تلقيت من بعض الأحباب أسئلة تتضمن بعض آيات الكتاب العزيز ، رآها تُتداوَل على مواقع مشبوهة من الشبكة العنكبوتية ، وكأن مَن أوردوها يريدون أن يثبتوا أن في الكتاب العزيز تناقضا وتعارضا . وطلب مني أن أرد عليهم وأوضح ما في تلك الآيات من أسرار ، لعل الله تعالى يهدي بهذه السطور مَن يشاء من شباب الأمة الذين قد تهتز ثقتهم بدينهم بتلك الفتن المتتالية . فمن ذلك أنهم يحشدون الآيات التي تتحدث عن يوم القيامة حشدا : بعضها إلى جوار بعض هكذا : وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل/93 ]] ------------------------- وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ [الصافات /24]] ---------------------- فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف/6 ]] --------------- وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص/78 ]] -------------- فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ [الرحمن/39 ]] ---------------- فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ [المؤمنون/101 ]] --------------------------- فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ [القلم/30 ]] ------------------------------------------------- الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس/65)] ------------ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ [النمل/85 ]] ---------------- وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ [فصلت/29 ]] ------------------------- ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام/23 ]] ----------------------- ففي بعض هذه الآيات أخبار عن تساؤلات وحوار ، وفي بعضها نفي لأي تساؤل أو تحاور ؟ فكيف نفهم ما يبدو بينها من تعارض ظاهر ؟ والجواب في صحيح البخاري : في رواية عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍخلاصتها أن رجلا قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ إِنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ منها قوله تعالى{ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ } بجانب قوله تعالى{ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ }وقوله تعالى { وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } وقوله تعالى { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } فَقَالَ له ابن عباس أما قوله تعالى { فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ } فيكون فِي النَّفْخَةِ الْأُولَى المشار إليها في قوله تعالى{ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ } فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ عِنْدَ تلك النفخة وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ثُمَّ فِي النَّفْخَةِ الْآخِرَةِ { أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ } وَأَمَّا قَوْلُهُ { مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } { وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِأَهْلِ الْإِخْلَاصِ ذُنُوبَهُمْ ، فيقول الْمُشْرِكُونَ : تَعَالَوْا نَقُلْ لهم : لَمْ نَكُنْ مُشْرِكِينَ فَخُتِمَ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَتَنْطِقُ أَيْدِيهِمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ عُرِفَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُكْتَمُ حَدِيثًا . وعند عبد الرزاق : جاء رجل إلى عكرمة فقال أرأيت قول الله تعالى هذا يوم لا ينطقون وقوله ثم إنكم يوم القيمة عند ربكم تختصمون قال : إن يوم القيامة مواقف متعددة ، فأما موقف منها فتكلموا واختصموا ثم ختم الله على أفواههم فتكلمت أيديهم وأرجلهم فحينئذ لا ينطقون . فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانّ} [الرحمن/39 ]). قال ابن عباس: أي : لا يسألهم هل عملتم،؟ لأنه أعلم بهم منهم، ولكن يقول: لِمَ عملتم كذا وكذا؟ واعتمده قطرب فقال: السؤال ضربان، سؤال استعلام، وسؤال توبيخ، فقوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانّ} يعني: استعلامًا. وقوله: "لنسألنّهم أجمعين" يعني توبيخًا وتقريعًا . وإلى مثل هذا ذهب الزمخشري عند تفسير قوله تعالى : { لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } قال الزمخشري: فإن قيل : كيف الجمع بين هذه الآية وبين سائر الآيات التي توهم كونها مناقضة لهذه الآية منها قوله تعالى : { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تجادل عَن نَّفْسِهَا } [ النحل / 111 ] ومنها أنهم يكذبون ويحلفون بالله عليه وهو قولهم : { والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام / 23 ] ومنها قوله تعالى : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مسؤلون } [ الصافات / 24 ] ومنها قوله : { هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يؤذن لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [ المرسلات/ 35 ]. والجواب من وجهين : الأول : أنه حيث ورد المنع من الكلام فهو محمول على الجوابات الحقيقية الصحيحة . الثاني : أن ذلك اليوم يوم طويل وله مواقف ، ففي بعضها يجادلون عن أنفسهم ، وفي بعضها يكفون عن الكلام ، وفي بعضها يؤذن لهم فيتكلمون ، وفي بعضها يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم ونستكمل في الأسبوع القادم إن شاء الله . [email protected]