«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من أسرار القرآن
نشر في الأهرام اليومي يوم 18 - 12 - 2010

‏373‏‏(‏ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين‏)‏ هذه الآية الكريمة جاءت في أواخر النصف الأول من سورة الأنفال‏,‏ وهي سورة مدنية‏,‏ وآياتها خمس وسبعون‏(75)‏ بعد البسملة‏,‏ وقد سميت بهذ الاسم‏(‏ الأنفال‏)‏ جمع‏(‏ نفل‏)‏ بالفتح وهو الزيادة أو الأمر الثانوي‏,‏ إشارة إلي الغنائم التي غنمها المسلمون أثناء معركة بدر الكبري‏.‏ وقد سميت غنائم الحرب بالأنفال احتقارا لشأنها مقارنة بالأهداف الرئيسة للجهاد في سبيل الله ومنها رد الظالم‏,‏ وحماية الدين‏,‏ والعرض‏,‏ والأرض‏,‏ وطلب الشهادة في سبيل الله‏,‏ وهي قضايا تهون أمامها أية مكاسب مادية مثل الغنائم‏.‏
ويدور المحور الرئيسي لسورة الأنفال حول عدد من التشريعات الإلهية للقتال في الإسلام‏,‏ انطلاقا مما جري في غزوة بدر الكبري‏.‏ هذا وقد سبق لنا استعراض هذه السورة الكريمة‏,‏ وما جاء فيها من التشريعات وركائز العقيدة الإسلامية‏,‏ ونستعرض هنا لمحة الإعجاز الإنبائي في الآية الكريمة رقم‏(30)‏ من سورة الأنفال والتي اتخذناها عنوانا لهذا المقال‏.‏
من أوجه الإعجاز الإنبائي في الآية الكريمة
يقول ربنا‏-‏ تبارك وتعالي‏-‏ في سورة الأنفال مخاطبا خاتم أنبيائه ورسله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-:(‏ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين‏)(‏ الأنفال‏:30).‏
وسورة الأنفال مدنية بمعني أن هذه الآية الكريمة أنزلت بالمدينة أي بعد حادثة الهجرة بقرابة السنتين لتستعرض الفارق الكبير بين وضع المسلمين في مكة قبل الهجرة‏,‏ وموقفهم في المدينة المنورة بعد الهجرة‏.‏ فقد كان وضعهم في مكة قبل الهجرة وضع المستضعف المضطهد من قبل مشركي مكة‏,‏ وأصبح وضعهم في المدينة موضع القوة والعزة والمنعة بعد انتشار الإسلام بين أهل المدينة وتعهدهم بأن يمنعوا رسول الله مما يمنعون منه أنفسهم‏,‏ وتحقق هذا التحول في حياة المسلمين بعد انتصارهم في معركة بدر الكبري‏.‏
والآية الكريمة التي نحن بصددها تصور هذه النقلة الهائلة التي تمت بتوفيق الله ورعايته‏,‏ وبحسن التدبير والتخطيط من رسول الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ وبقوة إيمان أصحابه بنبوته ورسالته‏,‏ وشدة حبهم له‏,‏ وتفانيهم في الوفاء له ولدعوته‏.‏ وهنا تأتي هذه الآية الكريمة لتصور موقف مشركي مكة وهم يبيتون لرسول الله‏-‏ صلي عليه وسلم‏-‏ ويتآمرون عليه لمنعه من اللحاق بالمسلمين في المدينة حتي يمنعونه من تكوين قاعدة إسلامية يمكن أن تحاربهم وأن تنتصر عليهم‏.‏
وفي التعليق علي هذه الآية الكريمة‏(‏ رقم‏30‏ من سورة الأنفال‏)‏ يذكر الشهيد سيد قطب‏:‏ ما نصه‏:‏ إنه التذكير بما كان في مكة‏,‏ قبل تغير الحال وتبدل الموقف‏,‏ وإنه ليوحي بالثقة واليقين في المستقبل‏,‏ كما ينبه إلي تدبير قدر الله وحكمته فيما يقضي به ويأمر‏...,‏ ولقد كان المسلمون الذين يخاطبون بهذا القرآن أول مرة‏,‏ يعرفون الحالين معرفة الذي عاش ورأي وذاق‏.