هدوء حذر.. سعر الذهب والسبائك اليوم الأربعاء بالصاغة وعيار 21 الآن يسجل هذا الرقم    البيت الأبيض: بايدن سيستخدم الفيتو ضد مشروع قانون يلزمه بإرسال الأسلحة لإسرائيل    بوتين: العلاقات التجارية والاقتصادية بين روسيا والصين تتطور بسرعة    سلمان رشدي: محاكمة ترامب في قضية منح أموال لشراء صمت ممثلة أفلام إباحية قد تفضي لسجنه    بعد توقف مولدات الكهرباء.. خروج مستشفى غزة الأوروبي عن الخدمة    "ديانج خارج الأهلي".. شرط وحيد لرحيل بيرسي تاو هذا الصيف عن القلعة الحمراء    بسام وليد: أتمنى استمرار أحمد عيد عبد الملك في قيادة غزل المحلة    أبو مسلم عن مواجهة الترجي: الأهلي متمرس في الفوز بالنهائيات والجميع يهابه    عاجل - الثانوية العامة 2024 "اعرف جدول امتحاناتك"    ميريل ستريب تحصل على السعفة الذهبية الفخرية في نسخة مهرجان كان لعام 2024    على خطى زاهي حواس، وسيم السيسي: التاريخ لم يثبت أن الله كلم موسى فوق جبل الطور    النائب إيهاب رمزي يطالب بتقاسم العصمة: من حق الزوجة الطلاق في أي وقت بدون خلع    تقسيم الأضحية حسب الشرع.. وسنن الذبح    الإعلان عن أول سيارة كهربائية MG في مصر خلال ساعات    اليوم، الحكم على المتهم بدهس طبيبة التجمع    امرأة ترفع دعوى قضائية ضد شركة أسترازينيكا: اللقاح جعلها مشلولة    مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 15 مايو في محافظات مصر    بسبب الخلاف على إصلاح دراجة نارية .. خباز ينهي حياة عامل دليفري في الشرقية    «تنمية وتأهيل دور المرأة في تنمية المجتمع».. ندوة لحزب مستقبل وطن بقنا    "دوري مصري ومنافسات أوروبية".. جدول مباريات اليوم والقنوات الناقلة    أمير عيد يكشف موعد ألبومه المُقبل: «مش حاطط خطة» (فيديو)    أحمد حاتم بعد انفصاله عن زوجته: كنت ظالم ونسخة مش حلوة مني (فيديو)    سمسم شهاب يترك وصيته ل شقيقه في حال وفاته    المالية تزف بشرى سارة للعاملين بالدولة بشأن مرتبات شهر يونيو    عضو بملجس محافظي المركزي الأوروبي يرجح بدء خفض الفائدة في اجتماع الشهر المقبل    أمين الفتوى: الصلاة النورانية لها قوة كبيرة فى زيادة البركة والرزق    3 قرارات عاجلة من النيابة بشأن واقعة "فتاة التجمع"    الهاني سليمان: تصريحات حسام حسن تم تحريفها.. والتوأم لا يعرف المجاملات    قيادي ب«حماس»: مصر بذلت جهودا مشكورة في المفاوضات ونخوض حرب تحرير    الأزهر يعلق على رفع مستوطنين العلم الصهيوني في ساحات المسجد الأقصى    مصطفى الفقي: معادلة الحرب الإسرائيلية على غزة تغيرت لهذا السبب    حظك اليوم وتوقعات الأبراج 15-5: نجاحات لهؤلاء الأبراج.. وتحذير لهذا البرج    نشرة أخبار التوك شو| تصريحات هامة لوزير النقل.. وترقب لتحريك أسعار الدواء    3 ظواهر جوية تضرب البلاد.. الأرصاد تكشف حالة الطقس اليوم الأربعاء (تفاصيل)    وزير الرياضة: نمتلك 5 آلاف مركز شباب و1200ناد في مصر    دعاء في جوف الليل: اللهم اجعلنا ممن تفاءل بخيرك فأكرمته ولجأ إليك فأعطيته    كاف يهدد الأهلي والزمالك بغرامة نصف مليون دولار قبل نهائي أفريقيا | عاجل    بشرى سارة للجميع | عدد الاجازات في مصر وموعد عيد الأضحى المبارك 2024 في العالم العربي    أثناء عمله.. مصرع عامل صعقًا بالكهرباء في سوهاج    بدأت باتهام بالتأخُر وانتهت بنفي من الطرف الآخر.. قصة أزمة شيرين عبدالوهاب وشركة إنتاج    وزير الشئون الثقافية التونسي يتابع الاستعدادات