1 كنا كأننا فى بلد محتل، بل ربما لم نذهب إلى السودان وذهبنا إلى الجزائر بالخطأ، الأعلام الجزائرية ترفرف فى كل مكان، الجزائريون يسيرون بعرباتهم فرادى وجماعات وهم يحملون الأعلام ويهتفون للأخضر، لا نلمح علما مصريا إلا على فترات متباعدة، نلمحه على استحياء، ورقيا صغيرا، مع سيدة سودانية، أو نجد مصريا يبحث عنه فلا يجده. أحد زملائى لمح سودانيا يحمل علما مصريا صغيرا فهرول نحوه ضاحكا ليقبله " فينك يا راجل من زمان ؟ "، وبعد أن انصرف جاءه بعض الجزائريين فألقوا العلم أرضا، وبصقوا على الرجل، كان عدد الجزائريين كبيرا، يسيرون جماعات فى كل مكان، فنشعر بالخوف بسبب أعدادنا القليلة وبسبب عدوانيتهم. 2 كنا فى بلد ضرب عليه الحصار، يخشى المصريون التحرك فى المدينة التى كانت آمنة أو الذهاب إلى مطاعمها خوفا من هجوم الجزائريين الذين كانوا يتعاملون معنا ببغض وكراهية غير مبررة، كانوا يشترون كل الأسلحة البيضاء والسواطير الموجودة فى السوق السودانى بأسعار مضاعفة، يهددون حتى السودانيين الذين يشجعون مصر، أحد المصريين حكى لى أن جزائريين استوقفوه ووضعوا ساطورا على رقبته وقالوا له " لن نقتلك " ثم تركوه محطما نفسيا، لم يكن كل السودانيين معهم، لكنهم سبقونا فى التحرك فبدأوا التوافد إلى السودان عقب انتهاء مباراة القاهرة مباشرة، كل يوم 20 طائرة، كانوا يوزعون على كل سودانى 20 جنيها وعلما مقابل أن يضعه فى بيته أو سيارته أو دكانه، لذا كنا نرى بعض السودانيين يضع علم الجزائر ويهتف لمصر، حالة التجييش هذه، والحرب النفسية ساعدت فيها السفارة الجزائرية فى السودان التى كانت تمنحهم الأعلام مجانا، والتذاكر والنقود لكى يستطيعوا أن يشتروا ما يريدون، على عكس السفارة المصرية التى كانت تحارب المصريين هناك. 3 قال لى أحد المصريين العائشين فى السودان " يوجد فى السودان 6 ملايين مصرى، ومع ذلك لن يستطيعوا الذهاب إلى المباراة لأن السفارة ترفض إعطاءهم، أو بيع التذاكر بأى سعر لهم". مصرى آخر جاء لنا لكى يحصل منا على علم من مجموعة الأعلام القليلة التى جئنا بها من مصر لكى نستخدمها فى البرنامج، وقال" ذهبنا إلى السفارة لكى نطلب أعلاما فضربونا "، هذه الرواية أكدها لى أكثر من شخص، فالسفارة لا تمنح أعلاما أو تذاكر لأى شخص، حين قابلنا السفير لكى نسجل معه، بدا متعجلا، ورفض بشكل غريب، لا يريد أن يستمع لأى شىء، وقام لينصرف بسرعة ولما سمع عن تجمع بعض المصريين أمام باب السفارة أمر الأمن بتفريقهم حتى يستطيع أن يخرج.. لم نكن نعلق، لكننا كنا نتابع بتعجب عن كيف يتعامل المسئول عن المصريين فى هذه البلد معهم، حين حاولنا أن نفهم أرانا الملحق الإعلامى كراتين ممتلئة بالتسعة آلاف تذكرة الخاصة بمصر، وقال المشكلة أن كل هذه التذاكر محجوزة للقادمين من مصر من الحزب الوطنى والفنانين والوزارات المختلفة "لم يكن هناك أى تعليق مناسب سوى أن نتركه وننصرف". 