«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فرحنا شعبي يعني منطقة حرة (تحقيق عن الغناء في الأفراح الشعبية)
نشر في الشروق الجديد يوم 31 - 05 - 2009

«والآن! مع المطرب صاحب شريط كاسيت «قلب أنانى»، نجم الأغنية الشعبية ونجم مسارح القاهرة. مع النجم الفنان أحمد سيف».
يتقدم أحمد سيف ليلتقط الميكروفون من زميله، الذى قدمه وهو يحييه بحركة من يده، ثم يلتفت ويحيى جمهور الفرح، الذى يبدأ من أمام المسرح الصغير المحاط بصوان المناسبات ويمتد حتى نهاية الحارة الضيقة، التى تقع فى قلب قرية «منشية دملو» القريبة من بنها، بالإضافة لجمهور البلكونات وبعض من افترشوا الحصير فى الدور الأول من بناية قريبة تحت الإنشاء لا تزال دون حوائط.
ولأن بعض الجمهور كانوا لا يزالون أصلا خلف ظهر المطرب على المسرح يلتقطون أنفاسهم من رقص الفقرة السابقة، فإن المطرب أحمد سيف طلب منهم النزول قليلا عن المسرح للحظات، حتى يتمكن من الوصول للعروسين إيهاب وسحر.
فقرة أحمد سيف هى الأخيرة فى فقرات فرقة «شروق»، التى تحيى الفرح، والتى يبدو على مطربيها وعازفيها خيبة الأمل بسبب عدم تجاوب معظم الجمهور معهم. ازدحام المسرح يرجع فقط إلى ضيقه وضيق الحارة، فهو بالكاد يضم الفرقة مع عدد قليل من المجاملين بالرقص والنقوط.
لذلك حاول أحمد سيف أن يقنع العروسين بالنزول من المسرح أملا فى تجاوب أكبر من الجمهور المتمسك بمقاعده. واستعان لذلك بأغانٍ متنوعة قديمة وجديدة.
ولكن جمهور الراقصين ظل هو نفسه، فمعظم الجمهور من أسر ريفية يغلب عليه المحافظة. هو فرح «عائلى» باستثناء بعض الشباب المتجمعين فى حلقات يقومون بالرقص و«التشكيل» المميز. ويرتاحون قليلا ويغلقون دائرتهم قليلا لتدخين سجائر الحشيش. مجموعات من البنات المحجبات الخجولات المنزويات والمكتفيات بالتصفيق. واحدة منهن فقط كانت تصعد إلى المسرح لتشارك العروس الرقص. وقد يبدو غريبا أن الأكثر مشاركة فى الرقص ووجودا على المسرح السيدات الأكبر سنا، بحجابهن السابغ وعباءاتهن الفضفاضة أو بالجلاليب الريفية النسائية المميزة الفضفاضة أيضا. يشاركهن الرجال الأكبر سنا مع بعض الشباب. كل من يصعد على المسرح، رجالا ونساء، يلف حول وسطه إيشارب أو كوفيه ليظهر مهارته فى متابعة الإيقاع.
ما يقدم فى الفرح من مشروبات يختلف كثيرا عن «الممنوعات»، التى تقدم بالأفراح الشعبية فى عشوائيات المدن فصوانى الشاى، التى تدور بين المعازيم قد تبدو غريبة بالنسبة لفرح، ولكن يبدو أنها تساعد أبناء الريف الذين ما زالوا يستيقظون مبكرا للعمل فى كل تلك الغيطان، التى تحيط بمنازل القرية ويبدو أنهم غير معتادين على السهر.
فى الميكروباص الذى جمع أعضاء فرقة «شروق» ليعود بهم إلى بنها، أخذ المطربون والعازفون يتندرون على الفرح الريفى الغريب. وعلق أحمد سيف ضاحكا: جو الفرح مش متعاون أبدا. المفروض إن إحنا باند كبير وقديم، من كام سنة كان فى بنها أكثر من 25 باندا. بعد ما الشغل قل بسبب الدى جيه مش فاضل منهم غير ثلاثة أو أربعة».
