كنت فى نومى أحلم.. أحلم أنى فوق سفينة تشق عرض البحر، وكنت أنا القبطان، كل شىء فى السفينة ملكى بصواريها ومشاياتها وألواحها وطاقمها وركابها، ولكن الحلم لم يكتمل مع أول إشراقة للنهار أتى صوت يتسلل أُذنى كالصاعقة صوت اعتدت عليه، مللّت منه وضجرت، كان صوت زوجتى العجوز: "قمّ .. قمّ" تصطك حرف القاف فى فمها وكأنها تتمضمض به.. قم.. قم بفمها الخالى تقريبا من الأسنان. انهض وهى تغمم وتأخد غمغماتها وتذهب بها إلى بعيد. أنزل للسعى على رزقى يجابهنى عرفة صاحب البيت فى آخر السلم بضخامة جثته وعندما أصير له وجهًا لوجه لا أرى سوى أنفه الغليظة التى تبدو بالبرتقاله الفاسدة وبحدة يسألنى: "فين أُجرة البيت؟ فيختلج صوتى ويضطرب تغيم عينى وأنا أجاهد لكى أتكلم.. جاهدت، جاهدت ثم قولت : - ح ح ح حاضر يا حاج عرفة ولو إن الشهر لسه عليه يومين بس حاضر. بصق على الأرض مرتين ،وتفحصنى من فوق لتحت ثم غادر مدخل البيت ومن بعده أنا. كنت أسير أتعرج مع الطريق أمر بالحوارى والأزقة كلها متشابهة ومتصلة وإنك من حيث بدأت السير فيها ستنتهى، وأرض الحوارى والأزقة غارقة بالقمامة ومياه المجارى والبثاق، وأهل الحى فقراء ووجوههم غليظة أسنانهم كالدبش المتكسر وعيونهم .. عيونهم حفر ..حفرا عميقة لا قرار لها لا ترحم مثل زوجتى ..اسير وامشى ثم ابتعد، ابتعد عن الحوارى والأزقة كما سرت لأول مرة باحثا عن النور والأشجار، والعصافير ولكننى لم أجد سوى العمارات الزجاجية العالية التى بلا أبواب ولا شبابيك كخوازيق من الاسمنت مغلفة بالزجاج. كانت لى عادة لازمتنى منذ الصغر، كنت ما إن أخرج من البيت حتى أنتقى من الأرض طوبة.. طوبة صغيرة أدفعها أمامى أضربها وأضربها بحذائى وأظل أضربها فى نشوة حتى أصل بها إلى باب عملى فأدسها فى جيبى. من أعلى هذه العمائر أقف أُلمّع الزجاج على سلم حديدى متحرك يصعد ويهبط، وكلما نظرت إلى الداخل وراقبت الناس أجد أن الناس هنا هم الناس والتغيرات بسيطة ومتفاوتة أتفرس ملامح وجهى المنعكسة على الزجاج فأرى حفر السنين على وجهى بوضوح، وكم صنعت من أخاديد ونقشت الأيام خطواتها على أجفانى فاثقلتها. الناس هنا أغنياء ويزدادون ثراءً يومًا بعد يوم، يرتدون ثيابا أفخر مما لبسوها يوم أمس وهم يمشون على أرض من مخمل.. من حرير. أشاهدهم من خلف الزجاج الذى اعتدت تلميعه، حيث كان يبدو للناظر من الداخل أنه لا يوجد زجاج من الأساس، ألمعه منذ أربعين عامًا. حينما كنت فى العاشرة من عمرى كان يوقظنى أبى بصوته المبحوح وفمه الخالى من الأسنان ويقول لى: قم .. قم أنهض وهو يبتعد مصطحبًا صوته القاسى معه. أنظف الزجاج كل يوم وكل يوم أقف وأنظر إلى أسفل كل شىء يتحرك للأمام والخلف إلا أنا.. فقط أصعد وأهبط كل شىء يتحرك السيارات الناس حتى الزجاج يفر من تحتى ويهرب إلى بعيد إلا أنا كنت أسبح فى سحابة من الهواء المتجمد معلقا على ذلك السلم المتحرك صاعدًا وهابطًا بيدين وهنتين ترتعشان أجتهد.. أنظف، وألمع ويأتى آخر الشهر مخصوما منى نصف المرتب رغم إخلاصى الشديد فى التلميع أعود إلى بيتى عابرًا الطريق مختنقا من خصم المرتب يزداد اختناقى كلما توغلت داخل الحى، وغرت عبر الحوارى والأزقة، الحوارى كلها متشابهة ومتصلة وأرضها من قمامة ومجارى والبصاق تسبح فيها الهوام والعرس أضع يدى على أنفى محاولا الهروب من الرائحة التى سأعتاد عليها بمجرد وصلى إلى المنزل وبمجرد مرور سواد الليل. مازال الناس هنا فى الحى فقراء بل يزدادون فقرًا يومًا بعد يوم ومازالت ملابسهم خرقاء مرقعة، فى ملابسهم ثقوب الثقوب كبيرة خاطوها لكنها أفلتت من الخيط، والوقت منتصف الليل، وهم لا ينامون وجوههم غليظة وأسنانهم المسوسة كالدبش المكسور وعيونهم الحفر الحفر العميقة سدت بأجفانهم السميكة، وحين ذاك أختلس الفرصة حيث لا أحد يرانى وأدس يدى إلى جيبى وأخرج طوبتى المنتقاة، وفى زجاج أحدهم أقذفها فيتهشم الزجاج، ويتساقط قطعًا متفاوتة الأحجام ثم أستتر بجدار قليلا وبعدها أجرى وأجرى، أهرول، أتوارى، وبداخلى خوف وسعادة وأنا أسمع صوت خناقات وزعق وشتم وأدعيه على من كسر الزجاج. "إنه لا يكسب ولا يربح.." وأنام هنيئًا ثم أستيفظ، أذهب إلى عملى وعندما أتذكر أمر الخصم من ماهيتى فأعاود البحث عن طوبة جديدة أفش بها خلقى حين أقذف بها زجاج ضحية جديدة من أبناء حى الضعفاء.