4 حين أرسلنا سائقا لكى يحضر أحد الضيوف الذين كنا سنسجل معهم، من فندق قريب، تم احتجازه عندما تكلم من تليفون البهو الرئيسى بصوت مصرى، عندها وجد الجزائريين يحيطون به، فأخذ يتراجع وهم يزحفون نحوه، حتى أخرجه رجل أمن من الباب الخلفى، أما الضيف ففضل البقاء فى غرفته، يقول الرجل "كان فى عينهم الشر " ويسأل " ماذا فعلنا لهم"، فى الحقيقة لم أستطع أن أجبه لأننى حقا لا أعرف الإجابة، ولم أطمئن حتى حين وصلنا إلى الاستاد من طرق طويلة متحطمة، حتى لا نحتك بجحافل الجزائريين، الذين بدا من بعيد ضجيجهم يتعالى، وصراخهم، وصورايخهم تشعل المكان . 5 تحولت المنطقة المحيطة بالاستاد إلى ثكنة عسكرية، الباب الجنوبى لدخول المصريين، والشمالى للجزائريين، العشرات من عربات الأمن المركزى السودانى، تذكرت على الفور دارفور، وصراع القبائل، يشبهون جنود الجنجويد، ولا ينقصنا سوى بدء المعركة حتى نتحول إلى مأساة تروى. كان دخول الاستاد مغامرة غير محسوبة، وصلنا الساعة الواحدة ظهرا، كانت الجموع قد بدأت تتوافد، أربعة أبواب حتى تصل إلى الباب الرئيسى، والجنود الواقفون يرفضون دخولنا، إلا بعد ساعتين، فى المقابل من الناحية الأخرى تصلنا أنباء أن الجزائريين حطموا الأبواب ودخلوا. بعد ساعتين، وبعد الاتصال بجهات مختلفة، وبعد الاستعانة بكل الكارنيهات المتاحة، كارنيه الفيفا، وكارنيه التغطية الإعلامية، والتذاكر ندخل، كان الجانب الخاص بالجزائريين ممتلئا عن آخره، وهتافاتهم لا تتوقف، بينما كنا لا نتجاوز العشرة أشخاص، فالأمن لا يسمح لأحد بالدخول، يقذفون علينا الطوب، ويتطاولون علينا بالشتم، ويحركون أيديهم أمام حناجرهم إشارة للذبح، يتعالى ضجيجهم، ويرفعون لافتاتهم " الهزيمة لأبناء مصرائيل"، ولافتات أخرى تحمل شتائم بذيئة، فى الوقت الذى بدأت فيه الطائرات المصرية تحط بسلام، وبدأ المشجعون المصريون القادمون للفسحة، والظهور أمام كاميرات التليفزيون أكثر مما جاءوا للتشجيع، فى التوافد، يملأ الأخضر الجهة المقابلة، بضجيج كبير، بينما ظل الأحمر قليلا، ساكنا كأنما أصيب بالخرس. 6 فى الخارج كان الموقف مختلفا، اضطر للخروج قبل بدء المباراة، للتصوير من الخارج تحسبا لوقوع أى مناوشات، نختار سقف منزل مقابل للباب الجنوبى، نبث من عليه، كان السودانيون أصحاب المنزل يحتفون بنا بشكل خاص، وبكل ما هو مصرى، فى الوقت الذى بدأ فيه سلاح الخيالة السودانى فى الالتفاف حول المباراة لفض الاشتباكات، تبدأ المباراة وتنتهى بهزيمة مصر، كان الاتفاق أن يخرج الفريق المغلوب أولا، ثم بعده بثلاث ساعات يخرج الفريق المنتصر حتى يتمكن الفريق المهزوم من مغادرة البلاد، لكن هذا لم يحدث. كنت أراقب من الخارج، بينما نبعث برسالة تليفزيونية إلى القاهرة، خروج المشجعين المصريين منكسرين، سائرين فى هدوء ناحية الحافلات التى ستقلهم إلى المطار، فى أقل من ربع ساعة كان الجانب المصرى قد فرغ تماما، وبدأت جحافل الجزائريين تظهر، لقد خالفوا الاتفاق، وحطموا الأبواب وخرجوا قبل الموعد المحدد، بدأت هتافاتهم تتعالى ضد "يهود العرب"، وضد " من باعوا قضية غزة"، وضد "الخونة"، تبدأ الاشتباكات، وهم يتقدمون بكميات كبيرة، خمسة آلاف جزائرى لم يدخلوا وصلوا أثناء المباراة كانوا ينتظرون فى طرق المطار، نجرى فى الشوارع الجانبية المظلمة المحطمة حتى نجد ميكروباص يقبل أن يوصلنا إلى الفندق دون اشتباكات.. الطريق الذى لا يستغرق نصف ساعة استغرق ساعتين، تحولت البلاد إلى الأخضر، وتحول الهتاف إلى سباب، والسائق السودانى الخائف على سيارته يسلك طرقا جانبية خائفا على سيارته من التحطيم. 