حيث انها كانت تسلك دروباً غير معروفة للكافة كي تتخفي عن أعين المشركين كما يؤكد معرفتها بعلوم الفلك والجغرافيا لتحديد وجهتها في الصحراء وإلا لتاهت عن الطريق. وتتجلي الحكمة في تعدد أمهات المؤمنين في أن يكن معلمات للنساء ومفتيات لهن وللرجال ايضاً فقد كان العلماء يأخذون عنهن بما في ذلك الخلفاء الذين كانوا كثيراً ما يرجعون إليهن فيما يشكل عليهم من بعض الاحكام الشرعية ولاسيما السيدة عائشة رضي الله عنها التي لم يكن نفاذ رأيها ورجاحة كفتها وقفاً علي الدين وحده فكذلك كان أمرها في رواية الشعر والأدب والتاريخ وكذلك كان نفاذها في الطب وعلم الكواكب والأنواء والأنساب وما إلي ذلك.. يقول عروة بن الزبير فقيه المسلمين: ما رأيت أحداً أعلم بفقه ولا بطب ولا بشعر من عائشة.. ويذكر عبدالله عفيفي صاحب كتاب المرأة العربية ان حديث رسول الله منذ عهد عائشة أم المؤمنين حتي عهد الذهبي ما حفظ ولا روي بمثل ما حفظ في قلوب النساء وروي علي ألسنتهن. ولعل ما نقرؤه في كتب التراجم إبان عصور نهضة الدول والممالك الإسلامية من سعي طالبي العلم إلي تلقيه عن المشهورات به في مصر والشام والعراق وغيرها والجلوس في حلقات دروسهن للاستماع يعطينا فكرة واضحة قوية عن مركز المرأة العلمي وما نالته من تقدير معاصريها واحترامهم. إذ لم يكف النساء أن يتعلمن العلم أويعلمنه في صورة سهلة أو لعقليات مبتدئة. وأن زحف الكثير منهن إلي مركز الأستاذية. وجلس أمامها شيوخ كبار يتلمسون الاستماع إليها أو القراءة عليها أو الإجازة منها. وبرغم ما مهد للرجل من مشاكل المسائل وهيئ له من وسائل الكشف والاستنباط فقد كان للمرأة علي لحاقها بالرجل في كل ما أسلفنا مظهر خلقي كريم في العلم والتعليم. وتشهد التراجم للعالمة المسلمة بتميزها بالصدق في العلم والأمانة في الرواية والحيدة عن مواقع التهم ومساقط الظن مما لم يوفق إليه كثيرون من الرجال. ومما يدعو إلي الدهشة حقاً كثرة عدد النساء المشتغلات بالعلم. والعاكفات عليه وأعجب من هذا أن أشياخ العلم. أمثال: الحافظ بن عساكر "499 571ه" إمام أهل عصره في الحديث وأوثقهم عقدة وأصدقهم حديثاً والملقب بحافظ الأمة قد أخذ العلم عن بضع وثمانين من النساء. فهل سمع الناس في عصر من العصور وأمة من الأمم أن عالماً واحداً يتلقي عن بضع وثمانين امرأة علماً واحداً فكم تري منهن من لم يلقها أو يأخذ عنها والرجل لم يجاوز الجزء الشرقي من الدولة الإسلامية فلم تطأ قدماه أرض مصر ولا بلاد الغرب ولا الأندلس وهي أحفل ما تكون بذوات العلم والرأي من النساء. وابن حجر. وهو من هو في عالم التدريس والفتيا وصاحب المؤلفات القيمة في التاريخ. لم يجد غضاضة في أن يأخذ بعض علمه عن امرأة. أو أن يطلب إليها أن تجيزه. بل يعدها وغيرها ضمن أشياخه بكل افتخار واحترام. ونظرة سريعة إلي الجزء الذي ترجم فيه السخاوي لشهيرات القرن التاسع الهجري من كتابه "الضوء اللامع" يتجلي منها للقارئ ازدحام الكتاب بأخبار ربات العلم. ويعجب للعدد الكبير الذي تتلمذ عليه السخاوي استماعاً أو قراءة. ويمكن القول إن أشياخ السخاوي من النساء. قد زدن علي الخمسين إجازة منهن قرابة خمس وعشرين شيخة. والسؤال الذي يدور في الأذهان هو: كيف أتيح للمرأة أن تخرج من قوقعتها المغلقة إلي دنيا العلم الواسعة. وأن تتحرر من قيود الحجاب التي فرضتها عليها القيود المجتمعية. فتبرز من خدرها إلي مجالس العلم مع الرجال دون اعتراض أو ثورة؟ إذ لم يكن غريباً في نظر المعاصرين لفترات ازدهار الدول والممالك الإسلامية علي مدي التاريخ جلوس نساء علي رأس حلقات الدرس في المدارس المنشأة. أو المساجد المعمورة. ولم يعجب أحد للكثيرات المرتحلات في سبيل العلم أو لمن قصد مجالسهن من الرجال المشتغلين بالفقه والحديث وعلوم القرآن للإستماع إليهن أو الأخذ عنهن أو طلب الإجازة منهن علي نحو ما ذكره السخاوي عن واحدة من أولئك هي سارة بنت عمر بن عبدالعزيز بن محمد المعروفة ببنت ابن جماعة والمتوفاة سنة 855 ه من انها "كانت صالحة محبة للطلبة ذات صبر علي الاسماع وصحة السماع وأن أهل مصر نزلوا بموتها درجة في الرواية". غير أنه من الملاحظ عدم وجود كتاب محفوظ باسم واحدة من اولئك الفضليات برغم رغبة المتعلمات في تلك العصور المزدهرة وميلهن إلي اتقان الخط وحفظ القرآن والحديث والقراءات والفقه والتأليف في كل ذلك أو بعضه ورود أسماء كثيرة لمؤلفات لهن بالعديد من المراجع.