هزنى بعنف الأستاذ الدكتور يحيى الرخاوى، العالم الفذ فى الطب النفسى، الذى تجاوز العقد الثامن بقليل. كان فى حوار تلفزيونى فى إحدى القنوات الفضائية، وعندما أتى الحوار على ذكر الصحفية الشابة ميادة أشرف، الصحفية بجريدة الدستور المصرية، التى اغتالتها رصاصات الغدر أثناء تغطيتها لمظاهرات جماعة الإخوان الإرهابية، فإذا بهذا الرجل العجوز تمتلئ عيناه بالدموع، ويصمت، ويتهدج صوته، وتكاد تسمع لصدره أزيزاً كأزيز غليان القدر. هزنى بكاء الرجل الذى عركته السنين، وصحَّرت أحداث العمر منه ينابيع الدموع . ولكن يبدو أن الحادث قد فجر فيه تلك الينابيع، وامتلأت مآقيه بدموع ألجمته عن الحديث لبرهة. حكى الرجل عن حفيدته التى تحمل ملامح ميادة . وكأن ميادة قد أدخلت الأوجاع إلى الصدور، فهى حفيدة، أو ابنه، أو أخت . قد تكون ميادة غير معروفة بالقدر الكافى بين جماهير القراء، إلا أنها حتماً معروفة فى الوسط الصحفى كتلميذة، أو زميلة . ثم أصبح عمرها أطول من عمر قاتليها كما قال عمر المختار عند إعدامه . ميادة كانت تعلم أنها مستهدفة من جانب الإخوان، ومع ذلك كانت تسابق الريح إلى عملها الذى أحبته، إلى الحد الذى لم تعبأ معه بما يترقبها من مخاطر على أيدى جماعة فقدت عقلها، وأطلقت حيوانيتها الوحشية المصابة بالسعار. لقد أعلنت الداخلية أن ميادة كانت مستهدفة حيث جرى احتجازها مرتين بمعرفة أعضاء الجماعة، وقد استمعت بنفسى إلى ميادة فى تسجيل صوتى لاتصال هاتفى لها بإحدى القنوات الفضائية وهى تحكى ما حدث معها عند احتجازها بمعرفة الإخوان فى تاريخ سابق. هل حب العمل وحده يمثل دافعاً للمخاطرة بالحياة ؟ .أنا لا أظن، لأن العمل يمكن تأجيله، ويمكن تغييره واستبداله بغيره، ويمكن الاستغناء عنه بالكلية. أظن أن الدافع لم يكن العمل وحسب، بل حب الوقوف على الحقيقة، ونقلها للآخرين . وقد يكون حب الوطن هو الدافع الكامن فى النفس، والذى يخيل للمرء أن سلاح القلم، وذخيرة الفكر هما أقوى من ترسانة الأسلحة الأمريكية، وهو جندى فى ميدان المعركة يدفع بحياته فى أتون الوغى طلباً للحقيقة. نعم القلم سلاح، والفكرة طلقة، إلا أنه سلاح لا يدفع عن صاحبه غائلة الموت، أو غوائل الحياة . طلقة الرصاص دائماً ما تغتال الرأس، تستهدف تفجير محل الإدراك والوعى، محل الرؤية والوجدان . طلقة الرصاص تغتال الدماغ، تفجرها بما تحوى من مبنى ومعنى، تغتال الحياة، وكأن المرء بلا حياة بغير دماغ، بلا حياة بغير فكرة . وميادة كانت جنديا يدافع عن الوطن ضد من فقدوا أدمغتهم، وباعوها فى سوق النخاسة بالبترودولار. سلاحها القلم والكاميرا، والكلمة والفكرة، وروح شابة وثابة تجرى بين الجموع لترصد اللحظة، وتقبض على الحقيقة، وتنقل تلك العلاقة الجدلية بين الأهالى وجماعة الإرهاب والموت، ليس من بطون الكتب ولكن من على أرصفة الشوارع والزقاق، حيث الغبار والدخان والغاز وأصوات زخات الرصاص. كر وفر وزحام وجرى عشوائى . وعيون صحفية شابة ترصد شظايا اللحظة، تلملمها، ثم ترسلها خبراً، تقول ميادة فى آخر خبر: "هناك إطلاق نار عشوائى من قبل جماعة الإخوان فى مواجهة أهالى عين شمس". تلك هى الخريطة اللحظية التى ارتسمت فى مخيلة الصحفية الشابة وقد لخصت خريطة الوطن الكبير فى صراعه مع الإرهاب، إذن هناك اغتيال للحياة على أيدى أعداء الحياة. محاولة بائسة لاغتيال الوطن. ولما كان شر البلية ما يضحك، فإن قناة الجزيرة مباشر فى إطار سياستها التآمرية ضد الوطن، والتجائها إلى الفبركة الإعلامية، زعمت أن ميادة صحفية إخوانية . وهو زعم يكذبه ويعرى سوءة صاحبه التسجيل الصوتى الذى أشرت إليه آنفاً . لقد سبق ميادة شهداء للكلمة، ولن تكون ميادة الأخيرة . ولكن لفت نظرى تلك اللوحة الورقية التى كانت تحملها ميادة فى استشهاد الحسينى أبوضيف، فى يدها اليسرى، والكاميرا فى يدها اليمنى، فقد كان مكتوباً عليها: "الكاميرا لا تزال فى أيدينا يا حسينى، ومكملين إن شاء الله " . لم تكن تعلم أنها ذاهبة إليه، تاركة اللوحة والكاميرا إلى من سيحملهما من بعدهم . ميادة .. أبلغيهم منا السلام .