الأمم الساعية إلى البناء والتنمية عليها أن تراجع المفاهيم التى كانت سائدة لديها فى الماضى، فى محاولة للتغلب على أخطاء الماضى وتجاوزها، والتركيز على الإيجابيات قدر المستطاع، وعلاج السلبيات إن كان إلى علاجها سبيل، واستحداث آليات جديدة للنهوض والتنمية بالبلاد، ولن يقتصر الأمر هنا على مؤسسة بعينها إنما يشمل كل قطاعات الأمة، من تربية إلى تعليم إلى صناعة وصحة وإلى إعلام ومؤسسات دينية وغيرها، الكل يعمل لأجل الله ثم الوطن. وإذا كنا قد خصصنا مساحتنا هذه للحديث عن الخطاب الدينى وآليات تجديده ليكون خطابًا دينيًّا بنَّاء، ينهض بالإنسان والبنيان على حد سواء، محاولين أن نستنبط من القرآن الكريم ومن هدى النبى -صلى الله عليه وسلم- والسلف الصالح الدروس والعبر التى بها يستقيم أمر الأمة، فاليوم نتحدث عن دور الخطاب الدينى فى بيان آداب طلب العلم وما ينبغى أن يكون عليه طالب العلم لتحقيق الغاية المرجوة كما أسلفنا وهى تنمية الأوطان. هناك صفة مشتركة بين التعليم والخطاب الدينى، فكلاهما يؤدى رسالة إصلاحية، وهادية إلى الحق والصلاح، وكلاهما يعلم الناس ويبين لهم ما استشكل عليهم، وكلاهما غايته الحق، حتى وإن اختلفت الوسائل، ويبقى أن نقول إن الخطاب الدينى اليوم- كأحد وسائل تشكيل الوعى بجانب مهمته الشرعية - تقع عليه مسئولية رفع الوعى لدى شرائح مختلفة من المجتمع، والتى منها طلبة العلم. وهناك من الآداب الكثير التى لا بد أن يبينها الخطاب الدينى لمن يطلب العلم، منها أن يكون العلم غاية لنفسه، ولا فرق هنا بين علم وعلم، المهم تحقق المنفعة للفرد والأمة، يقول النبى الكريم -صلى الله عليه وسلم- "من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سلك الله به طريقًا من طرق الجنة"، فالعلم والطريق جاءا نكرة للعموم، أى علم وأيةُ طريق، شريطة تحقق المسلك الطيب والعلم النافع، ولا ينبغى أن يكون العلم مطية يصل بها أصحاب الأهواء المريضة إلى أغراضهم السيئة. وكى يؤتى العلم والتعلم ثمارهما، وتجنى الأمةُ منهما الثمار الطيبة، فعلى الخطاب الدينى توجيه طلاب العلم إلى عدم الانشغال بأى شىء دون العلم، بل يحثهم على ألا يتركوا نوعًا من أنواع العلم تكون فيه فائدة لهم إلا تعلموه، يقول الإمام الغزالى فى كتابه الماتع إحياء علوم الدين: "أن لا يدع طالب العلم فنًّا من العلوم المحمودة ولا نوعًا من أنواعه إلا وينظر فيه نظرًا يطلع به على مقصده وغايته، ثم إن ساعده العمر طلب التبحر فيه وإلا اشتغل بالأهم منه واستوفاه وتطرف من البقية، فإن العلوم متعاونة وبعضها مرتبط ببعض، ويستفيد منه فى الحال الانفكاك عن عداوة ذلك العلم بسبب جهله فإن الناس أعداء ما جهلوا، قال تعالى: {وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم}". وإذا كانت الأخلاق فى الإسلام هى المبادئ والقواعد المنظمة للسلوك الإنسانى، لقول النبى -صلى الله عليه وسلم- "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" فعلى الخطاب الدينى أن يبين أنه لا انفكاك بين العلم ومكارم الأخلاق، وإذا كانت الرسالات السماوية هدفها بالأساس أخلاقى، فأولى بالعلم الذى هو جوهر الدين الإسلامى أن يتسم بمكارم الأخلاق، وأولى بمنتسبى العلم أن يتحلوا بمكارم الأخلاق، فأى فضيلة فى طالب علمٍ أو حتى عالمٍ لا يتسم بحسن الخلق؟! وأية فائدة مرجوَّة من عِلمٍ يحمله طالب علم لا يتحلى بالأخلاق الحميدة؟! فالمعلم الأفضل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ربط بين الإيمان وحسن الخلق، لما للأخلاق من أهمية عظيمة فى الإسلام، فلما سئل -صلى الله عليه وسلم- "أى المؤمنين أفضل إيمانًا؟"، قال -صلى الله عليه وسلم- "أحسنهم أخلاقًا"، وفى رواية "خِيَارُ أُمَّتِى أَحَاسِنُهُمْ أَخْلَاقًا"، ولله در الشاعر القائل: لا تحسبنَّ العلمَ ينفعُ وحدَه ما لم يتوَّج ربُّه بخلاقِ وعلى الخطاب الدينى بيان أن التواضع وعدم التكبر على الآخرين من أساتذة وزملاء من أهم صفات التأدب فى طلب العلم، وهو وسيلة عظيمة لتحصيل العلم، قِيلَ للخَليلِ بن أحمدَ أحد علماء العربية الأفذاذ ومؤسس علم العروض "بِمَ أَدرَكت هذَا العلمَ؟" قَال "كُنت إذا لَقِيتُ عالمًا أَخَذت منه، وأَعطَيته"، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه". كما أن الخطاب الدينى يؤكد أن من آداب طلب العلم هو التفرغ له بالوقت والجهد والتفكير، وعلى طالب العلم ألا يصرفه عن علمه شىء آخر، إذ الغاية التى يسعى إليها هى تحصيل العلم والاستفادة منه، وإلا فكيف يذهب لطلب العلم وذهنه شارد فيما سواه، أو أنه انشغل بأمور أخرى غير طلب العلم، فما الجدوى إذًا من إضاعة وقته وجهده فى أمر هو لا يعيره اهتمامًا، بحيث ندخل منطقة أخرى لا يعرف فيها طالب العلم هل هو بالفعل غايته التعلم أم أن أمرًا آخر ينازعه رغبته فى التعلم، وقتها عليه أن ينتبه إلى نفسه، ويراجعها حتى لا يكون كالمنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى. وطلب العلم له آداب كثيرة لا ينبغى على طالب العلم أن يغفلها، بل يضعها نصب عينيه لا يحيد عنها، فالعلم قبل أن يكون غاية فهو رسالة، والرسالات كما أسلفنا مرتبطة بالفضائل، والعلم كرسالة هو مرتبط بمحاربة الجهل بكل أشكاله وأنواعه وبطرق متعددة، كما أنه بجانب محاربته للجهل يقدم النفع للأمة من خلال هؤلاء الطلاب بما يتعلمونه من علم نافع، يعود أثره عليهم وعلى مجتمعهم. لذا يجب ألا يشغل طالب العلم عن علمه شىءٌ، ولا يثنيه عن رسالته شىء، وعليه أن يكون أهلاً لهذا العلم الذى يتعلمه ويحمله، وأن يكون خير سفير له فى مكان الدرس وخارجه، فالأمة التى تقدِّر العلم أمة تستحق أن تكون أعظم الأمم.