يضيف أحمد سيف: باند «شروق» على اسم بنت مدير الفرقة قدرت تستمر لأنها حققت صيغة ترضى جميع الأطراف. نغنى الشبابى أو الشعبى ونعزف شرقى وغربى. لو حد عاوز يسمع ويتسلطن نسمعه، ولو عاوز يرقص نرقصه، ويضحك وهو يضيف: «ولو كانت الليلة خربانة مافيش مانع.. نخربها برضه!»،
ويبدو أن خلطة «شروق» ناجحة، ففى بداية الفرح حافظوا على التقليد المعاصر بسماع أسماء الله الحسنى، وإن كان بصوت حمادة هلال لا بصوت هشام عباس، ثم عزفوا موسيقى احتفالية غربية مع دخول العروسين ومع شربهما العصير. وتنوعت بعد ذلك أغانيهم بين أغانى وردة وعدوية وأغانى نجوم اللحظة فى عالم «الشعبى»: عبد الباسط حمودة ومحمود الحسينى ومحمود الليثى. وفى أوقات ذروة الرقص تعلو أسهم «ثنائى العنب» عماد بعرور وسعد الصغير.
لا توجد أغانٍ خاصة بالفرقة، وحتى أحمد سيف لم يغن شيئا من أغانى شريطه خوفا من السرقة: «الشريط لسه ما نزلش السوق. والأغنية اللى تطلع هاتلاقيها تانى يوم فى فرح تانى وعلى الإنترنت».
ولكنه يذكر بآخر أغنية غناها فى الفرح، «أنا عينى منك» لعمرو السعيد، قائلا إن هذا اللون تحديدا هو ما يفضله: أنا أحب اللون الشعبى اللى فيه طرب وشجن وفيه برضه مزيكا ترقص، ومعظم أغانى شريطى من النوع ده.
على خلاف أحمد سيف، معظم المطربين الشعبيين تشتهر أغانيهم فى الأفراح أولا قبل تسجيلها ومعظمهم لا يفكر كثيرا فى ملكيته لأغنية أو لحن. فالغناء الشعبى فن غير مرتبط كثيرا بصناعه وأسمائهم، التى تظهر وتخبو سريعا، ولكن اتجاهاته تتحول سريعا مع اتجاهات ومزاج الجمهور. فالأغانى يعاد صياغتها ويضاف إليها ارتجالات فى الأفراح، التى تعتبر جزءا مهما من عملية إنتاجها واختبار ملائمتها لذوق الجمهور.
ولذلك على الفرقة التى تحيى أفراح الطبقات الشعبية أن تتعلم التجاوب والتأقلم. يحكى أحمد سيف أنهم كل ليلة يعيشون جوا مختلفا، فمرة يكونون فى فرح عائلة ميسورة نسبيا فى فندق أو نادٍ فى بنها أو المنصورة، ومرة فى شارع ضيق وسط جمهور غير مبالٍ بهم أو محافظ غير متجاوب. أو فى صوان كبير وسط جمهور غير راغب إلا فى السُكر والغياب عن الوعى ويضيق بأى غناء أو موسيقى تبعده عن هذه الحالة أو وسط جمهور راغب فى سماع وأداء التحيات والنقوط طوال الليل.
فرح «جمعية»
من التقاليد المعاصرة أن بعض الليالى والأفراح تقام بغرض جمع النقوط، وتسمى «فرح جمعية» وصاحبها يعطى الفرقة أجرا ثابتا ويطالبها بإعطائه كل النقوط لتساعده فى الأقساط أو لتغطى تكاليف الفرح نفسه. وبعض الفرق الشعبية لا تهتم بالغناء بقدر ما تهتم بوجود «نوبتجى» ماهر وحلو اللسان يمكنه أن يحيى بطرق مبتكرة تستحث المعازيم وأهل الواجب على النقوط. ساعتها يكون الغناء مجرد فواصل بين فقرات التحية التى تلى النقوط التى يسجلها مساعد «النوبتجى» فى كراسة إعلانا أنها واجب سيرد إلى أصحابه فى أقرب وقت.
