ما بين أبنود. قنا، مسقط رأس الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودى ، وباريس. فرنسا مقر مستشفاه الذى يقيم فيه الآن، سبعون عاما، كان على "الأبنودي" أن يقطعها، ليعرف أن معنى الوطن لا يكمن فى الحدود والخرائط، وليعلن فى كل ثقة أنه لم يشعر بالحنين إلى مصر لأنها انتقلت إليه من خلال زيارات أصدقائه فى أحد أجنحة المستشفى الأمريكى بباريس، وكأن الأبنودى الإنسان يرد على الأبنودى الشاعر الذى قال: وتعبت أقرا اليفط بحثا عن العنوان وتعبت أقرا الوشوش بحثا عن الإنسان كل الخرايط ما توضح تبهت الأوطان. الممد على سرير مستشفاه بعاصمة النور، هو ذاته الذى كان يفترش التراب وينام تحت ظل شجرة "الأثل" بقريته البعيدة، وكأن الأيام لم تمر عليه ولم تترك فوق وجهه الصخرى بصماتها، فنظرة واحدة إلى صور الأبنودى فى صباه أو شبابه وستعرف أنه لا يوجد هناك فرق كبير بينها وما تنقله الصحف الآن. الأبنودى هو الأبنودي، بابتسامته المتلفتة، وضحكته الطائشة، ونظرته المتوجسة وعينيه الزائغة، وتجاعيده التى يبدو وكأنه قد خلق بها، فقد خلقه الله عجوزا، وحتى شعره "الشايب" الذى تحسرت على رؤيته عمته الشهيرة "يامنه" يبدو كما لو كانت تنبهت إليه فجأة، أو تحسسته فى إغماءتها الأخيرة بين الموت والحياة. "الوش قرية والجوف مدينة" جملة شعرية قالها أحد متيمى الأبنودي، ففرح بها الأبنودى "الطفل" كما كان يفرح بظهور اسمه فى "الجورنان" مختالا على أبناء قريته بانتمائه إلى قافلة "الناس اللى هناك" وإلى هناك سافر "أمل دنقل، يحى الطاهر عبد الله، عبد الرحيم منصور، ورابعهم الأبنودي، وبعد العيش فى المدينة الكبيرة، والاصطدام ببنايات "الأسفلت" مات أمل، ويحى شابان مثقلان بحلم الحياة والفن، بينما انسحب عبد الرحيم "الشاعر" لينتصر عبد الرحيم "الغنائي" ومكث الأبنودى يودعهم واحدا تلو الآخر قائلا: "يا ناعسه لالا لالا خلصت منى القواله والرمش اللى رماني صايبنى لا محالة لكنه لم ينسهم على طول مشواره ولقاءاته وأمسياته التى كان يذكرهم فيها بحسرة، وكأنه يتذكر مقولة يامنة بعد أن حرَّفها "أوعى تعيش يوم واحد بعد (صحابك) أوعى يا عبد الرحمن. فى لحظات الانكسار _ وما أكثرها عند جيل الأبنودى _ انفجر ذات يوم مفضفضا للكبير صلاح جاهين "مش كنا كتبنا أغانى عاطفية وكسبنا وعيشنا مرتاحين أحسن من الأغانى الوطنية اللى جابت لنا وجع القلب" فيرد جاهين " اللى كتبوا أغانى عاطفية كسبوا فلوس، أما احنا فكسبنا وطن" فيهدأ الأبنودى بعدما علمه أن هناك أشياء لا تشترى، ويقر بما تعلمه فى قصيدة يهديها إلى الإمام الكبير فؤاد حداد قائلا : إنت الإمام الكبير .. وأصلنا الجامع .. وانت اللى نقبل نصلى وراك فى الجامع بسيط يا مولاى ، والضحكة فى صدرك .. قوت فقير يا مولاى .. ورازقنا حرير .. وياقوت ونشيد عشان الأرض ودعوة .. للى يموت وخريطه لفلسطين وكُُم .. للدامع. سبعون عاما والأبنودى يتجول تائها فى بلاد الله، لا يسعه بيت، ولا ترضيه قصيدة، سبعون عاما هى عشرة أضعاف الرقم (7 )منتهى المنتهى فى ثقافتنا العربية، حيث منتهى السماوات سبع ومنتهى الأراضى سبع ومنتهى الأيام سبع، واليوم هو تمام السنة السبعين لشاعرنا الكبير فهل وصل إلى المنتهى؟ هذا ما ستقوله لنا قصيدته الجديدة التى يكتبها الآن فى مستشفاه، ليهديها إلى وطنه أو أصدقائه كما عرف أخيرا.