‏ وكان يكفي أن يذكروا بهذا الماضي القريب‏,‏ وما كان فيه من خوف وقلق‏,‏ في مواجهة الحاضر الواقع وما فيه من أمن وطمانينة‏....‏ وما كان من تدبير المشركين ومكرهم برسول الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ في مواجهة ما صار إليه من غلبة عليهم‏,‏ لا مجرد النجاة منهم‏!‏ لقد كانوا يمكرون ليوثقوا رسول الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ ويحبسوه حتي يموت‏;‏ أو ليقتلوه ويتخلصوا منه‏;‏ أو ليخرجوه من مكة منفيا مطرودا‏...‏ ولقد ائتمروا بهذا كله ثم اختاروا قتله‏;‏ علي أن يتولي ذلك المنكر فتية من القبائل جميعا‏;‏ ليتفرق دمه في القبائل‏;‏ ويعجز بنو هاشم عن قتال العرب كلها‏,‏ فيرضوا بالدية‏,‏ وينتهي الأمر‏!‏
وتروي لنا كتب التاريخ الإسلامي أنه بعد بيعتي العقبة الأولي والثانية انتشر الإسلام في يثرب حتي لم يبق بيت من بيوت الأنصار إلا وقد دخله دين الله‏,‏ فأمر رسول الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ مسلمي مكة بالهجرة إليها‏,‏ ورأي مشركوا قريش في ذلك خطرا جسيما عليهم لتركز المسلمين فيها واتخاذهم من الذين أسلموا من أهل يثرب منعة ومن أرضها حصنا‏,‏ فحذروا من خروج رسول الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ إليهم لأنه لو وصل إلي تلك المدينة لجمع المسلمين لمحاربة أهل الكفر والشرك والضلال في شبه الجزيرة العربية‏,‏ وكان علي رأسهم وفي مقدمتهم قريش‏,‏ فتنادوا إلي اجتماع في دار الندوة‏(‏ وهي دار قصي بن كلاب التي كان مشركو قريش لا يقضون أمرا إلا فيها‏)‏ من أجل التشاور في أمر رسول الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ في محاولة لمنعه من الوصول إلي يثرب بأي ثمن‏.‏
وبعد تداول الأمر‏,‏ تكلم أبو البحتري بن هشام مقترحا حبسه حتي الموت‏,‏ فرفض اقتراحه خشية أن يعيرهم العرب بذلك‏,‏ فاقترح الأسود بن عمرو نفي رسول الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ ألي خارج مكة‏,‏ فردوا عليه اقتراحه قائلين‏:‏ ليس هذا برأي‏,‏ ألم تروا حسن حديثة‏,‏ وقوة منطقه‏,‏ فإذا حل عند قوم لا يلبث أن يستولي علي نفوسهم‏,‏ ويحل في سويداء قلوبهم ؟‏.‏
بعد ذلك تحدث أبو جهل‏(‏ عمرو بن هشام‏,‏ زعيم بني مخزوم‏)‏ قائلا‏:‏ والله إن لي فيه رأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد‏;‏ قالوا وما هو يا أبا الحكم؟ قال‏:‏ أري أن نأخذ من كل قبيلة فتي‏,‏ شابا‏,‏ جليدا‏,‏ نسيبا‏,‏ وسيطا فينا‏,‏ ثم نعطي كل واحد منهم سيفا صارما‏,‏ فيمدوا إليه‏(‏ أي يذهبون حيث محمد‏)‏ فيضربونه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه ونستريح منه‏,‏ فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل‏,‏ فلم يقدر بنو عبد مناف علي حرب قومهم جميعا‏,‏ فرضوا منا بالعقل‏(‏ أي بالدية‏)‏ فعقلناه لهم‏.‏ استحسن الحضور رأي أبي جهل‏,‏ وقرروا إخراجه إلي حيز التنفيذ‏.‏ ولذلك قال‏-‏ تعالي‏-:(‏ وإذ يمكر بك الذين كفروا‏...)‏ وفي التعليق علي ذلك ذكر الإمام أحمد عن ابن عباس‏-‏ رضي الله عنهما‏-‏ قال‏:‏ تشاورت قريش ليلة بمكة‏,‏ فقال بعضهم‏:‏ إذا أصبح فاثبتوه بالوثاق‏-‏ يريدون النبي‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ وقال بعضهم‏:‏ بل اقتلوه‏.