من عجائب هذا الزمان أن وصل الحال ببعض الناس ممن لا يقرأون ولا يكتبون، أنهم يدعون المعرفة ببواطن الأمور.. هذا فى الأمور العادية، فما بالك بمن ينصّب نفسه مفتيًَا يفتى الناس فى أمور دينهم بغير علم ناسيًا أو متناسيًا أن «من أفتى بغير علم ذبح بغير سكين» كما يقولون، ومن هؤلاء من أفتى مؤخرًا بعدم جواز تهنئة الأخوه الأقباط فى أعيادهم. ولنا فى الإمام الفقية «أبى حنيفة النعمان» القدوة فى ذلك.. فقد هرب على عهد أبى جعفر المنصور من ولاية القضاء على قدر علمه وجلاله خوفًا من قضاء الله.. وهو من هو فى الفقة. فليس كل من قر أحرفا صار مفتيا.. ولذلك فعندما كان الشيخ الراحل عطية صقر العالم الجليل ورئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر الشريف والملقب ب «مفتى العصر» رحمه الله.. عندما كان يفتى كان يعقب فتواه بكلمة «والله أعلم» وكأنه يخاف من حمل تركة وتبعة الفتوى لأنها عند الله عظيمة.. وبلغ من دقة علمه أنه كان يفتى ولو على سلم المترو الذى كنت دائمًا ما ألتقيه عليه. فكان ذاكرة حافظة متنقلة. فمن الذى يفتى؟ وبماذا يفتى؟ يجيب الشيخ منصور الرفاعى عبيد وكيل أول وزارة الأوقاف الأسبق بقوله: إن الشخص الذى يجوز له الفتوى هو الشخص الذى درس علوم الإسلام بجامعة الأزهر ويبدأ ذلك بداية من التعليم الابتدائى والإعدادى والثانوى والجامعى بالأزهر الشريف. ويرى أن هذه الدراسة هى التى تؤهل عقلية الدارس لاستنباط الأحكام من مصادرها الحقيقية لأنه يتعلم على فقة المذاهب، ولا شك أن الأستاذ الذى يشرح للطلبة ينمى فيهم الضمير.. ويجعل عندهم صحوة إسلامية تستمر فى اتجاه سليم بشرط أن يكون الشخص حافظًا للقرآن الكريم وعنده علم بآيات الأحكام والناسخ والمنسوخ.. علاوة على مدارس التفسير وآراء المفسرين القدامى فى بعض الآيات التى يستنبط منها الحكم الشرعى، كذلك عنده علم بالحديث الشريف.. وعلم الرجال.. وكما يقول علماء الحديث: معرفة «الرواية والدراية». وأوضح الشيخ الرفاعى عبيد أن من يتصدى للفتوى لابد أن يكون عنده أيضًا علم بالسيرة النبوية.. وكيف كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يفتى أصحابه وكيف كان يستمع إلى فتاواهم ويراجعهم أحيانًا ويقرهم فى بعض الأحايين.. بالإضافة إلى علمه بأصول الاجتهاد والاستنباط والقياس والمصالح المرسلة.. وفقه المذاهب. ونحن ندرك أن المذاهب ليست أربعة، فهناك أكثر وأكثر المهم أن يكون ملمًا بمدارس الفقهاء فهناك فقة الرأى وفقه العقل والإستنباط وغير ذلك من الأمور الفقهية التى تدرّس فى الأزهر.. وهناك علم مهم جدًا عليه أن يتعلمه بجانب اللغة العربية وفنونها من نحو وصرف. . هذا العلم يسمى علم «التخفيف» لأن الله ما فرض شيئًا إلا وجاء بالتحفيف حتى لا تكون هناك مشقة على من يمارس التكليف فالتكليف بجواره تجفيف. ويشير الشيخ الرفاعى إلى أن لكل قاعدة «شواذ» حتى العلماء هناك من الشخصيات من يقول عنهم البعض إنهم «نرجسيون» أى إنهم يحبون دائرة الضوء.. وفى رأيهم «خالف تعرف» وبين الحين والآخر تخرج علينا شخصيات لها مكانتها العلمية، لكنهم للأسف يخرجون عن المتعارف عليه. فمن سنوات أفتى بعض العلماء بجواز تأجير الأرحام، وإن كانت فتواه صحيحة عندما تجلس معه لأنه يتحدث عن رجل له زوجتان والماء ماء الرجل الواحد، لكن البويضة تنتقل من زوجة إلى زوجة وماء الرجل واحد.. لكن عندما أفتى بجواز تأجير الأرحام لم يفهمها الناس. لأن تأجير الأرحام حرام وزنا. وهو لم يوضح للجماهير مقصد فتواه.. ومن هنا التبس الأمر وصارت الفتوى تسيىء للإسلام والمسلمين. والأمثلة كثيرة.. ولا أدرى كيف أن حب الشهرة وتردد الاسم فى وسائل الإعلام يجعل هؤلاء يتكلمون بما لا يفقهون. ويتذكر الشيخ الرفاعى عبيد كلمة لأحد علماء المذهب الشافعى تقول: «إن عندنا علمًا لوحدثنا الناس به لا تهمونا بالجنون». وحديث النبى (صلى الله عليه وسلم) يقول: «خاطبوا الناس بما يفهمون أتحبون أن يكذّب الله ورسوله». فلو أن هؤلاء العلماء نظروا فى واقع الأمة الإسلامية وما نعانى فيه من تمزق وفرقة واعتداء على بلادهم وضرب لمصالحهم.. وتفتيت الجبهة الداخلية هنا وهناك. ولو أن هؤلاء العلماء وفروا جهدهم فيما لا يفيد ولا ينفع وأصبح فى ذمة التاريخ ونظروا إلى أرض الواقع وحللوا المشاكل ووضعوا العلاج ثم هذا السيل من الأغانى الهابطة والكليبات الماجنة.. ولو أنهم استرجعوا واستخرجوا من كنوز الأدب العربى الأغانى الجميلة التى كان يقولها العرب والقصص العظيم الذى تمتلىء به خزائن كتب الأدب فى الإسلام وقدموا ذلك إلى المسرح والسينما لكان أجدى لهم وأحسن وأثوب ويترك لهم بصمة على جبين الزمن تتحدث عنهم. ويعيب الشيخ الرفاعى عبيد على بعض العلماء أنهم للأسف شغلوا أنفسهم بما لا فائدة من ورائه وخيّل إليهم أن هذا يخدم الإسلام لكنه للآسف يسيىء إلى الإسلام ولا يخدمه. هذه القاعدة التى ذكرناها من قبل وهى «خاطبوا الناس بما يعرفون» ينبغى على كل الذين يتصدون للإفتاء أو يتحدثون عن الإسلام أن تكون رائدهم.. وفى أذهانهم حتى لا يسيىء إلى ديننا ولا إلى رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم). والخوف ليس من أعداء الإسلام بل من بعض أبناء الإسلام الذين يعيرون سمعهم لأعدائهم وسيبقى الإسلام شامخًا رغم عبث العابثين، فالله تكفل بحفظ كتابه ودينه من فوق سبع سماوات.