حافظ .. مش فاهم

لا شك أن لكل إنسان قدرة على التعبير عن مكنون صدره، يرسم بلسانه صورة لمن حوله يعبر بها عما استقر فى وجدانه.
ولكن من الناس من لا يدخر جهدا فى أن يتخذ مما رُسم أمامه من صور التعبير المختلفة خيوطا ينسج بها ملامح صورة مقلدة، يبوح بها أمام غيره، مدعيا أنها تنم عن فكره، ذلك الفكر القاصر المريض.
فهذا الشيخ (حافظ) يبذل قصارى جهده فى حفظ ما يُصب فى أذنيه، محتفظا به فى وعاء ذهنه، فإذا أُتيحت له فرصة للحديث – كأن يعتلى منبر مسجد – أخذ يفرغ ما حفظه فى وعائه دون تحليل أو تنقيح.
وقد تناسى الشيخ (حافظ) ما قد أولاه الناس من تقدير واحترام، لا لأنه عالم، بل لأنه رجل دين وهذا ما فُطر عليه شعبنا العظيم، وقد تناسى أيضا أن أمامه جمعا غفيرا يصغى إليه متلهفا لسماع ما يقول، وأن هذا الجمع يضم المتعلم، والأمى، والمتعلم، وأن هؤلاء جميعا قد وثقوا به معتقدين أن ما يسرده إنما هو من نتاج قريحته وقدح ذهنه، لا يعلمون أنه حفظ ولم يفهم ولم يبحث ولم يتأن.
وإذا بالشيخ (حافظ) يقلب الحقائق، ويُغيب العقول، لا يملك فى ذلك إلا لسانا فصيحا وبيانا رائعا يبهر به الأذهان، وأخطر ما فى هذه المسألة أنه يتحدث باسم الدين، فيفسر تلك الآية القرآنية المجيدة، ويوضح مغزى ذلك الحديث النبوى الشريف، وليت الأمر يتوقف عند هذا الحد.. بل يتعدى ذلك إلى إصدار الفتاوى التى يُعمِل فيها فكره القاصر وأفقه الضيق بحث . ولو كانت الفتاوى بالأمر الهين ما اجتمع عليها علماء باحثون فى مجامع متخصصة، وما أفردت لها هيئات لا ينتمى لها إلا من وعى العلم وعيا كافيا.
ليتنا نعلم أن لكل علم عالما، وأن لكل فقه فقيها، أن لكل خاصة متخصصا، وأنه لا يُكتفى فى إبداء الرأى فى مسألة فقهية ما بالحفظ فقط، بل يحتاج الرأى إلى قريحة متقدة، وفكر واع، وأفق متسع.
ليتنا نعلم أن تقدير رجل الدين يأتى من حصافة وسداد رأيه، لا من بيانه الساحر ولسانه الباهر، ولن يتحقق لنا ذلك إلا عندما نكون على قدر ليس بالقليل من الوعى والفهم الصحيح لأمور ديننا، بحيث ينمى لدينا هذا الوعى القدرة على التمييز بين الغث والسمين فيما يُعرَض أمامنا من آراء – إن لم ندققها – قد تلقى بنا فى هوة سحيقة لا نجاة منها.