ولكن «المعلمين» وكبار العائلات العريقة الشهيرة أو أصحاب المزاج يعلنون أنهم لا يحتاجون نقوطا ويكرسون الليلة للغناء والانبساط، وقد ينفقون الكثير فى استقدام بوفيه متخصص لتقديم مأكولات وخمور، وأحيانا ما يمتد الكرم إلى توفير باقة متنوعة من المخدرات لأصحاب المزاج، مستغلين الاتفاقية العرفية السارية بين أبناء المناطق الشعبية والشرطة، التى تقضى باعتبار صوان الفرح «منطقة حرة»، تماما مثل كون بساط الموالد «أحمدى» والخطايا متجاوز عنها فى حضرة الولى.
لمثل هذه الأجواء حرص أحمد سيف على وجود أغنيتين «فقر» على حد تعبيره فى شريطه الجديد، فسجل أغنية عن «البتنجان» تمشيا مع موجة الغناء للخضراوات، بالإضافة إلى أغنية يعدها مع المنتج خالد عمر عن الأتوبيس المكيف ستكون على نفس لحن أغنية «الحنطور» لأمينة.
عند هذه النقطة يرجع أحمد سيف ليحكى أن مساره كان مختلفا، فهو بدأ مع فرقة قصر الثقافة فى شبين القناطر حيث يسكن، وشارك فى الغناء فى مسرحيات تجريبية بمسارح الدولة ومع فرقة «الأحلام» لتقديم التراث فى الأوبرا، ولكن بعد أن اختلف مع المصنع الذى يعمل به فنى معامل حصل على إجازة مفتوحة بدعوى إصابة قدمه. وبدأ العمل مع فرق الأفراح المشهورة فى الدلتا، فى البداية كان يغنى اللون الشبابى لإيهاب توفيق ومحمد فؤاد، ولكن الذوق تغير وفرض على الفرق أداء اللون الشعبى.
وأثناء أدائه لهذا اللون أعجب به أحد متعهدى المطربين وقدمه إلى خالد عمر مهندس الصوت والمنتج من شركة «صوت الطرب» فى إمبابة لينتج له شريطا. ورغم أنه ينفق من مدخراته على الشريط، الذى لا يتوقع أن يجنى من مبيعاته أرباحا كبيرة إلا أنه يأمل أن يتم توزيعه جيدا سواء فى منطقة الدلتا أو فى القاهرة، وأن تنتشر أغنياته بين مشغلى ال«دى جى»، وعلى الإنترنت، لكى يطلبه متعهدو الأفراح ويحيى أفراحا أكثر.
قد يسلك الغناء الشعبى مسارات مختلفة مثل الكاسيت أو ال«دى جى» أو الإنترنت فى رحلته بين منتجيه وجمهوره إلا أنه يظل دائما ينطلق من الأفراح لينتهى فى الأفراح، حتى وإن كان غناء حزينا.
أنا القتيل بلا إثم ولاحرج.. أنا القتيل يا حاج عمر
قبل سنوات، كانت شرائط الكاسيت الشعبية هى روح السوق الكبيرة فى إمبابة. ضجيج الأصوات المتداخلة لأجهزة الكاسيت الكبيرة الموضوعة على أرفف أكشاك بيع الخضر والفاكهة كان يتداخل مع أصوات الأجهزة الأكبر فى محال بيع شرائط الكاسيت التى كنت تراها بكثافة بين كل مجموعة أكشاك. وفى منتصف شارع السوق تماما كانت الأنوار الملونة ليافطة شركة «صوت الطرب» أكبر شركات إنتاج وتوزيع الكاسيت آنذاك لا تنطفيء ليلا أو نهارا فوق محل المركز الرئيسى للتوزيع وكأنه مايسترو الأوركسترا الشعبى، التى لم تتحكم فقط فى إيقاع السوق بل فى إمبابة كلها والعديد من المناطق الشعبية فى كل أنحاء مصر.