الخاصة بالدورة 58 من مهرجان قرطاج الدولي    مواعيد الخطوط الثلاثة لمترو الأنفاق قبل ساعات من بدء التشغيل التجريبي للمحطات الجديدة    اليوم.. التضامن تبدأ صرف معاش تكافل وكرامة لشهر مايو    إبراهيم عيسى: من يقارنون "طوفان الأقصى" بنصر حرب أكتوبر "مخابيل"    سعر الفراخ البيضاء والبيض بالأسواق اليوم الأربعاء 15 مايو 2024    تراجع سعر الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الأربعاء 15 مايو 2024    أسهل طريقة لعمل وصفة اللحمة الباردة مع الصوص البني    بعيدًا عن البرد والإنفلونزا.. سبب العطس وسيلان الأنف    أحمد كريمة: العلماء هم من لهم حق الحديث في الأمور الدينية    ريال مدريد يكتسح ألافيس بخماسية نظيفة في ليلة الاحتفال بالليجا    تعليق يوسف الحسيني على إسقاط طفل فلسطيني لطائرة مسيرة بحجر    نقيب الأطباء: مشروع قانون المنشآت الصحية بشأن عقود الالتزام تحتاج مزيدا من الضمانات    هل سيتم تحريك سعر الدواء؟.. الشعبة توضح    وزير الصحة يزور مستشفى كليفلاند كلينك أبوظبي.. ويشيد بالدمج بين الخدمات الطبية واستخدام التكنولوجيا المتطورة    وزارة الهجرة تشارك احتفال كاتدرائية العذراء سيدة فاتيما بمناسبة الذكرى 70 لتكريسها    محافظ المنوفية يبحث مع رئيس الجامعة تعزيز أطر التعاون لدعم خطط التنمية المستدامة بالقطاعات الخدمية والتنموية    وزير الأوقاف: نسعى لاستعادة خطابنا الديني ممن يحاول اختطافه    جامعة الزقازيق تتقدم 46 مركزا بالتصنيف العالمي CWUR لعام 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصتان


موسيقي تصويرية
في طريقي المنحدِر إلي النهر مررتُ ب "الحوت"، حانة قديمة، ومن نوافذها المواربة كانت تنبعث موسيقي بيانو. أصغيتُ، ثم فتحتُ الباب ودخلت. الحانة بها رواد كثيرون. لا يكاد ينفذ إليها شعاع من الشمس عبر زجاج النوافذ الذي تقف أمامه زهور بلاستيكية يغطيها التراب. علي الحوائط ملصقات إعلانية لأفلام من فترة الخمسينيات: مغبَّرة بالدخان. استقرت نظرتي بعيداً عبر المناضد عند الرجل الجالس إلي البيانو. سألت النادل عن عازف البيانو، وعرفت أنه كان طالباً بالمعهد العالي للموسيقي، ومنذ بضع ليالٍ فقط صار يكسب عيشه من عمله بحانة "الحوت". ذهبت إلي شنايدر - هذا هو اسمه - عند البيانو، وبقيت واقفاً إلي جواره وبيدي كأس، وجعلت أنظر إليه. شنايدر لم يأبه لي، وأنا أيضاً لم أبادره بالكلام، لأنه وهو يعزف، لم يكن يتوقف من وقت لآخر كي يُغيِّر النوتة الموسيقية أو كي يفرد أصابعه أو يأخذ رشفة من شراب، لا، كان عزفه متصلاً، كالنهر يمضي بلا حاجز يمنعه أو سد. لم تكن الموسيقي التي يعزفها معروفة لي، لكنها كانت تبدو كموسيقي تحاكي صوراً، موسيقي لصور تتحرك: موسيقي تصويرية.
بعد برهة اقتربت من البيانو ووقفت ملاصقاً له، بحيث يمكنني أن أنظر في عينيه، وفطنت أخيراً إلي ما كان يجري: عازف البيانو وهو يعزف، لم يكن ينظر إلي يديه، ولا إلي مفاتيح البيانو، ولا حتي إلي النوتة المفتوحة أمامه بلا فائدة، لا شيء من هذا، إنما كان ينظر لما وراء البيانو، دون أن يمد رقبته أو يحرك رأسه، ينظر للحانة المكشوفة أمامه، إلي الطاولات التي يجلس حولها الناس ويتحادثون. يتنشق شنايدر كل ما يدور أمامه في القاعة، كي يبثه سحراً في نفس الوقت من خلال البيانو. الفيلم الذي كان يعزف له هذه الموسيقي، كانت أحداثه تجري أمام عينيه، إذ كان شنايدر يلتقط واقع الحانة ويعكسه كمرآة صوتية.
