجمعة اليوم    «التأمين الشامل» توقع عقد اتفاق تقديم خدمات مع كيانات طبية بالإسكندرية (تفاصيل)    ملحمة طبية.. إنقاذ شاب عشريني بعد حادث مروّع بالمنوفية (صور)    تقنية حديثة.. طفرة في تشخيص أمراض القلب خاصة عند الأطفال    300 جنيه للمادة....بدء أعمال تظلمات طلاب الثانوية العامة يوم الأحد المقبل    شاب ينهي حياة والده ضربا بعصا خشبية في المنيا    مصرع عنصر شديد الخطورة بعد تبادل نار في أسيوط    وزير الخارجية يسلم رسالة خطية من الرئيس السيسي إلى نظيره السنغالي    اسعار الحديد والاسمنت اليوم الجمعة 25 يوليو 2025    أسعار البيض اليوم الجمعة 25 يوليو 2025    لتنمية وعي الإنسان.. جامعة قناة السويس تنظم تدريبًا حول الذكاء العاطفي    رونالدو يصل معسكر النصر في النمسا    آية شقيقة مطرب المهرجانات مسلم: تزوج 3 مرات    الليلة.. الستاند أب كوميديان محمد حلمي وشلة الإسكندرانية في ضيافة منى الشاذلي    مواعيد مباريات الجمعة 25 يوليو - الأهلي ضد البنزرتي.. والسوبر الأردني    "نتائج قديمة".. جامعة قنا تنفي شائعة رسوب 71 % من طلاب كلية الطب    عالم أزهري يدعو الشباب لاغتنام خمس فرص في الحياة    إلكترونيا.. رابط التقديم لكلية الشرطة لهذا العام    في عمر ال76.. سيدة أسوانية تمحو أميتها وتقرأ القرآن لأول مرة (فيديو وصور)    مسئولو جهاز العاشر من رمضان يتفقدون تنفيذ مدرسة النيل الدولية وامتداد الموقف الإقليمي    «100 يوم صحة» تقدم 14 مليونا و556 ألف خدمة طبية مجانية خلال 9 أيام    نجم الزمالك السابق يوجه رسالة خاصة ل عبد الله السعيد    موجة حارة شديدة تتسبب بحرائق في تونس    شديد الحرارة والعظمى 44.. حالة الطقس في السعودية اليوم الجمعة    طريقة عمل بلح الشام، باحترافية شديدة وبأقل التكاليف    رسميا.. قائمة بالجامعات الأهلية والخاصة 2025 في مصر (الشروط والمصاريف ونظام التقسيط)    لا ترضى بسهولة وتجد دائمًا ما يزعجها.. 3 أبراج كثيرة الشكوى    بعد عمي تعبان.. فتوح يوضح حقيقة جديدة مثيرة للجدل "فرح أختي"    الآلاف يحيون الليلة الختامية لمولد أبي العباس المرسي بالإسكندرية.. فيديو    سعاد صالح: القوامة ليست تشريفًا أو سيطرة وإذلال ويمكن أن تنتقل للمرأة    وسيط كولومبوس كرو ل في الجول: صفقة أبو علي تمت 100%.. وهذه حقيقة عرض الأخدود    تفاصيل صفقة الصواريخ التي أعلنت أمريكا عن بيعها المحتمل لمصر    دعاء يوم الجمعة.. كلمات مستجابة تفتح لك أبواب الرحمة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"قال كلمته".. حكاية أغنية تفتح قبور الشهداء
نشر في اليوم السابع يوم 07 - 05 - 2010

دقائق قبل آذان الفجر.. أُرخِى جفنَى مرتاحاً.. أخيراً فعلْتُها.. تحقق الحلم الذى بدا فى وقت ما مستحيلاً، وانتهيت من مونتاج أول أغنية تحيى ذكرى المئات من شهداء الصحافة.. أصُفّ السيارة فى الشارع الضيق.. ألقى التحية من النافذة على جامع القمامة، فيردها بحماس لافتٍ.. ألملم الأشرطة وأسطوانات الدى فى دى المبعثرة بجوارى.. أضعها بعناية فى الحقيبة، وأحكِم غلقها، ثم.. يتسمر كفى على مقبض الباب، وأنا أشرد فجأة متأملاً فى مخلفات التكالب النهارى، فى ذلك الشارع من شوارع مصر الفرعية.