الآن، لا تزال الأغانى تصدح ولكن اختفى جهاز الكاسيت تقريبا، وحل محله على أرفف الأكشاك وفوق طاولات الفرشات سماعات منفصلة وجهاز مشغل موسيقى MP3 Player لا يحتاج بالطبع لأشرطة، ولكن تكفيه ملفات الأغانى، التى يأتى بها أحدهم من الإنترنت أو يشتريها على اسطوانات من الشاب جابر الواقف عند تقاطع شارع السوق مع شارع الجامع. جابر هو الوحيد تقريبا الآن الذى يبيع بعض شرائط الكاسيت بجانب الاسطوانات التى تعد عمله الرئيسى.
محال بيع الكاسيت التى كانت تملأ السوق وإمبابة اختفت، وصار الكاسيت تجارة جانبية فى فرشات بيع أشياء أخرى. وأصبح من الصعب جدا أن تعثر على يافطة شركة «صوت الطرب». اليافطة لا تزال موجودة والمحل الكبير الذى كان مركز التوزيع الرئيسى للشركة لا يزال موجودا، ولكن اليافطة توارت خلف صوان ممتد أمام المحل، الذى يمتلئ الآن بجلابيب وملابس داخلية نسائية، ويجلس أمامه باستمرار مالكه، ومالك «صوت الطرب» الحاج عمر يدخن الشيشة ويتابع سير العمل.
«الحاج عمر» أصبح اسما مركبا لا ينفصل بعد أن ردده هكذا مطربون شعبيون فى أغانيهم فى الأفراح أو فى التسجيلات، التى صدرت فى الكاسيت تحية لمنتجهم، الذى قدمهم إلى العالم ويوالى إنتاج شرائطهم.
من شعبان عبد الرحيم الذى أنتج «الحاج عمر» أول شرائطه، فظل شعبان يحييه ويذكر اسمه دائما ضمن أسماء أهل الفرح ودافعى النقوط الذين يحييهم، وإلى المطرب الشاب محمود الليثى، الذى يغنى أغانى تستعير تيمات من الإنشاد والذكر، فيذكر الحاج عمر فى سياق خاص عندما يضيف اسمه وسط شعر عمر بن الفارض فيقول: «أنا القتيل بلا إثم ولا حرج.. أيوه أنا القتيل.. أنا القتيل يا حاج عمر.. أنا القتيل يا حاج!».
ولكن محمود الليثى فى أغانيه الأخيرة يضيف تحية مختلفة: «يا خالد يا عمر.. يا خالد يا عمر يا عينىّ». خالد عمر هو ابن الحاج عمر الذى لا يتجاوز عمره 28 سنة، ولكنه الذى يتولى الآن هندسة الصوت وإدارة الإنتاج فى شركة «صوت الطرب»، ولكن بصيغة أخرى تناسب تراجع أحوال الكاسيت.
فى شقة بدور أرضى بشارع جانبى فى شارع القومية العربية بإمبابة يجهز خالد عمر استديو جديد خاص به ويجلس أمام الكمبيوتر يراجع أغانى الشريط الجديد للمطرب أحمد سيف ويعطيه ملاحظاته.
يتوقف خالد عمر ويلتفت عند سماع اسم محمود الليثى، ويقول: لازم يحيينى طبعا، أنا اللى قدمته وطلعته وعملت له سكة وقلت له اركبها. مش مصدقنى؟».