دائماً ما يصب شنايدر تركيزه علي إحدي الطاولات، يدرس حركات وإيماءات الجالسين حولها. فإذا ما نهض أحدهم واقفاً فجأة، رأيت يده اليمني أيضاً تقفز علي البيانو في مشهد راقٍ؛ وإذا ما شاهدت في عينيه زوجين عاشقين، وجدت الموسيقي تذوب في انسيابية تامة، وإن نقر أحدهم علي الطاولة بغطاء زجاجة البيرة في تعاقب حاد، فإن النغمة عند شنايدر تصير حادة ومتقطعة؛ وإذا شرع أحد الرواد في الضحك بلا توقف، فإن إصبعي شنايدر، السبابة والوسطي، ترتعشان تماشياً مع المجال الصوتي للضحك. وعلي إحدي الطاولات انسكبت كأس، فصاحبتها يد شنايدر اليمني بأصابعها الخمس بتتابع (كُرد) علي المفاتيح، وانسكبت النغمة مع البيرة المسكوبة قبل أن تمسحها أنامل شنايدر مع ممسحة النادل.
في أثناء ذلك كانت اليد اليسري لشنايدر تؤدي نغمة مصاحِبة رتيبة، لعل شنايدر كان يحاول بها رسم القاعة المعبَّقَة بالدخان، الحانة بكاملها، بطابعها الخامل المنهوك، ونهر الأحاديث متعدد المنابع. في دفقات عميقة هامسة كان شنايدر يبث كل ثرثرات الجالسين عبر آلة البيانو.
كان عزف شنايدرعلي درجة عالية من الجودة التي تتسم بها الموسيقي التصويرية الجيدة لبعض الأفلام: إلا أن أحداً لم ينتبه لها. لا أحد من رواد الحانة يكترث لعازف البيانو، كانت الموسيقي تُحلِّق حولهم كأنفاس مصاحبة لأنفاسهم وكأنها تنبعث منهم دون أن تُسبب لهم أدني مضايقة. وكان الحاضرون مشغولون بأنفسهم وبما يقولون ويفعلون. لم يخطر ببال أحد منهم أن البيانو يلتقطهم جميعاً ويحاكيهم بوضوح وبدقة بارعة. كان كل شيء بالنسبة لهم في إطاره الطبيعي، تماماً كما لو كان العزف، مثله مثل الدخان والبيرة، شيئاً مما أَلِفوه واعتادوه في هذا الحيز.
وعندما كنت أجد أن الموسيقي التي أسمعها لم تعد تتماشي مع ما أراه، فإني أنظر مباشرة إلي شنايدر لأتبيَّن إلي أي وجهة تحولت نظرته، غير أني أحياناً كنت أحاول أن أُخمِّن وأكتشف بنفسي الطاولة التي حوَّل شنايدر إليها نظره للتو. وبينما كنت أُنقِّل بصري بين الطاولات، مشدوهاً، ومكبَّلاً بأغلال من النغمات، انتبهتُ فجأة لتغيُّر في الموسيقي. كانت نغمات عميقة خفيضة، واصلت انخفاضها لتصبح أكثر انخفاضاً من النغمة المصاحبة التي تؤديها اليد اليسري: كان شنايدر قد بدأ يعكس وضع يديه، فصارت اليُسري تحاكي الناس بثرثراتهم العبقة برائحة البيرة، بينما امتدت اليمني من فوق معصم اليد اليسري وبدأت زحفها علي الطبقة الواطئة للبيانو، هذا الزحف البطئ المنهَك كزحف السلحفاة.
