ما الفارق بين مصر في أكتوبر 1973، ومصر في أكتوبر 2011؟ بالتأكيد هناك متغيرات حدثت طوال ال38 عاما الفاصلة بين التاريخين سواء علي المستوي الاقتصادي، السياسي، الاجتماعي، الثقافي، والعسكري، لكن هذا العام الوضع مختلف تماما، فقد سبق أكتوبر الحالي ثورة 25 يناير 2010، التي أطاحت بالنظام القديم، الذي كان يستند إلي شرعية أكتوبر في حكمه، لكن سقط النظام وبقي النصر ، فحرب أكتوبر حدث أكبر من أي نظام أو فرد أراد أن ينسبه إلي نفسه، فهو في الحقيقة انجاز شعب أراد أن يتخلص من عار الهزيمة، هذا الشعب تخلص ذ أيضا من فساد نظام، عبر ثورة سلمية. الصورة بلاشك لابد أن تكون مختلفة هذا العام، لأن المشهد برمته قد اختلف، ولأول مرة سيكون الحدث » نصر أكتوبر« هو الذي في بؤرة الاهتمام والتحليل، ومن هذا المنظور توجهت إلي وجوه ساهمت في النصر ليتحدثوا عن ذكرياتهم يوم 6 أكتوبر وعن رؤيتهم لمصر في أكتوبر2011، خاصة أنهم كذلك وجوها شاركت في الثورة سواء بالنزول إلي الميادين في محافظاتهم أو تسخير أقلامهم وإبداعاتهم طوال السنوات الماضية في كشف عورات النظام السابق، بالإضافة إلي أنهم يمتلكون روحا تحفيزية لمستقبل أفضل علي جميع الأصعدة. في هذا التحقيق أنطلقت من مجموعة أسئلة رئيسية هي: مكان التواجد يوم 6 اكتوبر 1973، كيف يتذكر ملامح مصر في هذا اليوم وتصوراته عن مستقبلها في الفترة القادمة، وإبداعيا كيف أثر الحدثان (6أكتوبر 25 يناير) علي إبداعاتهم. الأديب الدمياطي مصطفي العايدي، كان أحد الجنود االمتواجدين في ذلك اليوم بمنطقة الدفرسوار:»وتحديدا حيث مكان تجمعنا بموقع متقدم بقرية من قري الإسماعيلية تسمي سرابيوم ضمن أفراد الكتيبة336 اللواء 112مشاة والذي يسمي لواء النصر، وكانت مهمتي مع أفراد الفصيلة الأولي / السرية الأولي : هي التقدم ساعة الصفر واقتحام المانع المائي بعبور قناة السويس بسرعة بواسطة الزوارق المطاطية للضفة الأخري، وتحت غطاء من الدخان الكثيف والتعامل المباشر مع العدو الإسرائيلي في النقطة المحصنة أمامنا واكتساب الأرض، ثم تطوير الهجوم بعدها لحين صدور التعليمات، وبالطبع كان ذلك حسب التنسيق الميداني القتالي لوحدات الجيش الثاني، والحمد لله فقد نجحنا في مهمتنا حتي قبيل صدور الأوامر بوقف إطلاق النار، وكانت هذه المشاركة يطلق عليها الموجة الأولي للعبور. أما الروائي محمود عرفات الحاصل علي جائزة الدولة التشجيعية عن مجموعته القصصية علي شاطئ الجبل عام 2005، فقد كان في هذا اليوم مساعدا لقائد اللواء الرابع عشر مدرع للشئون المعنوية بمنطقة القصاصين، التي تبعد عن قناة السويس بما يقرب من خمسة وثلاثين كيلو مترا، وقدر له أن يكون أول من اطلع علي الأمر الإنذاري، الذي أرسله اللواء سعد مأمون قائد الجيش الثاني الميداني لقائد اللواء، لكي يقوم بتعمميم محتواه علي ضباط وجنود الوحدات التابعة للواء، يتذكر عرفات هذه اللحظات: »في صباح السادس من أكتوبر 73 دعينا لحضور اجتماع عاجل. تحددت الساعة الحادية عشرة صباحا موعدا للاجتماع. عندما اكتمل جمعنا؛ أبلغنا العقيد عادل القاضي رئيس الأركان أن الوقت قد حان وأن ساعة الصفر ستكون في الثانية إلا خمس دقائق وأن العمليات ستبدأ بهجوم جوي، يعقبه قصف مدفعي مكثف علي مواقع العدو في خط بارليف؛ يليه عبور المشاة للقناة. وأمرنا أن يقوم كل منا بتنفيذ الخطة التي سبق اعتمادها من قائد اللواء. وطلب أن نقرأ الفاتحة؛ لكنه التفت إلي المقدم فوزي بشارة قائد مدفعية اللواء وقال له ضاحكا: تستطيع أن تقرأ معنا الفاتحة. وانخرطنا جميعا في قراءة الفاتحة وتمتم المقدم فوزي بأدعيته المسيحية. ساد صمت كثيف بدده العقيد عادل القاضي بقوله: الله معنا وسينصرنا تفضلوا. كانت اللحظة مشحونة بالرهبة والقلق والترقب والأمل والفرح والخوف. تصافحنا جميعا ثم غادرنا المكتب. فور خروجي من مكتب رئيس الأركان استدعاني قائد اللواء وأمرني بالإفطار وإبلاغ كل الوحدات بضرورة الإفطار. نفذت الأمر علي الفور، وأبلغت الوحدات. اكتشفت فيما بعد أن قائد اللواء ظل صائما، وأن معظم الضباط والجنود لم يفطروا، وأدركت أنني؛ ربما كنت المفطر الوحيد في الجيش المصري.