يعود إلى الكمبيوتر ويبحث قليلا قبل أن يشغل شيئا ويقول: ده راوى قصص اسمه سعد اليتيم يغنى فى ليلة من مولد الدسوقى قصة اسمها «أحلام والباشا». اسمع!. يغنى سعد اليتيم موالا: «الست لما تكون عاوزة تعيش بتعيش. ما دام تحب الراجل لو نامت معاه على خيش. لا يوم تقول جابلى ولا جابليش. (ثم يدخل الإيقاع) الست لما .. لما لما لما» وهذا المقطع هو نفسه فى أغنية شهيرة لليثى يغنيها بأسلوب قريب يواصل صوت سعد اليتيم من التسجيل «منور يا أستاذ عمر يا غالى.. يا ابن القاهرة يا حلو»، فيبتسم خالد عمر ويوقف الأغنية، ويقول: «أنا قلت لمحمود الليثى اشرب الأسلوب ده وخد السكة دى».
قتيل ابن الفارض
يذهب خالد عمر كمهندس صوت لليالى الذكر والإنشاد الخاصة بمشايخ الإنشاد المشاهير مثل ياسين التهامى والشيخ عيون أبوعامر ويحتفظ بتسجيلاتهم، التى كانت تنتجها أحيانا «صوت الطرب». ويذكّر بأن قصيدة ابن الفارض التى يغنيها التهامى وتتضمن «ما بين معترك الأحداق والمهج.. أنا القتيل بلا إثم ولا حرج»، هو الذى عرّف الليثى عليها ليقتبس منها فى أغنيته التى اشتهرت ب»القتيل».
الاقتباس وإعادة الإنتاج سمة مميزة فى عالم الغناء الشعبى. هناك أريحية فى التعامل مع إنتاج الآخرين، وسواء أثناء الارتجال فى الأفراح أو استنادا لمؤلفين كلمات وملحنين يتم تعديل الألحان والكلمات بالإضافة والحذف.
مثلا، أغنية «العنب» الشهيرة التى ربما تعود أصولها لفلكلور ما أول من غنتها هى المطربة شفيقة، وكانت بإيقاع بطئ فلاحى: «جاب لى العنب يا أما.. قطف لى حبه اللى استوى. شلت العنب يا أما.. من خوفى عليه من الهوا»، وهى الأغنية التى غناها عماد بعرور بعد إضافته لمقدمة تمدح الحشيش ثم يرتفع الإيقاع الراقص مع تكرار كلمة العنب. والتقطها سعد الصغير، وأضاف مقدمة مختلفة «فكهانى وبحب الفاكهة». ولم يفت الليثى أن يغنيها أيضا فى أحد شرائطه مضيفا «يا محلى عناقيدك وإنت حلاوتك بناتى.. يا شمعدان يا منور ومزين تكعيباتى».
يواصل خالد عمر: لكن الليثى طلع معايا قليل الأصل لما اشتهر وغنى أغنية «فلوس» فى فيلم «كباريه». طلب منى العقد علشان يخلص أمور قانونية مع السبكى وقطّع العقد. خلاص بقى. أول ما جانى كان ما يقولش إلا «يا عم خالد» وبيغنى الفرح كله ب 150جنيها. دلوقتى بيطلع فقرة ساعة فى الكونراد، وياخد 15ألف جنيه»
.
فى البداية كما يقول خالد عمر الكل مستعد للبصم بالعشرة. «مش عيب إنك تبدأ صغير» ويحكى عن بدايته هو نفسه على دراجة بها حمالة يدور بها بشرائط الشركة على بائعى الكاسيت فى إمبابة ثم فى القاهرة كلها. وبعدها بدأ يذهب إلى الأقاليم التى يقول إنه يعرف باعة الكاسيت فيها من أسوان إلى سيناء. وهكذا بدأت خبرته فى عالم الكاسيت.