حدستُ بالطبع أنه الآن ينظر إليّ، أنا الذي ما زلت أقف وبيدي كأسي الأولي، وأصابني الاضطراب من هذا الزفير الخافت المنبعث من البيانو. لم أجرؤ علي أن أتأكد من صدق حدسي، وتعلقتُ بمحاولة إيجاد معادل بصري لهذه الموسيقي في أرجاء القاعة المظلمة. لكني لم أنجح في ذلك. ازدادت النغمات انخفاضاً. بدت وكأنها تنحدر إلي السكون. كان عليَّ أن أُقر بأن شيئاً مما أراه لم يكن يتطابق مع ما أسمع. ربما كان يتوجب عليَّ النظر في عيني الرجل الجالس إلي البيانو، فقد كنت أود أن أعرف بشكل قاطع إلامَ يتجه عزفه. هل كان حقاً يعزف هذه النغمة وهو ينظر إليّ؟ لم أكن متيقناً، لكني كنت حقاً في قمة السكون، لم يكن يتحرك لي جفن، لكن كيف أمكن له، هذا الشخص الجالس إلي البيانو، أن يعصرني لحناً موسيقياً علي هذا النحو، هذا الانحدار الزاحف إلي قيعان معتمة، ماذا كان يري، وكيف تسنَّي له ذلك دون أن يعرفني؟
استدرت.
وبالفعل كان شنايدر ينظر إلي وجهي مباشرة وبشكل سافر.
أنهي العازف الشاب عزفه، وترك يديه ترتاحان قليلاً علي لوحة المفاتيح وهما متقاطعتان إحداهما فوق الأخري، كأنما يقدمهما لخصمه كي يضع فيهما الأغلال، ثم نهض فجأة وأنزل غطاء البيانو.
الحفَّار
يَخرج آخِرُ أنفاسها بصفير جاف، رائحته كهواء منفاخ الدراجة القديم. تَجمد نظرتُها: أمامها مباشرة صوب اللحاف وما تلاه. فأٌغمض لها عينيها.
أنهض، ببطء، أغادر غرفة المعيشة وأخطو خارجاً إلي الحديقة. الكوخ الصغير مغطَّي بالتراب والطين. والكُريك القديم قد دبَّ فيه الصدأ. أجلس علي المقعد الصغير، ألتقط حذاء الحديقة وأنفضه. الحذاء جاف ومتصلب. الجلد تكلَّس مع الوقت. ألبس الحذاء فوق الجورب.
البقعة التي أحفر فيها أكثر قتامة من بقية مساحة الأرض. أطعنها بالكُريك، التربة جامدة، نصف صلبة. يشق عليّ أن أسحب الكُريك وأُفرغ ما به من التربة جانباً. أقف ساكناً وأتكئ علي الكُريك، تخرج مني أنفاس باردة.
مجرد طبقة قشرية، هكذا أفكر، لا بد أن هذا يكفي، فليس أكثر من ذلك: ظهري، ويديَّ المرتعشتين، وعضلاتي
الهامدة. بعد نصف ساعة أصبحت الحُفرة السطحية متسعة بما يكفي. أغرز الكُريك في كومة التراب بجانبي. صدري يعلو ويهبط كمنفاخ الكير. أضع نفسي في الحفرة. في البداية تُغمَض العينان. ثم يسبح ظهري في برودة التربة.
أول مرة أحفر فيها كنت في الثامنة عشرة، وكان ذلك قبيل امتحان الثانوية. وللدقة: كان ذلك في اليوم الذي يسبق الامتحان الشفوي. وأنا أتحدث هنا عن الحفر، ليس عن تقليب أرض الحديقة في الخريف، والذي كنت قد كُلَّفت به قبل ذلك بسنوات (في الثالثة عشرة)، لأن الحديقة كانت كبيرة جداً. هذا العمل بتقليب أرض الحديقة في الخريف، بوسعي أن أقول عنه الكثير، أنني مثلاً كنت أقوم به عن طيب خاطر، وأنني كنت عند عودتي من المدرسة، وبعد الأكل مباشرة، أضع علي جسدي ملابسي القديمة (الهلاهيل)، وأظل ساعة تلو ساعة أقلِّب الأرض، وأجلب لها بعربة اليد (البرويطة) السباخ الجديد من أكوام الروث، وأخلطه بالتربة، حتي إذا ما حل المساء تكون ناحية كاملة من الحديقة قد رُدَّت إليها روحاً جديدة بعد أن كانت تكسوها الحشيشة وقد عفا عليها الزمن، وكأنني حررتُها من سجن شديد الحراسة. حين يعود أبي بعد ذلك إلي البيت، كان يخطو نحو المساحة المعزوقة، بنظرة فاحصة، أحياناً ينحني ليلتقط حصاة أو بقايا عشبة صغيرة بين التراب ويقذف بها إلي ممر الحديقة، ويقول، حسناً، ما يزال هنا نقب صغير، لكنه بشكل عام كان يبدو راضياً ويومئ بعلامة الاستحسان.