أسرعت، مع طاقم الشئون المعنوية، بالمرور علي وحدات اللواء بسيارة الإذاعة المجهزة؛ وقمت بإذاعة نداء قائد اللواء وكذا المواد التي تم إعدادها خصيصا لهذه اللحظة؛ التي ارتكزت علي أن الوقت قد حان لاستعادة الكرامة الوطنية والأرض السليبة في سيناء. في الثانية إلا خمس دقائق مرت من فوقنا الطائرات المصرية المتجهة شرقا علي ارتفاع منخفض فاهتزت الأرض بصيحة الله أكبر التي انطلقت من كل مكان. لقد قامت الحرب.أخذنا نتابع في قلق البيانات التي تذيعها الإذاعة المصرية، وفي حوالي الثامنة مساء صدرت الأوامر لوحدات اللواء بالتحرك شرقا؛ فتأكدنا أن رجالنا نجحوا في عبور قناة السويس، وأخذنا نتحرك في بطء وحذر. قرب منتصف الليل توقفنا علي بعد عدة كيلو مترات من المعابر التي تم إقامتها علي القناة، وتوقفنا في انتظار الأوامر. قضينا الليلة ساهرين نتابع توهج المشاعل التي تحاول إضاءة أرض المعركة، وتصفع آذاننا أصوات القنابل ودانات المدفعية والرشاشات، وتعصف بنا المخاوف، ويأكلنا عدم اليقين. في صباح السابع من أكتوبر صدرت الأوامر لوحداتنا بالاقتراب من المعابر. بدا الزحام شديدا قرب المعابر المنصوبة، وآثار جنازير الدبابات والعربات والمصفحات بدت واضحة علي الممرات والطرق والمدقات وحواف الترع والغيطان. استمرت أصوات دانات المدفعية والرشاشات والبنادق وزاد عليها أزيز الطائرات التي كانت تهاجم الحشود القريبة من المعابر بضراوة وعلي ارتفاع منخفض. وأخذنا نراقب صواريخنا ومدفعيتنا المضادة للطائرات وهي تطارد الطائرات وتسقطها. المشهد الذي لا يمكن أن أنساه للأبد هو منظر أهالي قرية سرابيوم التي عبرنا من خلالها. لقد وقفوا علي جانب الطريق المؤدي للمعبر يهتفون ويصفقون ويقدمون للجنود كل ما يملكون من أرغفة خبز وجبن وخضراوات. الأطفال يلوحون ببراءة وفرح والنساء يزغردن والجميع يدعون لنا بالنصر. العجيب أن طائرات العدو لم تكف عن مهاجمة طوابيرنا المتقدمة وأخذت تلقي بقنابلها علي الجميع. وبدا كأن الأهالي العزل لا ينتبهون للخطر ولا يأبهون به. في الواحدة والثلث ظهرا كانت السيارة التي تحملني وطاقم الشئون المعنوية تعبر قناة السويس من غربها إلي شرقها عبر المعبر الذي سبق أن استطلعناه قبل أسبوع واحد. لا أستطيع أن أصف مشاعري في تلك اللحظات. لقد حاولت مرارا أن أسجل وصفا لهذا الموقف فلم أفلح. إنه يستعصي علي الوصف والتسجيل. أمضي أربع سنوات في انتظار لحظة العبور، التحق بالجيش في 1970، وخرج منه في سبتمبر 1974، هذه الفترة عبر عنها في مجموعتيه: ( الأشرعة الرمادية)، و ( عملية تزوير)، كان يعلم منذ اللحظة الأولي لتجنيده أنه سيكون بحكم تخصصه في الكيمياء، في الخطوط الأمامية، حيث نسبة الخسائر أعلي، من هنا قرر الأديب رجب سعد السيد ألا يتزوج، وأن يقطع صلته بحبيبته، فلا أمل لمستقبل قريب معها، وكان قبل أيام من 6 أكتوبر قد انتقل لموقع قتالي علي طريق القاهرة- السويس، ضمن أفراد الفرقة السادسة المشاة الميكانيكية، برتبة رقيب حكمدار فصيلة (سطع كيما)، أي الاستطلاع الكيميائي، التابعة لسرية من سرايا سلاح الحرب الكيماوية، مهمتها تأمين قيادة الفرقة ضد ضربات الغاز: »لقد تم توزيعي علي هذه السرية لأنني متخرج في كلية العلوم، ومتخصص في الكيمياء، وكان الجيش في ذلك الوقت يؤمن بالتخصص، وذلك أحد أسباب الأداء القتالي الرائع الذي حققه الجندي المصري في 73، فقد كان الجانب الأعظم من الجنود يعرفون مهامهم جيدا، وتفاصيل أسلحتهم وأدواتهم القتالية، ويجيدون استخدامها والتعامل معها في كل الظروف. وحتي ظهر السادس من