‏ وقال بعضهم بل أخرجوه‏.‏ فأطلع الله نبيه علي ذلك‏;‏ فبات علي‏-‏رضي الله عنه‏-‏ علي فراش رسول الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ وخرج النبي حتي لحق بالغار‏.‏ وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي فلما أصبحوا ثاروا إليه‏,‏ فلما رأوه عليا رد الله‏-‏ تعالي‏-‏ عليهم مكرهم‏,‏ فقالوا‏:‏ أين صاحبك هذا؟ قال‏:‏ لا أدري‏!‏ فاقتصوا أثره‏,‏ فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم‏,‏ فصعدوا في الجبل‏,‏ ومروا بالغار‏,‏ فرأوا علي بابه نسج العنكبوت‏,‏ فقالوا‏:‏ لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت علي بابه‏...‏ فمكث فيه ثلاث ليال‏.‏
وفي ذلك يروي ابن إسحق قائلا‏:‏ فأتي جبريل‏-‏عليه السلام‏-‏ رسول الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ فقال‏;‏ لا تبت هذه الليلة علي فراشك الذي كنت تبيت عليه‏.‏ قال‏:‏ فلما كانت عتمة اجتمعوا علي بابه يرصدونه متي ينام فيثبون عليه‏,‏ فلما رأي رسول الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ مكانهم قال لعلي بن أبي طالب‏:‏ نم علي فراشي‏,‏ وتسج ببردي هذا الأخضر‏,‏ فنم فيه‏,‏ فإنه لن يخلص إليك شئ تكرهه منهم‏,‏ وكان رسول الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ ينام في برده ذلك إذا نام‏.‏
وأضاف ابن اسحق قائلا‏:‏ وخرج عليهم رسول الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ فأخذ حفنة من تراب في يده‏,‏ وأخذ الله‏-‏ تعالي‏-‏ علي أبصارهم عنه حتي لا يرونه‏,‏ فجعل ينثر التراب علي رؤوسهم وهو يتلو قوله‏-‏ تعالي‏-(‏ يس‏,‏ والقرآن الحكيم‏,‏ إنك لمن المرسلين‏,‏ علي صراط مستقيم‏,‏ تنزيل العزيز الرحيم‏,‏ لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون‏,‏ لقد حق القول علي أكثرهم فهم لا يؤمنون‏,‏ إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلي الأذقان فهم مقمحون‏,‏ وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون‏)(‏ يس‏:1-9),‏ حتي فرغ رسول الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ من هؤلاء الآيات‏,‏ ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع علي رأسه ترابا ثم انصرف إلي حيث أراد أن يذهب‏.‏ فأتاهم آت ممن لم يكن معهم‏,‏ فقال‏:‏ ما تنتظرون ههنا ؟ قالوا‏:‏ محمدا‏;‏ قال خيبكم الله‏!‏ قد والله خرج عليكم محمد‏,‏ ثم ما ترك منكم رجلا إلا وقد وضع علي رأسه ترابا‏,‏ وانطلق لحاجته‏,‏ أفما ترون ما بكم؟ قال‏:‏ فوضع كل رجل منهم يده علي رأسه فإذا عليه تراب‏,‏ ثم جعلوا يتطلعون فيرون عليا علي الفراش متسجيا ببرد رسول الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ فيقولون‏:‏ والله إن هذا لمحمد نائما عليه برده‏.‏ فلم يبرحوا ذلك حتي أصبحوا‏,‏ فقام علي‏-‏ رضي الله عنه‏-‏ عن الفراش‏,‏ فقالوا‏:‏ والله لقد كان صدقنا الذي حدثنا‏.‏