ومن ثم، عندما كنت مستلقياً في فراشي ليلة الامتحان الشفوي ولا أستطيع النوم، نهضت، وارتديت ملابسي وخرجت إلي الحديقة. الواقع أنني كنت أريد أن أتنسم بعض الهواء المنعش، فيحملني الأكسجين علي النعاس، إلا أنها كانت ليلة مضيئة جداً، وبمجرد أن رأيت مساحة خالية من الأرض ذ كان أبي قد حصد منها بشائر البطاطس في اليوم المنقضي ذ دهمتني بشكل مفاجئ تلك النزعة. في الكوخ لبست حذائي الشتوي (بوت)، وأخذت الكُريك، وبدأت أحفر. حفرتُ حفرة. لم أكن أُولي أهمية لما أصنع، وإنما كنت ببساطة أتبع كالأعمي تلك المتعة التي جذبتني. متعة أن تحفر بوحشية، ولأن المساحة المتاحة لي كانت صغيرة، فقد كنت أواصل حفري لأسفل، للعمق لا للاتساع الأفقي. وعندما بلغ عمق الحفرة قرابة المتر، وبينما أنا واقف أتصبب عرقاً وقد غرزتُ الكُريك في مكان ما، لم أتردد، بل ألقيتُ بنفسي داخلها. كانت ضيقة، فاضطررتُ لثني ساقَيّ.
استلقيتُ فيها وجعلتُ أنظر خارجها
من موضعي فيها لم أكن أستطيع رؤية القمر، بل السحب فقط، وهي تمر عبر الليل المضيء. كانت برودة الأرض غير محتملة. لم أبق راقداً فيها وقتاً طويلاً، لكنه كان كافياً لأستريح، وأحصي أنفاسي، وأظفر بذهن صاف. كم كان ردم الحفرة بالنسبة لي سهلاً ومنتظماً، وكأنما يدي تعمل بإيقاع ثابت. اغتسلتُ بماء دافئ، وأويتُ إلي فراشي، كانت الخامسة صباحاً، وسرعان ما رحتُ في النوم.
داومتُ علي الحفر. كنت أحفر قبل الامتحانات في فترة دراستي، وقبل مقابلات العمل، وعندما كانت شركتنا مقبلة علي إفلاس. حفرت أيضاً حين مات أبي، وحفرت عندما توجب علي امرأتي البقاء بالمستشفي لفترة طويلة عقب ولادة ابنتنا. كنت دائماً أحفر في نفس البقعة من الحديقة. مرة أحفر بأناة وحرص وعناية، ومرة بوحشية وهمجية كأنني في حالة سُكر. مرة أحفر طويلاً بشكل متواصل حتي أكاد أسقط من الإجهاد، ومرة يكون الحفر متعجلاً لفترة قصيرة دون أن يظهر علي جسدي شيء من العرَق. مرة أحفر لعمق بعيد حتي تفقد الأرض سُمرتها الطينية وتبدأ في التحول إلي تربة رملية فاتحة، ومرة تكون الحفرة سطحية حتي أنني أضع ذراعيَّ علي حافتيها وأنا مستلق بداخلها. مرة تكون التربة جافة ودافئة وعَفِرة، ومرة تكون رطبة وتلتصق منها كُتل طينية بالكُريك، حتي أنني أضطر للتوقف وإزالة الوحل بقدمي من علي الكُريك. وبعد الحَفر، حين أرقد في الحفرة، ينفتح بداخلي كل ضيق، أتنفس بعمق وأحاول أن أستنشق رائحة الأرض وأستعذبها، أتلصص علي دودة الأرض وهي تنكمش، أمر براحة يدي علي محيط الحفرة من الداخل، وأتأمل هذا القطاع الصغير من العالم الذي تمثله لي هذه الحفرة.
ذات يوم، كنت في الستين آنذاك، كانت ابنتي قد جاءت لزيارتي ذ كانت قد أحضرت معها زوجها، جلسنا طويلاً وتحدثنا كثيراً حتي احتجتُ إلي أن أحضر زجاجة مياه أخري، إلا أنني تذكرت وأنا في الممر أنني نسيت أن آخذ معي الزجاجة الفارغة، فرجعت، وعلي عتبة باب
حجرة المعيشة توقفت، بينما كانت ابنتي، ولم تكن تراني، تقول هذه الجملة، هذه الجملة الوحيدة، تقولها لزوجها بصوت مفعم بالأنين: تعال بنا نمضي من هنا سريعاً، فلم أعد أستطيع أن أتحمل لغوه أكثر من ذلك. وهنا التفتتْ ورأتني ففزعَتْ. كانت تريد أن تعتذر مني، أن توضح لي أنها لم تكن تقصد ما قالته علي هذا النحو، لكنني لم أزد علي أن قلت: ولكنكما تريدان الانصراف. وصرفتهما.
