«1» نظر إلى صورته المنشورة أكثر من مرة، قرأ المكتوب تحتها: «فارس السيف والقلم»، كان آنذاك لا يزال يتزيا بالزى العسكرى، يحمل فى جوانحه مخاض وطن كان قد خرج لتوه من معركة العبور، كانت رائحة البارود والدم لا تزال تملأ أنفه، لقد حارب ببندقيته رقم 1056، ولا تزال نفس البندقية فى عهدته، ولكنه أضاف إليها اليوم سلاحاً جديداً، ربما أشد خطورة وأثراً، لقد أصبح اليوم يمتلك قلماً. «2» رفض المواطن أن يجلس، رغم أن «القنصل» رجاه أن يفعل، اعتذر الرجل الطيب بأن «المقامات محفوظة»، تكهربت أحاسيس القنصل الشاب، ومع ذلك اجتهد كى يضبط انفعالاته، قال بهدوء: - يا سيدى، أنا موظف عمومى، أنا أحصل على مرتبى من الضرائب المفروضة عليك وعلى غيرك، يعنى أنت الذى تعطينى مرتبى. إلا أن المواطن حاصره بكلمات مثل: «العفو يا بك.. أستغفر الله.. العين لا تعلو على الحاجب»، حتى صرخ فيه القنصل آمرا: - قلت لك اقعد!! جلس الرجل مغلوبا على أمره، غارقا فى خجله وأدبه، بينما بدأ القنصل يروى له حكاية الجندى مصطفى الحادى. «3» كان.. فلاحا مثلك.. طيب زيادة عن اللزوم.. حيرنى فى التدريب، فشلت معه أكثر من مرة كى يطبق مركز تلسكوب الآر. بى. جى على هيكل الخشب والخيش الذى يمثل دبابة، كانت نتائجه فى ميادين التدريب على الرماية مخيبة للآمال، كنت أعتبره بين جنودى مجرد «عجلة نايمة».. فى يوم 23 أكتوبر 73، استشهد الجندى مصطفى الحادى ضمن آخرين من جنودى بعد كمين ناجح نصبناه فى طريق تقدم الدبابات الإسرائيلية على المدق 12.. لقد فعلها مصطفى وخيب ظنى فيه، وطوال أيام الحرب لم يخفق مرة واحدة فى وضع مركز التلسكوب على دبابات العدو، بل إنه فى اليوم الأخير وقبل استشهاده مباشرة افتدانا جميعا حين زحف بالآر. بى. جى كى يدمر الدبابة التى كانت تسد علينا طريق الخلاص، دمرها.. تلاشى فى الانفجار.. لم نجد ذرة من جسده.. لقد أصبح جزءا من هواء هذا الوطن الذى نستنشقه.. مجد الوطن وشرفه.. ما إن انتهى القنصل من روايته حتى انتفخت أوداج المواطن، شمخت هامته.. ابتسم القنصل سعيدا، كأنه استعاد الجندى مصطفى الحادى إلى الحياة. «4» وصفته بعض المقالات بأنه «الأديب المقاتل» حتى تغير إلى «الأديب الدبلوماسى»، لكنه فى الحالتين كان يكتب بنفس القلم ويستخدم نفس الأبجدية، رفض نصائح العديدين من الفاهمين الذين أشاروا عليه بالالتصاق بشلة أو الاقتراب من أسماء بعينها لضمان توهج اسمه. «5» على موائد المفاوضات، كان صلبا شديد المراس.. يتذكر ظهر السادس من أكتوبر عام 1993.. فى مؤتمر عقد بروما.. نفس اللحظة التى توافق ذكرى مرور عشرين عاما على العبور.. كان قد تمكن من إحراز تعديل فى إحدى مواد اتفاقية لإعادة الآثار المسروقة إلى مصر.. لقد تنبه للمصادفة فيما بعد، وحين مشى بين المسلات المصرية المتناثرة فى شوارع روما، أنه يبتسم سعيدا، فخورا بأنه لا يزال بنفس الحماس، رغم أن الذى عبر القناة كان ابن عشرين عاما، أما الذى يتفاوض لإعادة التاريخ إلى نصابه أصبح ابن أربعين عاما.. لقد استبدل بالرصاص الكلمات، والعلم القانونى، فهو يدرك جيدا أن السلاح ليس بإمكانياته، وإنما بالرجل الذى يقف خلفه.. هكذا تعلم فى أكتوبر 73.