وفي ختام هذه الآية الكريمة‏(‏ رقم‏30‏ من سورة الأنفال‏)‏ يقول ربنا‏-‏ تبارك وتعالي‏-:(‏ ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين‏)‏ وفي ذلك تجسيد لمكر مشركي قريش وتآمرهم علي رسول الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ ليثبتوه بالوثاق أو بالإثخان بالجراح حتي يقعدوه تماما عن الحركة وهو كناية عن السجن إلي الموت‏,‏ أو يقتلوه بأيدي ممثلين لجميع القبائل حتي يتفرق دمه بينهم فتقبل عشيرته الدين‏,‏ ويرتاح المشركون من أمره‏,‏ أو يقومون بنفيه إلي خارج مكة حتي يرتاحوا من المصادمة مع دعوته‏.‏ والآيات تخاطب رسول الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ مشيرة إلي فضل الله‏-‏ تعالي‏-‏ عليه في هذه المحنة قائلة له‏:‏ إنهم يدبرون لك هذا التدبير السيئ والله من ورائهم محيط يدبر لك السلامة من بين أيديهم‏,‏ ويمكر بهم‏,‏ ويبطل كيدهم‏,‏ ويفشل مخططاتهم وهم لا يشعرون‏.‏ وشتان بين تدبير الخالق وتدبير المخلوقين‏,‏ فتدبير الله‏-‏ تعالي‏-‏ هو الأعز والأعلي والأغلب في كل حال والله قادر علي أن يرد كيد المشركين إلي نحورهم‏,‏ وأن يحبط مكرهم‏,‏ ويفشل كل خططهم‏,‏ وفي المقابل يحفظك يا محمد من شرورهم وكيدهم ومخططاتهم‏,‏ وأن ينجيك من كل ذلك ويعاقب مشركي قريش علي وقوفهم في وجه دعوة الله بتكبر وتجبر واستعلاء كاذب وظلم بين‏,‏ ويكتب لك يا محمد النصر عليهم والتمكين في الأرض حتي تقيم دولة الإسلام التي تحمل أمانة التبليغ بدين الله إلي أهل الأرض أجمعين‏.‏
وهذه الآية الكريمة تذكر المسلمين في كل وقت بفضل هجرة رسول الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ من مكة إلي المدينة وهي تمثل ثاني أهم حدث في تاريخ الإنسانية‏,‏ بعد بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ تلك البعثة التي أعاد الله‏-‏ تعالي‏-‏ بها نور الهداية الربانية إلي أهل الأرض من جديد بعد أن كانوا قد فقدوها تماما‏,‏ وغرق البشرية في بحار من المعتقدات الفاسدة‏,‏ ومن كثرة صور الشك والشرك والفساد والضياع‏,‏ وغمر الأرض ببحار من الدماء والأشلاء والخراب والدمار‏,‏ وبالمظالم المستترة والمعلنة‏,‏ والتحلل الكامل من جميع ضوابط السلوك‏.‏
والآية الكريمة تمثل وجها من أوجه الإعجاز الإنبائي في كتاب الله حيث قام جبريل‏-‏ عليه السلام‏-‏ بإخبار رسول الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ بكل ما تداوله صناديد قريش في دار الندوة‏,‏ وبالموعد الذي ضربوه لحصار بيته من أجل قتله‏,‏ وبأمر الله‏-‏ تعالي‏-‏ له بالهجرة في تلك الليلة وإلا كيف كان ممكنا له النجاة من هذه المؤامرة الخسيسة‏.‏
والدروس المستفادة من هجرة رسول الله هي أكثر من أن تحصي أو أن تعد‏,‏ ولكن يكفي أن نشير إلي أنه كان منها ما يلي‏:‏
‏(1)‏ تأكيد حتمية الصراع بين أهل الحق وأهل الباطل‏,‏ وأن الحق لا ينتصر لمجرد كونه حقا بل يحتاج إلي المؤمنين به الذين يجاهدون في سبيله‏,‏ ويبذلون الغالي والرخيص من أجل الانتصار له‏,‏ والدفاع عنه‏,‏ وإعلاء كلمته في الأرض‏.‏
‏(2))‏ ضرورة إحكام التخطيط في كل أمر‏,‏ والأخذ بالأسباب بعد جميل التوكل علي الله‏-‏ تعالي‏-‏ والثقة في تأييده ونصره‏.‏
‏(3)‏ اليقين في معية الله‏-‏ تعالي‏-‏ ورعايته لعباده المؤمنين به‏,‏ والمتوكلين حق التوكل عليه‏,‏ بعد الأخذ بالأسباب كلها‏,‏ ثم الرضي بقضاء الله وقدره‏.‏