بعد ذلك أخذت مصباحي اليدوي وبدأت أحفر. كان الظلام دامساً، ولم أكن أري ما أفعل ولا أين أغرز الكُريك. كان المصباح فقط يزغلل العين ولا يكاد يضيء. في تلك الليلة كانت الأرض علي غير العادة غريبة عليّ. لم أكن أراها، ولم أكن أشم رائحتها، فقط كنت أسمعها: صوت الطعنة وهي تشق الأرض كأنها تشق قطعة من الورق؛ ورفع التربة إلي خارج الحفرة وسقوطها المكتوم كضربة خفيفة جداً علي طبول البونجو Bongo الكوبية. ولما رقدتُ أخيراً بالأسفل، لاهثاً، وعلي وجهي قطرات من غيظ، احتجت لفترة طويلة كي أهدأ، واحتجت لفترة أطول وأطول حتي تحمل عني الأرض أثقالي، فقمت وأعدت الطين إلي مكانه القديم.
اليوم أترك الحفرة مفتوحة، لا أردمها، إذ أنني أشعر بالبرد. كما أنني متعَب. أستحم. وبعد ذلك أدخل، مرتدياً البُرنُس، إلي الحجرة التي ترقد فيها زوجتي. كان عليَّ أن أهاتف أحداً. لكنها حتماً ستُحمَل إلي مكان ما، ولن تعود بعد ذلك. لماذا؟ هو أغبي سؤال يمكن أن يُسأل، حين يفقد إنسانٌ إنساناً: لماذا؟
حين تركتني زوجتي للمرة الأولي، كنت في الخامسة والعشرين، وجعلتُ أحفر بحزن بالغ. كنت أحفر بدموع، أحفر بخفقان في الصدر، بوقفات قصيرة خاطفة لم يكن فيها جسدي سوي شجرة مهتزة. كنت أحفر وأمام عيني أستار من الضباب. حفرت في النجيلة. كنت أهوي بالكُريك عميقاً جداً، أهوي به حيثما يهوي، أو أضرب بظهره الحديدي علي تراب الحفر لتسويته. انحنيت وجعلت أحفر بيديّ، أجوس بأصابعي في هذه السُمرة الطينية الليِّنة الرطبة، أجمع بأظافري خلاصة هذه التربة حتي امتلأت أظافري وتلونت بالأسود. لم يكن هناك سبب للانفصال، أو كما يُُقال "لماذا؟"، إنه السؤال الأغبي علي الإطلاق. مضت هكذا ببساطة، وفي آخر مرة رأيتها، كان بيننا حائل من زجاج، في المطار. لم أستطع سماع ما قالت، لم يُتح لي أن أشم رائحة شعرها، كل ما ظفرت به هو أنني استطعت أن أري كيف كانت تحرك فمها، تمنيت لو أري علي شفتيها صوتاً عالياً مغلقاً (i-laut)، ممزوجاً بيقين أنني سأراها ثانية، إلا أنني لم أر غير صوت منخفض مفتوح (u-laut)، بدت وكأنها قبلة وهمية، بالطبع كانت شيئاً آخر أبعد ما يكون عن القبلة، كانت مجرد نظرة حزينة: آسفة.
ثم استدارت ومضت. دون أن تنظر خلفها. لكنها كانت تقف قريبة جداً من الحاجز الزجاجي، لدرجة أن آخر زفير لها قد انطبع علي الزجاج، ثم بدأ يتلاشي من أطرافه كما يحدث لورقة تحترق
هل ترددت في السفر إلي الولايات المتحدة؟
- كلا، كنت أتدرب كي أصبح مترجماً، وأردت أن أستمر في تعلم الانجليزية، ودرست الشعر الأمريكي في جامعة شاندونج. واقترحت أستاذة في الجامعة أن أذهب إلي الولايات المتحدة كي أدرس الأدب الأمريكي. إلا أنني لم أخطط في ذلك الوقت للابتعاد عن الصين طويلاً.