ولكن بدأ خالد عمر الدخول فى عالم الإنتاج بعد تعرفه على شاب اسمه أحمد الأسمر يقيم مع أهله فى حجرة صغيرة فى شارع الجامع. «كان غلبان وعامل فى شركة قطع غيار سيارات، لكن صوته كان بيفكرنى بصوت طارق الشيخ»، يقول ذلك وملامح وجهه تعبر عن الانبهار عند ذكر اسم طارق الشيخ، الذى يحتل مكانة مميزة فى سوق الغناء الشعبية الدرامية الحزينة.
يحكى خالد أنه تبنى أحمد الأسمر فنيا وأتى له بأفكار أغانى ومؤلفين وملحنين وأصدر له شريط «يا حبيبى»: «أغنية يا حبيبى كسرت الدنيا وهى أصلا كانت فكرة بسيطة منى، كنت أنا وأحمد خارجان من سينما ريفولى فدندنا بلحن: تارارارا. فقلت له نعمل أغنية كلها الجملة دى فكانت: «يا حبيبى تارارارا يا ناسينى تارارارا هاتجينى تارارارا ... وهكذا كلمة واحدة وجملة تارارارا، التى يدخل الكورس فيها بآهات».
إنتاج الغناء الشعبى ربما يتميز ببساطة وعفوية خاصة فى اللون السريع المرح الراقص، أو كما يطلق عليه خالد عمر: «الهنك». ولكنه قد يتميز أيضا بجدية وتعبير صادق خاصة فى الأغانى الحزينة، مثل «أنا مش عارفنى» لعبد الباسط حمودة، التى لفتت الانتباه وتجاوزت شهرتها جمهور «الشعبى» إلى غيره.
حظى أحمد الأسمر بفترة نجومية ثم انطفأ نجمه، ليصعد خالد عمر بمطرب آخر هو غرام المصرى، الذى غنى «أنا نازل يا سعاد خلى بالك من الواد»، وحظى بفترة رواج وعندما انحسر رجع إلى وظيفته كسائق، وقد يحيى فرحا بين شهر وآخر.
باستثناء أسماء قليلة، فإن عالم الغناء الشعبى حاليا يسيطر عليه «الإفيه» والأغنية الواحدة، التى تستحوذ على اهتمام الجمهور لفترة بمرحها أو مرارتها فترفع نجم صاحبها إلى السماء لفترة قبل أن ينزل مع صعود واحد آخر بأغنية أخرى.
المطربون قد يعودون إلى مهنهم الأصلية، ولكن إنتاج الكاسيت فى زمن الإم بى ثرى والإنترنت لم يعد تجارة رابحة. ورغم أن التكنولوجيا أفادت الشركات أيضا فاستغنت عن كثير من الموسيقيين واستبدلتهم ببرامج التأثيرات الموسيقية وفنون هندسة الصوت، إلا أن تكلفة أجور الملحنين والمؤلفين وطباعة الكاسيت تشكل عبئا على الشركات. لذلك فخالد عمر يعتبر عمله الرئيسى هندسة الصوت، التى تعلمها من ملاحظته لتسجيل أغانى شريط أحمد الأسمر رغم أنه لم يكن قد بلغ العشرين بعد كما أنه لم تتم دراسته الابتدائية، وأصبحت تلك مهنته الأساسية بعد ما فترت وتيرة الإنتاج.
قد يقوم بين فترة وأخرى بإنتاج شريط لمطرب ولكن بشرط أن يتحمل هو التكاليف، وكل مطرب يختار أن يطبع أغانيه على شريط أو يستلهمها من خالد عمر على مجموعة اسطوانات ليحاول أن يصنع شهرته على الإنترنت أو من خلال تشغيلها فى ال«دى جيهات». وفى هذه الحالة يكون دور خالد عمر بالإضافة لهندسة الصوت هو أن يقود المطرب إلى ما قد يحقق له «الخبطة»، التى تمنحه بريق الشهرة. أو بتعبير خالد عمر: «ملكتى اللى ربنا إداهانى وهى سبب أكل عيشى إنى أعرف أسوق المطربين للى ينفعهم وياكل مع الناس وهو ده فن الإنتاج».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.