‏(4)‏ ضرورة الوفاء بالأمانات وبالعهود والمواثيق تحت جميع الظروف‏,‏ مع المؤمن والكافر علي حد سواء‏.‏
‏(5)‏ تأكيد إمكانية استخدام التورية الصادقة في أوقات الأزمات‏.‏
‏(6)‏ ضرورة الإيمان بوقوع المعجزات للأنبياء والمرسلين ووقوع الكرامات لعباد الله الصالحين‏.‏
‏(7)‏ اليقين بنصر الله رغم ما قد يلقاه المسلم من الابتلاءات والشدائد لأنها هي الطريق إلي النصر‏.‏
وعلي المسلمين في كل احتفال بذكري هجرة رسول الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ أن يتذكروا ما تعرض له هذا النبي والرسول الخاتم‏,‏ وأصحابه الكرام من ابتلاءات وشدائد من اجل نشر دين الله في الأرض‏,‏ وإقامة دولته في المدينة المنورة‏,‏ وتربية جيل من المسلمين الصادقين تحت ظل هذه الدولة الناشئة‏,‏ والانطلاق منها إلي اجتثاث جذور الكفر والشرك والضلال من كل جزيرة العرب‏,‏ ثم التحرك المدروس بعد ذلك لفتح نصف المعمورة في أقل من قرن من الزمان‏,‏ وحمل الإسلام العظيم ألي ملايين البشر في رقعة امتدت من الصين شرقا ألي بلاد الأندلس غربا بالكلمة الطيبة‏,‏ والحجة البالغة‏,‏ وبمكارم الأخلاق وأفضل السلوكيات‏.‏
وإذا كانت هجرة رسول الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ مقيدة بحدود الزمان والمكان‏,‏ فإن مبادئ الهجرة تبقي في زمن الفتن الذي نعيشه تجسيدا لحتمية فرار المسلم إلي الله ورسوله من وسط ضلال الحضارات المادية المعاصرة وذلك انطلاقا من أقوال رسول الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ العديدة والتي نذكر منها ما يلي‏:‏
‏(1)‏ لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية‏(‏ متفق عليه‏).‏
‏(2)....‏ والمهاجر من هو ما نهي الله عنه‏(‏ متفق عليه‏).‏
‏(3)‏ لا تنقطع الهجرة حتي تنقطع التوبة‏,‏ ولا تنقطع التوبة حتي تطلع الشمس من مغربها‏(‏ كل من الإمامين ابو داود والنسائي‏).‏
‏(4)‏ لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو‏(‏ كل من الأئمة أحمد‏,‏ النسائي وابن حبان‏).‏
وإذا وعي مسلمو اليوم الدروس المستفادة من هجرة رسول الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ لخرجوا من حالة التمزق والتشرذم التي يعيشونها اليوم والتي أدت بهم إلي التخلف والتراجع والانهزام في كل منحي من مناحي الحياة‏,‏ ولانتقلوا من مرحلة الاستضعاف والإذلال والاستغلال والاضطهاد التي يرزحون تحتها اليوم إلي مرحلة القوة والمنعة والنصر المؤزر بتأييد من الله‏-‏تعالي‏-,‏ وذلك بجمع الكلمة‏,‏ ولم الشمل‏,‏ والتوحد علي دين الله‏,‏ ولو حققوا ذلك لعادوا إلي قيادة العالم من جديد‏,‏ وتمكنوا من إنقاذه من الهاوية التي يتردي فيها اليوم في ظل تقدم علمي وتقني مذهل‏,‏ وانحسار ديني وأخلاقي وسلوكي مدمر‏,‏ وما ذلك علي الله بعزيز‏,‏ وهو تعالي يقول الحق ويهدي إلي سواء السبيل‏,‏ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‏,‏ وصلي الله وسلم وبارك علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته ألي يوم الدين‏.‏

المزيد من مقالات د. زغلول النجار


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.