من نافذة السيارة تبدو الحياة وديعة.. يخلو الشارع إلا من جامع القمامة، وصبى يقف على أطراف أصابعه ويدس رأسه الأشعث فى صندوق القمامة الضخم باحثاً عن عَشاء، وسيدة بدينة تبسط الصحف على الناصية استعداداً لبيعها، ورجل مسن يستلقى على عتبة أحد المحلات المغلقة ملتحفاً ببقايا صندوق ورقى.. هذه هى مصر التى تنام الحكومة مبكراً كى لا تراها.. يمارس كل من هؤلاء حياته البائسة فى صمت، وكأن استسلامه احتجاج، وأنفاسه المتراخية صيحات غضب مكتوم.
تأملات مجروحة لا ينبغى أن تفسد فرحتى.. ففى حقيبتى أغنية سيحفظها التاريخ إذا كتبه الأوفياء.. أغنية تروى سيرة نبلاء المهنة، الذين استشهدوا على بلاطها مرفوعى الرأس، وهم يحاربون من أجل هؤلاء المسحوقين.. خرجت كلمات الأغنية من قلبى فى لحظة لا أتذكرها، لكنها أعقبت اغتيال طارق أيوب، مراسل الجزيرة فى العراق عام 2003، ثم اختفاء رضا هلال الصحفى بالأهرام بعد أشهر قليلة.. ومقتل مازن دعنا، مصور وكالة رويترز فى العراق فى العام التالى.. زلزلنى غياب الزملاء الثلاثة فى وقت كانت قلوبنا هشة ومشاعرنا طرية بعد سقوط بغداد.. عرفتهم عن قرب، وأشعرنى رحيلهم بأنهم افتدونى أنا وكل من كُتِب عليه أن يعمل فى الميدان.. الكلمات انسابت على السطور بعفوية، وتهيأت فى ثوب قصيدة دونما قصد.. ثم بقيَت مطوية فى أوراقى لسنوات.. كنت أراجعها كلما تجددت أحزانى على الرفاق الغائبين، فلكل منهم مقام فى الوجدان يرقى كلما تدهور الحال بالمهنة والبلد، وكلما أفرطت أقلام فى اندفاعها، وفرّطت فى نزاهتها، وبالغت فى نفاقها وتزلفها.. طيف الشهداء الثلاثة يحل دوماً كلما ندرت العفة، وشحت الأخلاق، وعَزّت المواقف.. يأتى ذكرهم تندراً بزمن ولّى، قبل أن يسود الأنصاف والأشباه والأقزام، ويغرز النظام أصابعه فى أحشاء صاحبة الجلالة، ويحصى رموزها ورموز الوطن.