أكتوبر كنا في حالة استنفار تام، وإن لم نعلم بساعة الصفر، حتي فوجئنا، مع العدو، بأنها في (عز الشمس)، في الثانية بعد الظهر؛ وتلك إضافة أخري إلي عبقرية الأداء العسكري التكتيكي لقواتنا المسلحة في ذلك الوقت. وكنت علي دراية تامة بكل مهماتي القتالية، وجاهزا إلي أقصي درجة لأداء دوري، وإن كنت أتمني ألا أقوم به، فمعني أن تعمل فصيلتي هو أن العدو قد ضرب قواتنا بالغازات الحربية، وفي ذلك تعطيل لجنودنا، فيكفيهم انشغالهم بإذابة الساتر الترابي واقتحام خط بارليف وعبور العائق المائي (قناة السويس)، والغازات تزيد نسبة الخسائر في الأرواح، وتبطئ الحركة، بينما نحن نسابق الزمن في عبورنا إلي سيناء«. حلم بهذا اليوم، بل سعي إلي أن يكون واحدا من أفراده، فالتحق بالكلية الحربية، ورقي إلي درجة النقيب قبل ستة أيام من الحرب، التي أندلعت وهو يخدم في: »إحدي كتائب المشاة بالجبهة، والتي كانت تحتل موقعاً جنوبي بورسعيد في منطقة رأس العش، وتحديداً في الكيلو 19، وقد تم تقسيم الكتيبة إلي 6 مجموعات: مجموعة اقتحام للنقطة الحصينة للعدو في خط بارليف، ومجموعتي عزل شمال وجنوب النقطة، ثم مجموعتي قطع أيضاً شمال وجنوب النقطة. مهمة مجموعتي العزل أسر أو قتل أي جنود للعدو يتمكنون من الفرار إلي خارج النقطة، ومهمة مجموعتي القطع منع وصول أية قوات أو إمدادات من خارج النقطة إليها، وأخيراً المجموعة السادسة وتمثل احتياطي قائد الكتيبة، كانت مهمة مجموعتي- كما ذكرت- أسر أو قتل كل من يحاول الهروب من النقطة في اتجاه الشمال أو اتجاه الشرق، وكذلك منع أية احتياطيات تتمكن من المرور من مجموعة القطع يمين التي تقع علي مساحة 1كيلو متر من مجموعتي وفي اتجاه الشمال، أما المهمة الإضافية فكانت اختراق الموقع الحصين من الأجناب في حال فشل الاستيلاء عليه بالمواجهة،ونظراً لأن مجموعة الاقتحام كانت قد تمكنت من الاستيلاء علي النقطة بالفعل، لتكون أول نقطة حصينة تسقط علي امتداد الجبهة في تمام السعة 1610 (الرابعة وعشر دقائق عصراً)، فقد صدرت لنا الأوامر بتحقيق المهمة التالية، وهي احتلال المدق الترابي الذي شقه العدو في منطقة ملاحات جنوب بورسعيد، ليصل ما بين بالوظة ورأس العش، وكان مطلوباً مني التوقف عند علامة الكيلو 7 باتجاه الشرق لصد أي هجوم مضاد تشنه الاحتياطيات التكتيكية علي الكتيبة. بالفعل توجهت إلي المكان المحدد لغيار مجموعة الصاعقة التي قامت بصد الاحتياطي التكتيكي القريب، وقامت بتدميره (ثلاث دبابات)، بعد أن استشهد منها جنديان، حينئذ طلبت استدعاء مجموعة مهندسين عسكريين لعمل ثغرة عميقة بالمدق، علي مسافة 500م من المجموعة، لتكون تحت سيطرة نيراننا. وكان الهدف إعاقة الاحتياطي التكتيكي البعيد المنتظر وصوله في اليوم التالي، والذي كانت قوته تقدر بسرية دبابات (11 دبابة). وقد حضر هذا الاحتياطي كما هو متوقع، لكنه فشل في عبور الثغرة التي أحدثناها بالمدق، فانهالت نيرانه علينا من بعيد، لكن أحداً منا لم يصب بأذي نتيجة لأننا- أثناء القصف- كنا نخوض في الملاحات الضحلة، التي كانت تمتص أية موجة انفجارية وأية شظايا. وبعد أن قامت الكتيبة بتحقيق مهمة هجومها، تم غيار مجموعتي، التي انسحبت إلي شرقي القناة لتكون في يد قائد الكتيبة«. ورغم الانتصار، إلا أنه لم يشعر علي حد تعبيره بزهو العبور، بقدر ما شعر بإحباط الثغرة، فالناقد سيد الوكيل كانت مهمته فنية بالدرجة الأولي، تتلخص في إصلاح اللنشات الصغيرة تحت الضغط القتالي في عرض البحر خارج المياه الإقليمية: »كنا نتدرب طول الوقت في البحر المتوسط، لكننا نقلنا برياً إلي منطقة الأدبية قبيل العبور بأيام ، ضمن تجهيزات اللنشات الخفيفة المكلفة بتأمين خليج السويس، غير أن المفاجأت لم تأت من البحر، كنا مدربين جيدا علي مهام البحر، جاءت المفاجأت أثناء الثغرة، التي اعتبرت الأدبية عقبة أولي لها، هكذا