وهل عدت إلي الصين مرة أخري؟
- لم أعد أبداً، وإن كنت زرت تايوان وهونج كونج. كنت متلهفاً علي العودة في البداية، للقاء الأهل والأصدقاء. حاولت كثيراً، إلا أنني لم أتمكن من تجديد جواز السفر لمدة سبع سنوات، لم أغادر فيها الولايات المتحدة. وحين حصلت علي الجنسية فكرت في السفر إلي الصين، إلا أن كتبي محظورة هناك. يمكنني دخول البلاد، أما كتبي فلا يُسمح بدخولها. لم أشعر بارتياح لهذا المنطق.
ولماذا يتم حظر كتبك في الصين؟
-كتبي تغضب السلطات الصينية كثيراً، لأنني أكتب عن المُحرمات الصينية: إقليم التبت، الحرب الكورية، الثورة الثقافية، ومذبحة ميدان السلام السماوي التي دفعتني إلي تحدي الصمت والتعبير بقوة وصراحة عما يجيش بداخلي. لا أتعمد الكتابة عن السياسة، إلا أن شخصياتي تتواجد في مناخ سياسي، ومن ثم لا يمكنني تحاشي السياسة خصوصاً عند الحديث عن الصين. كما أن السلطات الصينية تخشي القصص التي تسرد من وجهة نظر شخصية. كما يتم النظر لي أحياناً باعتباري خائناً للغتي الأم، لأنني أكتب بالانجليزية. وبالنسبة لهم، أنا نموذج سلبي، فقد ذهبت إلي أمريكا، ولا ألتزم بمباديء الحزب.
ولماذا قررت أن تكتب بالانجليزية؟
- أردت أن أنسلخ عن سطوة الدولة الصينية. اللغة الصينية بها الكثير من الرطانة السياسية، ويمكن أن تتحدث بها كثيراً دون أن تقول شيئاً؛ لأن هذه الرطانة أصبحت من مكونات الوعي الشعبي. وفي أغلب الأحيان، لا يسألك أحد عن معني ما تقول. وهناك أمر آخر، كتبت بعض القصص والقصائد باللغة الصينية، ولم أنشرها. أين كنت سأنشر أعمالي إن داومت علي الكتابة بالصينية؟ كان لابد أن أنشر في الصين حيث يتم عرض أعمالي علي الرقابة، وساعتها سأصبح تحت رحمة الرقيب. وفضلاً عن هذا، فلقد مكنتني الانجليزية من الكتابة بموضوعية وحرية أكثر.
وهل كانت الكتابة بالانجليزية عملية يسيرة ؟
- استغرق الأمر مني عاماً كاملاً قبل أن أقرر الكتابة بالانجليزية، كنت أرهب الأمر. الكتابة الأدبية لا تعني مجرد تأليف كتب، ولكنك تحتاج إلي السيطرة علي فضاءات اللغة، وكان هذا يثير رهبتي. وإلي جانب السعي لكسب الرزق، كنت أبحث عن مبرر لوجودي في الحياة، وأحاول مقاومة ما يأسرني ويجبرني علي الصمت. بالنسبة لي، من يكتب يتعرض للمعاناة، إلا أن لهذه المعاناة قيمة، فأنا أخوض معركتي علي الورق.
وهل تخلق اللغة الانجليزية عازلاً بينك وبين الصين؟
- لا شك أنني أعاني نوعاً من الاغتراب. لقد عشت حوالي ثلاثين عاماً في الصين، ومن الجنون أن أتجاهل الماضي. ولكني أعتقد بوجود عدة دوافع قوية لكي يستخدم كاتب ما لغة أخري في الكتابة، منها الطموح والضرورة، والقطيعة مع الوطن الأم. تعتبر القطيعة أكبر دوافع استخدام لغة أخري. وأظن أن هذا هو السبب في رغبتي في الابتعاد عن تناول الصين المعاصرة في كتاباتي القادمة، وأن أكتب عن الولايات المتحدة، وتجربة الهجرة. كما أن كتاباتي باللغة الصينية قد تخلق فجوة بيني وبين وطني، تخلق نوعاً من المسافة بسبب الواقع السياسي.
الصين المعاصرة هي موضوع أعمالك الأساسي، لماذا لا تكتب عن الصين القديمة؟
- عندما تكتب شعراً أو سرداً، تحتاج إلي معرفة وثيقة بالأشخاص والمواقف التي تتناولها عن طريق الخبرة الشخصية أو عن طريق البحث. عليك أن تكون علي دراية تامة بالمكان، والواقع الفيزيائي، والتفاصيل الحية والواقعية. لم أكتب عن الصين القديمة بسبب عجزي عن الكتابة عنها، بل لأننا حين نكتب قصصاً تاريخية، نتعرض لخطر الوقوع في أسر التاريخ. ويكون السؤال الجوهري هو كيف تقفز من التاريخ إلي الأدب، وهو أمر شاق للغاية. وبالطبع هناك أمثلة رائعة لكتاب قدموا روايات تاريخية عظيمة.