فى عام ألفين وسبعة خطر ببالى فجأة أن أحوّل الكلمات إلى أغنية، آملاً فى لفت الأنظار إلى هذا المشهد المقبض، والتذكير بنقيضه الذى دفن للأبد مع أبطالنا الثلاثة.. وعلم زميل حديث لى فى الأهرام بتلك الرغبة، فالتمعت فى رأسه فكرة.. كان صديقه الملحن الشاب يئن بسبب خلافاته مع الصحفيين، وكان الهجوم عليه طقساً يومياً فى العديد من الصحف بسبب علاقاته المتوترة مع أغلب المطربين صغاراً وكباراً.. أراد زميلى أن يضرب عصفورين بحجر: يلبى رغبتى، وينتشل صديقه الملحن المشاكس من مأزقه.. وهنا وجدت الزميل الصحفى يقترح على أن نزور الملحن سوياً فى منزله، ونقترح عليه تلحين الكلمات.. وافقتُ ببراءة معتقداً أنه تجاوب مع الكلمات والفكرة ليس إلا.. وذهبنا بالفعل، وتحملت ساعتين من النميمة والشكوى بين الصحفى ومصدره الثرى بالأسرار، تعلمت فيها كيف ينسج بعض (الفنانين) الأكاذيب ويحيكون المؤامرات على بعضهم البعض.. عرض علينا الملحن بفخر مقطعاً مصوراً على هاتفه المحمول لمطرب شاب معروف وهو يدخن الحشيش ويردد أغنية قديمة للفنان أحمد عدوية..! وعندما قطعت صمتى وسألت الملحن باندهاش: لماذا تحتفظ بهذا المقطع على هاتفك؟ هل لديك مشكلة مع المطرب؟ أجاب الملحن: بالعكس، نحن أصدقاء.. ولكن من يدرى؟ ربما أحتاج إلى تشويه سمعته فى المستقبل! شعرت بالقرف وغمّت على نِفسى.. أهكذا صار حال الفنانين فى بلادى؟ وعندما لاحظ الصحفى اشمئزازى وتململى من الزيارة، سارع بسؤال الملحن: ها.. هل ستلحن الأغنية؟ فأمسك الملحن جيتاره بعصبية، وقال: آدى اللحن أهو.. وشرع فى العزف وترديد الكلمات عدة مرات، وكان كلما أفلتت منه النغمة يمط شفتيه ناحية اليمين ويسحب نفساً قصيراً من بين أسنانه بما يشبه كركرة الشيشة، كما لو كان يستدرك أو يعدل وجهة اللحن! وبعد دقائق كان قد توصل إلى ما قال إنه اللحن المطلوب! كان اللحن فقيراً، لكننى خجلت من التعليق.. ويحك يا زميلى!!.. أتساعد هذا الصنف من الملحنين على استغلال أحزاننا لمصلحته الشخصية؟ ومقابل ماذا؟ مقابل فن رخيص مبتذل؟ صحيح، لم يعد بعض الصحفيين مادة للتزلف فقط، ولم يفقدوا احترام مصادرهم وحسب، بل إن بعضاً من هذا البعض يوافق على ذلك، ويساعد عليه.. أى صحافة تلك التى يدّعون امتهانها؟!
خلال الأيام التالية، اتصلت بالعديد من مطربى مصر لدعوتهم إلى غناء الكلمات على لحن الموسيقار الشاب بعد أن أقنعت نفسى بأن الغناء قد ينقذ اللحن فتذرع كل منهم بحجة، فمنهم من ادعى انشغاله بالتحضير لألبومه المقبل رغم أن ألبومه الأخير طرح قبل أيام! ومنهم من أوصى زوجته التى هى مديرة أعماله بابتكار سبب جديد فى كل مرة أتصل به، من نوع (أصله مأيّل شوية بعد الضهر)، أو (معلش ده عنده إسهال وفى الحمام م الصبح)، أو (مزاجه مش رايق وقافل على نفسه الأوضة)!! أما المطرب الكبير صاحب الصوت الأصيل فقد قال لى عندما التقيته فى الإسكندرية بعد عرضه المسرحى: إن اللحن لا يناسبه، وكان هذا هو أشيك عذر تلقيته ممن أرادوا عدم الاشتباك مع خصم وهمى، يعشش فقط فى أدمغتهم.. فمهما كان فضل الصحفيين عليهم، العمر برضه مش بعزقة!