انتهت مهمتنا في اليوم الثاني للثغرة، وانسحبنا الي مدينة السويس نفسها، لهذا فلم أشعر بزهو العبور بقدر ما شعرت بإحباط الثغرة. ولكن مقاومة المدينة كانت بطولة حقيقية. في الطريق من السويس الي القاهرة رأيت طابور الأسري الإسرائيليين، ورأيت أيضا مستشفيات ميدان صغيرة لعلاج المصابين، وسمعت قصص البطولة من أصحابها، منها قصة سائق انقذ 12 جنديا وضابطا من الحصار، وقد كتبت هذه القصة ونشرت بعد ذلك بعامين في مجلة الكاتب«. هو واحد من الذين تم تسريحهم من الخدمة العسكرية صباح يوم 6 أكتوبر 1973 في إطار خطة الخداع الإستراتيجية التي تبنتها القيادة العسكرية، ونفذتها بمهارة، لكنه عندما خرج من معسكره أدرك أن الحرب ستقع خلال ساعات، لذا قرر الأديب قاسم مسعد عليوة عدم الانصراف إلي بيته، والتطوع في مستشفي النصر ببورسعيد: »بعد سبع سنوات من عمري أمضيتها في الجيش مجنداً شاهدثُ فيها وقائع هزيمة حرب 1967م. وعشتُ وقائع انتصارات حرب الاستنزاف، سُرحتُ من الخدمة في يوليو 1972م. فتطوعت بقوات الدفاع الشعبي ببورسعيد نتيجة لوجودي (مستبقياً) بمدينة بورسعيد، من غير انقطاع لعلاقتي بوحدتي العسكرية، فوفقاً لنظام الاحتياط الذي أتبع لأول مرة في الجيش المصري كنتُ أستدعي مثلي مثل غيري من المسرحين من الخدمة لأعود، علي فترات دورية شديدة التقارب، إلي منطقة البحيرات المرة حيث وحدتي العسكرية التي سُرِّحتُ منها. قبيل أكتوبر 1973 استدعيت كالعادة، لكنني ودفعتي أخطرنا بضرورة التوجه إلي معسكر تدريب المشاة رقم 4 بالمعادي بدلاً من التوجه إلي وحدتنا بالبحيرات المرة دون إيضاح للسبب. كنت أهجس بأن هذا الاستدعاء إن هو إلا مؤشر إلي قرب وقوع الحرب، إلا أن قيادة المعسكر فاجأت كل المستدعين في ساعة مبكرة من ذات صباح بأوامرها التي تقضي بتسليم المخالي والانصراف إلي بيوتنا. كان هذا الصباح هو صباح يوم 6 أكتوبر 1973، وعندما وصلت لبورسعيد كانت الحرب قد بدأت بالفعل، فتطوعت للعمل في مستشفي النصر وعاونت في استقبال الجرحي من المدنيين والعسكريين، وتوليت مهمة انتزاع الأسلحة والذخائر وأرقام الميدان من رقاب جرحي الجيش وتسليمها لمندوب الشرطة لتسجيلها بأسماء المنتزعة منهم قبل إدخالهم إلي غرفة العمليات، واشتركت مع الممرضات في إعداد الأربطة والقطن الطبي بتقطيعه ولفه وتعقيمه في أجهزة الأوتوكلاف، وكنت أقوم بالمعاونة في دفع التروليات بالخارجين من غرف العمليات إلي أسرتهم بالعنابر، ثم إلي الملاءات المفروشة علي بلاط العنابر والممرات. هذه الأعمال كانت تتم بسرعة واطراد، وكنا نتحرك بين غرفة العمليات والعنابر هرولة وجرياً لكثرة أعداد المصابين. ويضاف إلي قيامي بتحرير كشوف مرتبات العاملين بعدد من إدارات ديوان عام المحافظة جهة عملي الأساسية في الفجوات التي يعم فيها الهدوء المستشفي، وما أندرها. وعلي عكس تجربة عليوة الذي خرج من وحدته يوم 6 أكتوبر، استدعي الشاعر الدكتور نصار عبد الله إلي وحدته: »يوم 6 أكتوبر 1973 كنت في الحياة المدنية موظفا بالبنك المركزي المصري بعد أن تم تسريحي من الخدمة قبل ذلك بثلاثة شهور، سرّحت تحديدا في 1/7/1973، ( تبين لنا فيما بعد أن تسريحنا من الخدمة كان جزءا من خطة الخداع الإستراتيجي للعدو، وإيهامه بأننا لن نحارب بدليل تسريح ضباط الإحتياط ) ...في ذلك اليوم 6أكتوبر تلقيت برقية من القوات المسلحة تقول: قدم نفسك فورا إلي وحدتك ...أحسست لحظتها أن شيئا جللا يحدث الآن ..