هل تعتبر نفسك كاتباً أمريكياً أم صينياً الآن؟
- أنا كاتب صيني أمريكي، لأنني عشت ثلاثين عاماً من عمري في الصين كما قلت من قبل، وهذه الفترة جزء من ميراثي. كما أعتبر نفسي مهاجراً ولست منفياً. إلا أنني أود أن أصبح كاتباً أمريكياً، ولا يمكن أن أكتسب ذلك الوصف إلا من خلال أعمالي الأدبية، إذا أصبحت كتبي ذات قيمة بالنسبة للتجربة الأمريكية.
يري البعض أنك تأثرت ببعض الكتاب، هل تري هذه التأثيرات فعلاً في كتاباتك؟
- لقد قرأت رواية سينجر "ظلال في هاديسون"، وهي رواية عظيمة حقاً. يمكن أن أتفهم التجربة التي يحكي عنها، رغم أنه يكتب باللغة الألمانية. كما أحب رواية "عناقيد الغضب". وقرأت هيمنجواي وأنا في الصين. لم تكن كل كتبه متاحة. أعجبتني رواية "العجوز والبحر"، لأنها رواية قصيرة ومكتوبة بلغة واضحة، كما كانت مطبوعة في نسخة مترجمة إلي اللغة الصينية. إنها رواية شهيرة في الصين. كانت تعكس الذهنية الأمريكية، ومن ثم حازت قبولاً في أوساط الشباب في ذلك الوقت، وتحدثوا عنها كثيراً.
هل تقرأ عادة لكتاب آخرين لدعم الرواية التي تعكف علي كتابتها؟
-بالطبع، فهذا أمر من شأنه إثراء العمل الذي أعكف علي كتابته. حين كنت أكتب رواية "انتظار"، كنت أعلم أنني بصدد كتابة رواية عن الحب، فسألت نفسي، ما هي أفضل روايات الحب؟ آنا كارنينا، ومدام بوفاري.. كانت روايات الحب الأوربية مصدر دعم وإلهام لهذه الرواية. وقبل أن أكتب رواية "المخبول"، قرأت أعمال ديستوفيسكي. ولأن رواية "في البركة" كوميدية الطابع، قرأت جوجول كثيراً. ومن أجل كتابة رواية "حياة حرة"، قرأت اثني عشر كتاباً من أدب المهاجرين.
بالنسبة للشعر، هل تأثرت أكثر بالشعر الصيني أم الأمريكي؟
- بالشعر الانجليزي، لأنني درسته في الجامعة حين كنت طالباً، وتأثرت كثيراً بالشاعرين جورج هربرت وتوماس هاردي. أما بالنسبة للشعراء الأمريكيين فقد تأثرت بالشاعر روبرت فروست؛ لحساسيته في رصد الأجواء المحيطة به.
هل تحتل فكرة القمع مساحة كبيرة في أعمالك؟
- لا أظن أنه ينبغي علي الكاتب أن يطرح حلولاً في أعماله، ولا يفصح عن طبيعة شخصياته بشكل كامل. عليه أن يكتفي بوصف وعرض المشكلة. عليك ألا تسمي مشكلة الشخصية، بل أن تصف أثرها. هذا يجعل الموقف أكثر عُمقاً وقدرة علي الإيحاء، وبذلك يرتبط القاريء بالشخصية.
هل تعتقد أن رواياتك تتسم بالوحشية؟
- عندما ذهبت إلي أوربا، سألني بعض المترجمين لماذا أكتب عن المواقف المزرية والحقائق التي تتسم بالوحشية، لكن الوحشية تنبع من الواقع التي تعيشه الشخصيات. يمكن اعتبار رواية عناقيد الغضب رواية وحشية. الفن في أحد أوجهه انعكاس للواقع، وأنا أعتقد أن مشهداً مثل مشهد الاغتصاب في رواية "انتظار"، مبرر تماماً، فهو يُظهر كيف أصبحت "مانا" ضحية، كما ينم عن سلبية "لين"، ويكشف قسوة الحياة.
.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.