وذات مساء، وبينما كنت أقوم بمونتاج فيلمى (أى كلام) فى القاهرة، تلقيت اتصالاً من أحد المحامين الكبار، قال: إنه يتحدث نيابة عن صاحبنا الملحن المشهور إياه، وأبلغنى أن موكله أعاد النظر فى القصة برمتها، وقرر التراجع عن تلحين الأغنية، لأنها تبدو أغنية سياسية قد تثير عليه غضب النظام! حاولت أن أقنعه بأن هدف الأغنية هو تسليط الضوء على المعاناة التى يتكبدها الصحفيون، وليس الهجوم على أحد.. لكنه أصر على موقفه.. حاولت الاتصال بالملحن، لكنه أغلق هاتفه.. وهكذا عادت الكلمات إلى درج مكتبى، وخمد حماسى لها، وطواها النسيان من جديد لسنوات أخرى.
قبل أيام كنت أزور الزميل محمد حبوشة، نائب رئيس تحرير الأهرام فى مكتبه بمعهد الأهرام الإقليمى للصحافة.. تثير جرأة هذا الرجل غضب الكثيرين، لكن ربما لا يعلم إلا قلة من المقربين إليه كم تبلغ رقة قلبه وأحاسيسه وشهامته.. استدعى كل منا شواهده على الطفرة التى يشهدها الإعلام، والتى تدفع به إلى الخلف وتنزع عنه القداسة والهيبة فى أعين أبنائه ومصادره.. فرويت له حكاية الأغنية اليتيمة، وعبرت عن أسفى لأنها وضعت عدداً كبيراً من الفنانين فى اختبار لموقفهم الحقيقى من هذه المهنة، فبدا أنهم لا يرغبون مطلقاً فى رد الجميل لمن قدمهم للجمهور وكان سبباً فى شهرتهم والتعريف بنجاحهم.. ثم قلت له وكأننى أفكر فقط بصوت عالٍ إننى كنت أتمنى بالفعل لو أن الأغنية خرجت إلى النور فى مثل هذه الأيام، حيث تحل مناسبة اليوم العالمى للصحافة، والتى لا يذكرها أحد فى العادة.. وكعادة حبوشة، تفاعل مع الفكرة فى الحال، وقرر أن يعمل على تنفيذها.. استدعى زميلنا الصحفى المخضرم أحمد السماحى، والذى يتمتع بصلات طيبة داخل الوسط الغنائى فى مصر، وتبادل معه الرأى حول الملحن الأمثل الذى سيرحب بتبنى الأغنية دون النظر إلى أى اعتبارات مالية أو سياسية، واجتمع الاثنان على اسم الموسيقار الكبير محمد ضياء.. أثنى كلاهما على وطنيته التى تجلت فى كل المناسبات الفاصلة بإبداعاته الهادفة والمعبرة.. ثم رفع حبوشة سماعة الهاتف واتصل به، وأبلغه أنه سيزوره بعد قليل فى منزله.. كانت الساعة قد قاربت منتصف الليل، واندهشت لاستجابة حبوشة والسماحة الفورية، والتى برراها بأن الوقت المتبقى على مناسبة الثالث من مايو هو أقل من أسبوع، وعلينا التحرك فوراً.. لقد استيقظت فى قلبيهما روح الأغنية، التى كان قد أصابها الفتور لسنوات بين حبوشة والزميل الصحفى الذى قدمنى للملحن الأول عدة أجيال صحفية، وهنا تكمن المرارة، فالجيل الأحدث من الصحفيين تمت برمجته على استغلال الفرص، واللعب بعناصر القوة، والدخول فى معمعة المصالح والشلل، وصار آخر همه الخبر الصادق والرأى الأمين.. أين هؤلاء من طارق أيوب ومازن دعنا؟
تركت الصديقين حبوشة والسماحى، وعدت للإسكندرية فى تلك الليلة، لكن ما هى إلا لحظات حتى تلقيت من حبوشة اتصالاً.. زف لى فيه خبر موافقة الأستاذ محمد ضياء على تلحين الأغنية بلا مقابل، ثم أعطاه السماعة.. قال لى الملحن الكبير، إن هذه الأغنية توفر له الفرصة كى يعبر عن امتنانه للصحافة التى طالما قدرت فنه وعطاءه.. لم أشك فى صدق كلامه، وقد صدقت من قبل كل ألحانه.