وتوجهت فورا إلي آخر وحدة كنت أخدم فيها وهي إدارة الحرب الكيماوية. وهكذا عدت إلي الخدمة العسكرية ضابطا بالإدارة«. والآن بعد كل السنوات الماضية، كيف كانت مشاعرهم يوم العبور، وكيف يرون مصر الآن، خاصة أنه العام الأول الذي تجيئ فيه ذكري انتصار أكتوبر، بعد قيام ثورة 25 يناير 2011 عبد العزيز موافي يري أن: »أكتوبر ويناير هما وجهان لعملة واحدة، رغم أن يناير قد تأخر كثيراً، لكنه كان حتمياً. فحرب أكتوبر كانت ضد العدو الخارجي، بينما ثورة يناير ضد العدو الداخلي. وربما يعود تأخر تلك الثورة زمنياً إلي أن العدو الخارجي واضح ومحدد، وبالتالي يصبح التخلص منه أيسر من العدو الداخلي المراوغ، والذي يمتلك كل القدرات المادية والإعلامية، وحتي مصادر صناعة الخطاب الديني، كي يمرر بها أخطاءه وخطاياه. وبعد قيام ثورة يناير كانت هي الصدي الأعمق لحرب أكتوبر، رغم تأخرها الزمني، لكن ما يجمع بينهما أن أكتوبر تم انجازه بروح يناير، بينما الثورة نجحت لأنها تحلت بروح أكتوبر، فالعلاقة بينهما شرطية، فلولا الأول ما كان الثاني، وكلاهما كان عبوراً لكل موانع الخوف. وأنا أعتقد أن أكتوبر 1973 كان عبوراً من المذلة إلي الكبرياء، ومن الخوف باتجاه الأمان، وكذا من اليأس باتجاه الأمل. وهذه الثنائيات جميعاً تنطبق علي أكتوبر 2011 بعد الثورة. فتحرير سيناء من العدو الخارجي لا يقل عن تحرير مصر من العدو الداخلي والذي أراه أشد شراسة، ممثلاً في مؤسسة الفساد وفي هيمنة الدولة البوليسية، وفي قانون الطوارئ، واجتياز تلك الموانع لا يقل أهميته عن عبور المانع المائي في حرب 1973. لكنني- في المقابل- أتوجس من التاريخ، فمكاسب الحرب بددها السادات، وأخشي علي مكاسب الثورة أن يبددها الانتهازيون، ومن يريدون لنا العودة إلي القرون الوسطي. ونسأل الله أن يحفظ مصر ممن يريدون بها سوءاً، حتي لوكان بحسن نية«. د. نصار عبد الله وهو يشغل الآن منصب أستاذ متفرغ للفلسفة بآداب سوهاج يحلل المشهد الذي حدث خلال ال38 عاما، منتهيا إلي أننا فرطنا في قيمة هذا الانتصار وجدواه:»في أكتوبر 1973كنت أري مصر تشعر بالفخر بعد أن غسلت عارها بدماء أبنائها ، كنت أراها وهي تتطلع إلي المستقبل مفعمة بالآمال الكبري، ذلك أن القيمة الحقيقية الأهم لأكتوبر 1973 تكمن في الإستراتيجية الأشمل التي يمكن وضعه في إطارها ، وقد كان يمكن لأكتوبر 1973أن يكون جزءا من استرتيجية أشمل للتصدي للهيمنة الأمريكية والإسرائيلية ، كما كان يمكن له أن يكون جزءا من استراتيجية نقيضة، تقوم علي الإكتفاء بما تحقق من غسل للعار، وتحقيق نوع من السلام يفتح المجال لرجال الأعمال المتحالفين بشكل أو بآخر مع المصالح الأمريكية والإسرائيلية ، هذه الإسترتيجية هي في جوهرها اعتراف متأخر بالهزيمة التي لحقت بنا في عام 1967، لكنه في حقيقة الأمر اعتراف خبيث لأنه يتزيا بزي الإنتصار، وهذه الإستراتيجية النقيضة والخبيثة هي ما اختاره، وربما ما خطط له منذ البداية أنور السادات ومن جاءوا بعده ، وهكذا فإنني إذا كنت أري مصر في أكتوبر 1973مفعمة بالآمال وهي تتطلع إلي المستقبل فإنني أراها الآن مفعمة بالمرارة وهي تحاول أن تلعق جراح الخمسة والثلاثين عاما الماضية« . وربما يقترب الناقد سيد الوكيل من ذات الرؤية السابقة، عندما يقرر أنه: » بالتأكيد ست سنوات من الانكسار الوطني سقطت يوم 6 اكتوبر، لقد عشنا حالة من الفرح والزهو، لكنها لم تتحول إلي عقيدة بنائية علي نفس القدر من قوة العقيدة القتالية التي عشناها خلال سنوات الهزيمة، لا أعرف لماذا، لاتشتعل همتنا إلا في الشدائد والنكسات، أعتقد أن مصر خرجت منهكة من التجربة، لهذا فرحنا باتفاقية السلام وقتها، ولم نكن مخطئين تماما، ولكن ما حدث بعد ذلك هو نوع من الاسترخاء علي كافة المستويات، وهذا الاسترخاء تحول إلي يأس بعد غزو الكويت، وتردي كل الأوضاع العربية، هكذا يفقد يوم 6 أكتوبر بريقه سنة بعد أخري حتي بدأ يتحول إلي موضوع كوميدي عند الأجيال الجديدة، أعتقد أن الحكام مسئولون عن هذا مع إعلامهم الساذج الذي اختزل ست سنوات من العمل القتالي في صورة العبور سواء بالطلعة الجوية او بالقوارب المطاطية، رغم أنه كان يمكن توظيف هذا النصر التكتيكي سياسيا كورقة عربية قوية لتغير موازين القوي في المنطقة، أظن