7 فى الفندق تصلنا الأنباء متواترة، إصابة بعض المصريين، محاصرة الفنادق والمطاعم التى بها مصريون، الاعتداء على سودانيين لأنهم يحملون علم مصر، الاعتداء على محمد فؤاد وغيره من الفنانين، تحطيم أتوبيسات والاعتداء على مشجعين مصريين.. لم يكن السفير يرد، فنتصل بالشرطة لترسل لنا حراسة، فترسل شاويشا تجاوز الخمسين بدون سلاح، نبيت الليلة الثانية على التوالى مستيقظين نتابع الفضائيات، ونحاول الاتصال بزملائنا الموجودين فى السودان، لكن شبكة المحمول اللعينة تتواطأ هى الأخرى مع الحالة العامة. كانت طائرتنا فى اليوم التالى التاسعة مساء، فى الخامسة فجرا يتصل بنا أحد المسئولين المصريين لنستعد للرحيل فورا فالبلد لم يعد آمنا، نحمل حقائبنا نلقيها فى الأتوبيس، نتحرك وخلفنا سيارة جيش على متنها عساكر بأسلحتهم لتأميننا، يتوقف الأتوبيس أمام سلم الطائرة مباشرة، لا نمر بصالة المغادرة، لا نختم جوازات سفرنا، لا نأخذ تأشيرة المغادرة، نصعد إلى الطائرة، نبدأ فى التعرف إلى وجوه المحيطين بنا، نلتقط أنفاسنا، ننتظر أربع ساعات أخرى محبوسين فى الطائرة، قبل أن تقلع الساعة التاسعة، لا نطمئن إلا عندما نرى فى الشاشة المقابلة الطائرة وهى تدخل الحدود المصرية، أبو سمبل، أسوان، يرتفع صوت مبحوح من الخلف "تحيا مصر". 8 عشت سنوات عمرى عروبيا قوميا، يسخر منى أصدقائى لتمسكى بالناصرية فى زمن الليبرالية كما يقولون، يسخرون ويقولون إن العالم تغير، يسخرون وهم يدللون بانسلاخ العالم العربى من بعضه البعض، فيما أنا لا أزال أرفرف مع أحلام القومية الملائكية، أحتمل سخريتهم فى سبيل ما أؤمن به، فى الطريق إلى المطار كنت أسترجع كل ذلك، فيما أنظر من النافذة إلى الجزائريين الذين يلوحون بأعلامهم، ويقذفوننا ببصاقهم وشتائمهم، نغلق النوافذ استماعا إلى نصيحة السائق الذى يحاول أن يسلك طرقا أخرى لا تكتظ بجحافل الجزائريين لكنه يفشل . 9 فى مطار القاهرة، بعد أن حطت الطائرة، دمعت عيون بعض زملائى وهم يقولون عمار يا مصر. فى مطار القاهرة، رأى بعض الركاب جزائريا يسير فى حماية الشرطة مبتسما بدون مبرر. فى مطار القاهرة خرجت منا جميعا تمتمات بحمد الله على أننا وصلنا سالمين. فى مطار القاهرة لم تنقطع هواتفنا عن الرنين، أصدقاؤنا وأهلنا يطمئنون إذا كنا مازلنا أحياء أم لا. فى مطار القاهرة كانت هناك أغنية لمنير تتردد سمعها الجميع فى شجن " ليكى أنا غنيت، يا دنيتى وناسى، وإذا كنت مرة قسيت حقك على راسى". فى مطار القاهرة تذكرت الأبنودى مخاطبا عبد الناصر منذ عشرين عاما عندما غزا العراقالكويت: الله يجازيك يا عم عبد الناصر الليل مليّل والألم عاصر لسه اللى بيبيع أمته كسبان وكل يوم أطلع أنا الخاسر