أثنى ضياء على ترشيحاتى للأصوات المقترحة، وكانت كلها لعمالقة الغناء الذين ما زالوا يحافظون على هوية الفن الأصيل ولا يشترون به ثمناً قليلاً، وطبعاً كنت قد فقدت الثقة فى كثير من الأصوات الشابة منذ خذلتنى قبل ثلاثة أعوام، لكن ضياء اقترح صوتاً جديداً لفنانة مغربية تدعى أمنية، جاءت إلى مصر تاركة وراءها شهرة واسعة فى بلادها، وتسلك باحترامها لنفسها وفنها مسلك الكبار، الذين يولدون كباراً.. ترددت فى البداية طامعاً فى أن يحظى الصحفيون فى عيدهم بصوت أشهر المطربين أو المطربات، لكن ضياء ومعه حبوشة طلبا منى أن أتريث، وأن أستمع لبعض أغنياتها الجديدة على اليوتيوب والفيس بوك.. وعندما استجبت لنصيحتهما، وجدتنى ألح فى التحرك الفورى لإقناع هذه الفتاة ذات الصوت العميق الرخيم الدافىء بغناء كلماتى.
بين يوم وليلة، أصبح حلمى القديم عامراً بالحياة والحماس.. قضى ضياء ليلة كاملة عاكفاً على صناعة لحن رصين بنغمات عصرية، لحن يترجم الحسرة والتحدى، وهما شعوران يتوازيان ويتقاطعان أكثر من مرة فى القصيدة.. ويمثلان قوتى الجذب والشد فى حياة أى صحفى ميدانى.. عندما اجتمعنا فى جلسة العمل الأولى كان ضياء قد سجل بالفعل محاولته اللحنية المبدئية، وكان قلقاً وكأنه يلحن لأول مرة.. مع ذلك فقد أغمضت عينى واستمعت للمقطوعة، فرأيت كلماتى تتراقص بشجن على سلمها الموسيقى.. ولأن ميزان ضياء كما لاحظت دائماً هو الفن، فقد اختصرَت عادتى العفوية فى إغماض عينى وأنا أستمع للموسيقى مسافة واسعة فى علاقتنا الوليدة، لأنها بحسب تعبيره دليل على الفنان الحقيقى، الذى يعزل نفسه عن عناصر التشويش حتى يتمكن من التعايش التام مع الموسيقى.
صارت الأغنية هى النشاط الوحيد فى أمسيات ضياء وأمنية وحبوشة ووضع ضياء مشروعاته الأخرى الكثيرة جانباً، وتحاملت أمنية على نفسها برغم اعتلال صحتها قليلاً هذه الأيام، وأضاف حبوشة عبء الأغنية إلى يومه المشحون بتدشين ملحق الفضائيات الجديد فى الأهرام.. لم يكن أى من هؤلاء فى حاجة للأغنية؟ لقد آمنوا فقط برسالتها.. لم يلمح أحد لمردود شخصى على مسيرته أو علاقاته أو سمعته.. لم يعلق أى منهم إلا على صداها الفنى وبصمتها فى نفوس الصحفيين.. لقد أحسست أننى لم أعد وحدى فى قارب الأغنية الحلم، وأنهم ليسوا معى فقط فى القارب، بل إنهم يتبادلون معى القيادة كلما شعرت قليلاً بالتعب.
انتهى تسجيل الأغنية، ووضع مهندس الصوت الفنان ياسر أنور لمساته الأخيرة عليها، ثم دعانى ضياء للجلوس على مقعده فى الاستوديو كى أتوسط السماعتين العملاقتين، وكالعادة أغمضت عينى، ودارت الأغنية.. بالمختصر.. قلمه انكسر.. بس قلبه ع اللى بيحاربه انتصر.. قال كلمته.. ريح ضميره وذمته.. وبكل عزمه وهمته.. كشف الحقيقة.. قامت حريقة وف لمح البصر..