كان هذا هو هدف العملية كلها، لكن العرب لم يكونوا مؤهلين للمعارك السياسية طويلة النفس... وأتمني أن ثورة 25 يناير، ومرادفاتها في الربيع العربي، ستكون بداية لعبور الهزيمة النفسية، وليس لدي مؤشرات قوية علي ذلك، نحن مازلنا مشغولين بمحاكمة الماضي، وحتي الآن فعقيدة الهدم أقوي من عقيدة البناء. ربما سيحتاج الأمر لبعض الوقت«. وبخبرة السنين يري قاسم مسعد عليوة، أن السادات ومبارك بددا » نصر أكتوبر« وأن ثورة يناير هي ثورة ذات الشعب، الذي ضحي بلا مقابل في أكتوبر 1973، وأن ما نشعر به حاليا من سلبيات بعد ثورة يناير : »سيتم تداركها لكن علي المدي البعيد، فالمدي القريب مازال يرهص باضطرابات أساسها مصالح القوي السياسية والأطماع الشخصية؛ وبسبب من هذا أطالب الجيش المصري بأن يعيد استلهام القيم التي جسدها عمله المخلص في أكتوبر 1973م. واعتقد أن الاحتفال بالذكري الثامنة والثلاثين لانتصار أكتوبر مناسبة عظيمة لاستعادة النهج الذي حقق هذا الانتصار، ذلك النهج الفياض بالوطنية المتشبع بقيم الوحدة الوطنية، القائم علي الفداء والتضحية من أجل الوطن، لا فرق في هذا بين مسلم ومسيحي، فقير أو غني. هذا ما يجب أن يستعيده الجيش، ونهج أكتوبر ما بعد ثورة يناير يجب أن يكون نهج تقدم ونماء في كل المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والتعليمية والصحية والبيئية..الخ، نهج يستعيد لمصر دورها الذي كانت تؤديه عربياً وأفريقياً وعالمياً في ستينيات القرن الماضي ويعمل علي تطويره، ويضع أعداءنا في موضعهم الحقيقي ويحذرهم ولا يأمن لهم أو يسوغ اتخاذهم أخداناً؛ وفي مقدمة كل هذه الشروط ينبغي أن يكون نهجاً داعماً للحرية والديموقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وحائلاً بين نظام الحكم واستشراء سوس الفساد والاستبداد فيه من أدني درجاته إلي أعلاها. لذا أنا أنتصر لأكتوبر ما بعد هذه الثورة المحاطة بتحديات لا أول لها ولا آخر«. وبشاعرية تدعو للتفاؤل يصف مصطفي العايدي مصر يوم 6 أكتوبر بأنها قمر مكتمل، أما الآن فيراها: »رغم كل الأعاصير والسحب الداكنة وتغير أحوال الطقس ومشاهد ت الإحباط ودوافع الجدل واللغو , فهي بخير .. نعم قد تبدو مصر اليوم في الأفق أشبه بهلال تشاحب , ولكن هذا الهلال سوف يصبح قمرا بديعا مدهشا تتجه إليه القلوب والأنظار ... صدقني... سوف تولد مصر »أخري« صبية وأبيّة ذات مناعة وصلابة وقوة ومهابة وذات روح جديدة كالتي أحدثتها روح أكتوبر 1973 حينا من الزمن هكذا أري مصر المستقبل الآن 2011م بعد أن امتلكت مفاتيح الحرية. تإذ أن الحرية في تقديري هي الشرط الضروري للحياة الكريمة, لذا فإنني أدعو إلي الثقة في المستقبل ومواجهة التحديات بسلاح جديد من الوعي والعمل«. وتبدو عناصر شبه كبيرة بين مصر 1973 ومصر الآن من وجهة نظرالأديب محمود عرفات:»أري مصر في أكتوبر 2011 تقف في نفس الموقف الذي كانت تقف فيه في أكتوبر73 رأيت مصر تتوهج في أكتوبر 73 فقد استجمعت نفسها، جهزت جيشها للحرب، وضعت الخطط، ودبرت السلاح والموارد، وعقدت فرق التدريب الشاق، وأجرت المناورات. وأعدت المجتمع في الوقت نفسه اقتصاديا واجتماعيا وإعلاميا؛ لكي يحتمل الثمن الباهظ لتحرير الأرض. وعندما عبرت قواتنا قناة السويس أدركت أن منظومة التخطيط العلمي قد نجحت؛ بما تحتوية من تحديد واضح للهدف ووضع الخطط والبرامج وحشد الإمكانيات لتحقيق هذا الهدف، وضبط حركة كل أطراف المنظومة باستخدام آليات التنسيق والتزامن وترتيب الأولويات. أكتوبر 73 جعلنا نتخلص من وجع الهزيمة وعارها، وبعد الانتصار الخاطف الذي حاول العدو أن يسرقه أدركت أننا حققنا إنجازا عسكريا، يجعلنا نتطلع لتحقيق إنجاز حضاري مماثل، ينقلنا إلي مصاف الدول المتقدمة. وأري أن مصر تتوهج أيضا في أكتوبر 2011 حيث تستجمع نفسها؛ لتعيد صياغة عقد اجتماعي جديد؛ يتمثل في إقرار دستور متوازن يحقق استقلالا كاملا للقضاء، وإقامة مجالس تشريعية منتخبة بحق، وانتخاب رئيس قابل للمساءلة والمحاكمة والعزل. لقد ظلت مصر لمدة ثلاثين عاما في وضع »محلك سر« كما كنا نقول في التدريبات العسكرية أو »خطوة تنظيم« بمعني أننا كنا طوال هذه السنوات نسير في مكاننا ولا نتقدم إلي الأمام؛ بل يمكن القول إننا كنا نتحرك إلي الخلف. في أكتوبر 73 انتصرنا علي عدو ظاهر كان يحتل أرضنا. وفي أكتوبر 2011 أسقطنا دكتاتورا غاشما ظالما ظل يرعي عصابات الفساد سنين عددا. في أكتوبر 73 بدا الطريق أمامنا لتحرير باقي الأرض طويلا. واختلفنا حول أفضل الطرق لاسترداد أرض سيناء، لكنا في النهاية حررنا سيناء بموجب اتفاقية السلام التي عقدت بين مصر وإسرائيل عام 1979. وفي أكتوبر 2011 يبدو الطريق أمامنا طويلا لكي نحرر الوطن من النظام الذي اختطفه وجعله أسيرا له لمدة ثلاثين عاما. ومثلما كانت الصورة تبدو غائمة في أكتوبر 73؛ فإنها تتبدي في أكتوبر 2011 غائمة أيضا؛ من فرط ما ظهر فيها من اختلاف بين الفرق المختلفة، وغياب فقه الاختلاف؛ الذي يمكنه أن يجنبنا، إن صدقت النوايا، كثيرا من الوقت؛ الذي قد يضيع، قبل أن ندرك قدر الخسارة التي قد تتحقق في زمن الاختلاف. في أكتوبر 73 كان لدينا جيش محترف محترم أعاد لمصر هيبتها وكرامتها، وكان الشعب يقف وراء الجيش يسانده بقوة وهو مستعد لدفع ثمن تحرير الأرض. وفي أكتوبر 2011أمسك جيشنا الوطني المحترف المحترم بزمام الأمور تمهيدا لإعادة هيكلة المؤسسات الحاكمة للدولة علي أساس ديمقراطي. لكن الشعب الذي عاني من التهميش والإبعاد والتجاهل؛ لحساب حفنة من الأفاقين، يبدو متحيرا ومتخوفا ويعاني حالة من عدم اليقين في ظل مساحة الحرية التي أصبحت متاحة، وفي ظل السيولة المصاحبة للوقائع اليومية، والتي تحتاج إلي حاسب آلي خاص ليفرزها ويأخذ قرارا بشأنها«. رجب سعد السيد ظن أن الوطن بعد انتصار أكتوبر سيتخلص من:»أدرانه، ويراجع حساباته، ويعيد توزيع خيراته علي كل ناسه بعد الحرب، لكن ما حدث خيب كل آمالي وآمال جانب كبير من جيلي، خلعوا ملابسهم العسكرية، وعادوا إلي قراهم ومدنهم ليفاجأوا برجال السياسة يبيعون عرقهم وسنوات معاناتهم ودماء من استشهد منهم، مقابل اتفاقية (استسلام) لا سلام، مهينة، لا تليق بالجندي المصري المنتصر. وجاءت سن محراث سياسة الانفتاح الهوجاء، لتقلب الأرض، وتقلع النبت والشجر، وتعطي فرصاً عظيمة للطفيليات والحشرات لينهبوا خير الوطن. وأعتقد أن تداعيات تلك الأحوال هي جانب من الدوافع التي تراكمت لتنتهي بمشهد يناير 2011 العظيم. وفي أكتوبر 2011 أري مصر تعيش ظروفا قاسية أيضاً، وإن اختلفت القسوة، فهي كالمريض الذي خرج لتوه من غرفة الجراحة، بعد إجراء عملية جراحية خطيرة، تم خلالها استئصال ورم سرطاني شديد الخبث، لا تزال له امتدادات في أنسجة المجتمع، ولا يزال محتفظا بشفرته التي يرسل من خلالها أوامره الدنيئة إلي خلايا بالجسم، فيضربها الخلل وتصاب بالجنون. لقد سرطنت السياسات الزراعية والغذائية والصحية الحياة في مصر في ربع القرن الماضي، وهذه حقيقة واقعة تثبتها الإحصائيات، غير أن النظام السابق سرطن العلاقات البشرية وعقدها، وأفقر معظم المصريين لصالح فريق من الناهبين؛ وتحتاج مصر إلي وقت أطول، وصبر أطول، وحكمة أعمق، ومعالجة أفضل، لتتعافي بعد جراحتها، ولتتخلص من بقايا الخلايا المجنونة المبثوثة في جسدها. وأيا كانت الأحوال، فإن ما حدث في يناير 2011 هو انتصار حقيقي، وقد يكون أكبر من انتصار 73، إن نحن أحسنا استثمار نتائجه والبناء عليها، ولم نتخاذل تخاذل القيادة السياسية بعد أكتوبر 73«.