أخذنى اللحن إلى سماء العراق وفلسطين وأفغانستان.. حملنى فوق رؤوس زملائى المتظاهرين والمعتصمين.. وضعنى على قبور الشهداء وتحت أقدامهم.. أحسست بالدم الساخن يتدفق من صدر طارق أيوب على أصابعى، ورعشة الموت الأخيرة عندما سقطت الكاميرا من يد مازن دعنا، ورأيت ابتسامة الثقة على وجه رضا هلال.. صوت أمنية اختلط بصيحات المظلومين والمنسيين، اعترف من أعماق قلبى مشاعر كان اليأس والإحباط قد نال منها، وها هى تبعث من جديد..
ومع دقات الموسيقى الأخيرة فى اللحن، فتحت جفنى بصعوبة، فإذا الدموع تملأ عينى.. لقد ولدت الأغنية أخيراً.. لقد تحقق الحلم.. وتعانق الجميع بصدق.. ذلك الصدق الذى غاب فى المرة الأولى قبل سنوات.. والذى أشعرنى أخيراً بأن زماننا ما زال يحتفظ ببعض المخلصين..
لم يبق سوى مونتاج الأغنية، الذى أتاحه لنا مجاناً فى مكتبه المنتج هشام سليمان.. لجأت إلى الزميل العزيز سمير عمر فى قناة الجزيرة للحصول على بعض اللقطات الأرشيفية لصحفيين يتعرضون لاعتداءات، ومنها اللقطات الشهيرة للراحل طارق أيوب قبل لحظات من استشهاده، فلم يسعفنا الوقت.. ولم تتوفر سوى لقطات أمدنى بها مشكوراً الزميل نادر جوهر لمظاهرات صحفية فى مصر، لكنها لم تناسب طبيعة الأغنية الناعمة والحزينة.. ولم يكن أمامى سوى استخراج اللقطات المناسبة من فيلمى (أى كلام)، الذى تضمن لقطاتى الشخصية خلال تعرضى وتعرض زملائى من الصحفيين الفلسطينيين لاعتداء من جنود الشرطة الإسرائيلية فى مستوطنة كريات أربع بالخليل فى يوليو من عام ألفين.. لم أكن سعيداً بتكرار ظهورى فى الأغنية، لكن كان ذلك هو الحل الوحيد فى غياب أى مادة أرشيفية أخرى مناسبة، وفى غياب أى ميزانية كذلك.. فالأغنية لم تتكلف سوى أجر المونتير الذى خفضه مشكوراً لأقل من النصف، وبعض النثريات المتفرقة الأخرى.
كان الشارع الضيق مازال غارقاً فى عتمته.. وكان الصبى الجائع قد وجد كسرة خبز جلس يلتهمها، وكانت السيدة البدينة ما زالت تنتظر إلى جانب صُحُفها.. وكان العجوز غارقاً فى نومه، وكانت قدماه من تحت بقايا الصندوق الورقى ترتعش.. أمعنت النظر فى المشهد الجليل.. يا مصر الغلبانة قوى.. والله العظيم حاسين بيكى.. هؤلاء الذين ماتوا وهم يرفعون أصواتهم بالحق كانوا ينادون من أجلك وأجل كل البلدان العربية بالعدل والمساواة.. كانوا يحلمون بحياة كريمة لكل بنى آدم.. كانوا يتمنون لوطننا أن يحيى بكرامة ولو ليوم واحد.. هذه الأغنية ليست فقط لمن مات، إنها لمن يقف اليوم فى مفترق الطرق، حائراً أمام المغريات.. تحثه على اتباع نفس النهج.. حتى لو كان الثمن هو الموت، لكن الموت بشرف، أفضل بكثيييير من الحياة بِوِشّين..
 رأيى لا يعبر بالضرورة عن رأى أى مؤسسة عملت أو أعمل معها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.