أخيرا كيف استفاد المشهد الإبداعي من كلا الحدثين »النصر والثورة«. قاسم مسعد عليوة يعترف بأنه: »بتأثير من حرب أكتوبر 1973م. كتبت الكثير من الأعمال القصصية، أذكر منها علي سبيل المثال: (في المستشفي) تلك القصة التي سجلت فيها تجربتي الخاصة، (لا تبحثوا عن عنوان.. إنها الحرب.. إنها الحرب)، (الطريق إلي الدفرسوار)، و(التداخل)، وأصدرت عدداً من المجموعات القصصية المقتصرة علي الحرب وحدها، أو المتضمنية محاور تتعامل معها؛ لكن الوضع اختلف مع ثورة 25 يناير، إذ انهمكت في كتابة اليوميات بشكل رئيس والمقالات والدراسات بشكل ثانوي«. عبد العزيز موافي أختزن تجربة أكتوبر طويلا: »استغرق الأمر 20 عاماً، حيث أصدرت ديوان (1405) عام 1993 بينما في ثورة يناير سجلت تجربتي عنها في بضعة أشهر فقط، وهناك ديوان علي وشك الصدور بعنوان (5) ميدان التحرير. أما لماذا تأخر الأمر في الحرب، وكانت التلبية أسرع في حال الثورة، فلأنني عجزت عن امتلاك سر تجربة الحرب لمدة عشرين عاماً، وهي أن الحرب ليست تجربة تختص بها الذات الفردية، لكنها تجربة الذات الجمعية في مواجهة الموت، وعندما توصلت إلي تلك الرؤية، كان من السهل تسجيل تجربة الحرب بعد أن قمت بموضعة كل من الذات الجمعية والموت، وفيما يتعلق بالثورة، فقد أدركت بخبرتي عن الحرب أن تجربة الثورة- بدورها- هي تعبير عن كونها مواجهة الذات الجمعية للموت أيضاً في مواجهة النظام البوليسي والديكتاتوري الذي جثم علي أنفاسنا لمدة ثلاثين عاماً. وامتلاك الرؤية ذلك كان إفادة من تجربة الحرب، وهو العاصم بالضرورة من الإنشاد والغنائية، والمباشرة والخطابية كتابع لهما. وهذا ما يفسر أهمية امتلاك الشاعر للرؤية، ربما قبل امتلاك الأسلوب أو حتي امتلاك الخيال«. رجب سعد السيد أصدر العديد من الأعمال الإبداعية عن أكتوبر، في حين لم يتمكن: » من الخروج من حالة معايشة الأحداث، والاحتشاد من أجل إنتاج أعمال إبداعية (قصة أو رواية) عن الثورة الينايرية:»ولكني نشرت مجموعة مقالات في الصحف والإنترنت، جمعتها مؤخرا في كتاب عنوانه (ديوك الثورة وهالوكها)، نشرته سلسلة (أدب الجماهير) في المنصورة، التي يرأس تحريرها أديب مصر الكبير الأستاذ فؤاد حجازي«. مصطفي العايدي يري رغم الكتب التي صدرت عن ثورة يناير، إلا انه لا توجد حتي الآن ما يمكن أن نطلق عليه بالتجربة الإبداعية الرئيسية عن الثورة، أما محمود عرفات يشير إلي أن عددا من الإبداعات عبرت بفنية عالية عن حرب أكتوبر، وفي الوقت ذاته انتقد الأدب عبر السنوات الماضية النظام السابق بقسوة ولكن عن تجربته الشخصية:بدا اليأس من الاصلاح هو الأقرب، وهو ما عبرت عنه في قصتي» مراسم وقائع التعديل« التي تخيلت فيها أن السلطة استجابت لضغط الجماهير فقررت تعديل الدستور بحيث لا يتولي الرئيس الرئاسة سوي مرة واحدة، لكن المادة التالية جعلت مدة الرئاسة الواحدة خمسين سنة، وقد كتبت هذه القصة في أكتوبر 2004، قبل أن يعلن مبارك في فبراير 2005عن قبوله لفكرة تعديل الدستور، وكانت النتيجة تعديل فاشل لدستور معيب!!«. الناقد سيد الوكيل له وجهة نظر جديرة بالتأمل حول إبداع أكتوبر، والمأمول من تأثير إبداعي لثورة يناير: »تأثيرات الهزيمة في الأدب العربي كانت أكثر من أثر أكتوبر، الذين كتبوا عن اكتوبر وقعوا في خطأ كبير، أنهم ميزوها ككتابات خاصة عن الحرب وبذلك أخرجوها من سياق الأدب الاجتماعي وأصبحت مرتبطة بالحدث وتاريخه وبدراسات متخصصة في أدب الحرب، باختصار حرب أكتوبر لم تدخل في النسيج العام للإبداع الأدبي، كما أن جيل الستينيات لم يتجاوز الهزيمة حتي الآن في كتاباته، لقد انتقلت شخصية المثقف المهزوم من الستينيين ووصلت الي الأدباء الجدد مع تعديلات طفيفة تناسب متغيرات العصر. أعتقد أن الأنظمة الحاكمة كانت حريصة علي تثبيت روح الهزيمة داخلنا. هل سيتغير شكل المشهد الأدبي بعد الثورة أم لا؟ هذا سؤال أطرحه علي نفسي الآن، لكني غير متفائل، لأن من يقود المشهد الأدبي ليسوا النقاد أو القراء، بل دور النشر والإعلام، وهؤلاء لهم حسابات أخري.وهم يجرون القراء والمبدعين خلفهم«.