يرى "إخوان الصفا" أن "نفس المؤمن بعد مفارقة جسدها تصعد إلى ملكوت السماء وتدخل فى زمرة الملائكة.. "ابن سينا": الفردوس عالم حقيقي.. والنار مجرد تخيلات.. "الجنة".. بمجرد مرورها على الأذن يطلق كل منا العنان لخياله محاولا على قدر فهمه للقرآن رسم صورة لها تعينه على مشاق الحياة، وتنتهى محاولته بالفشل كلما تذكر قول المولى عز وجل فى حديث قدسى قاله حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم : أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. رواه "البخاري" . ولأن بعض الفلاسفة حاولوا التوفيق بين الدين والفلسفة، وسلك هؤلاء طريقان، الأول تأويل النصوص والحقائق الشرعية، بما يتفق مع الآراء الفلسفية، ومعنى هذا إخضاع تلك النصوص والحقائق إلى هذه الآراء حتى تسايرها وتتماشى معها. أما الطريق الثاني، فهو "شرح النصوص والحقائق الشرعية بالآراء والنظريات الفلسفية، ومؤدى هذا أن تطغى الفلسفة على الدين وتتحكم فى نصوصه. ومن أبرز الفلاسفة الذين حاولوا فهم "الجنة" و "النار" ابن سينا وإخوان الصفا. فسر "ابن سينا" الجنة والنار والصراط تفسيرا فلسفيا بعيدا عن المأثور الثابت الصحيح، فيقسم العوالم إلى ثلاثة أقسام: عالم الحس، وعالم خيالى وهمي، وعالم عقلي، والعالم العقلى عنده هو الجنة، والعالم الخيالى هو النار، والعالم الحسى هو عالم القبور، أما الصراط، فيقول فى شرحه: «اعلم أن العقل يحتاج فى تصور أكثر الكليات إلى استقراء الجزئيات، فلا محالة أنها تحتاج إلى الحس الظاهر، فتعلم أنه يأخذ من الحس الظاهر إلى الخيال إلى الوهم، وهذا هو من الجحيم طريق وصراط دقيق صعب حتى يبلغ ذاته العقل، فهو إذن يرى كيف الحد صراطا وطريقا فى عالم الجحيم، فإن جاوزه بلغ عالم العقل، فإن وقف فيه وتخيل الوهم عقلا، وما يشير إليه حقا، فقد وقف على الجحيم، وسكن فى جهنم، وهلك وخسر خسراناً مبينا". وفسر "ابن سينا" أبواب الجنة الثمانية، وأبواب النار السبعة تفسيرا فلسفيا: «وأما ما بلغ النبى محمدا عن ربه عز وجل أن للنار سبعة أبواب، وللجنة ثمانية أبواب، فإذ قد علم أن الأشياء المدركة إما مدركة للجزئيات كالحواس الظاهرة، وهى خمسة، وإدراكها الصور مع المواد، أو مدركة متصورة بغير مواد كخزانة الحواس المسماة بالخيال، وقوة حاكمة عليها حكما غير واجب، وهو الوهم، وقوة حاكمة واجبا، وهو العقل، فذلك ثمانية. فإذا اجتمعت الثمانية جملة أدت إلى السعادة السرمدية، والدخول فى الجنة، وإن حصل سبعة منها لا تتسم إلا بالثامن أدت إلى الشقاوة السرمدية. والمستعمل فى اللغات أن الشيء المؤدى إلى الشيء يسمى باباً، فالسبعة المؤدية إلى النار سميت أبوابا لها، والثمانية المؤدية إلى الجنة سميت أبوابا لها». أما إخوان الصفا وخلان الوفا فهم جماعة من فلاسفة المسلمين العرب من القرن الثالث الهجرى ظهروا بالبصرةاتحدوا على أن يوفقوا بين العقائد الإسلامية والحقائق الفلسفيةالمعروفة فى ذلك العهد فكتبوا فى ذلك خمسين مقالة سموها"تحف إخوان الصفا". وهم يشرحون "الجنة" بأنها عالم الأفلاك، وأن "النار" هى عالم ما تحت فلك القمر، وهو عالم الدنيا، ففى حديثهم عن تجرد النفس واشتياقها إلى عالم الأفلاك، يقررون أنه لا يمكن الصعود إلى ما هناك بهذا الجسد الثقيل الكثيف، إذ «إن النفس إذا فارقت هذه الجنة، ولم يعقها شيء من سوء أفعالها، أو فساد آرائها، وتراكم جهالاتها أو رداءة أخلاقها، فهى هناك فى عالم الفلك فى أقل من طرفة عين بلا زمان، لأن كونها حيث همتها أو محبوبها، كما تكون نفس العاشق حيث معشوقه. وتابعوا: فإذا كان عشقها هو الكون مع هذا الجسد، ومعشوقها هو الملذات المحسوسة المموهة الجرمانية، وشهواتها هذه الزينات الجسمانية، فهى لا تبرح من ههنا ولا تشتاق الصعود إلى عالم الأفلاك، ولا تفتح لها أبواب السماء ولا تدخل الجنة مع زمرة الملائكة، بل تبقى تحت فلك القمر، سائحة فى قعر هذه الأجسام المستحيلة المتضادة، تارة من الكون إلى الفساد، وتارة من الفساد إلى الكون: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} (سورة النساء: 56). {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} (سورة النبأ: 33)، ما دامت السموات والأرض، لا يذوقون فيها برد عالم الأرواح الذى هو الروح والريحان، ولا يجدون لذة شراب الجنان المذكور فى القرآن: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} (سورة الأعراف: 50) الظالمين لأنفسهم، ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الجنة فى السماء، والنار فى الأرض». ويرى "إخوان الصفا" أن "نفس المؤمن بعد مفارقة جسدها تصعد إلى ملكوت السماء وتدخل فى زمرة الملائكة، وتحيا بروح القدس، وتسبح فى فضاء الأفلاك، فى فسحة السموات، فرحة، مسرورة، منعمة، متلذذة، مكرمة، مغتبطة»، ويقولون: إن ذلك هو معنى قول الله عز وجل: "إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ" (سورة فاطر: 10) كما يفهمون أن تسمية الله الشهداء فى قوله: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} (سورة النساء: 69). بهذا الاسم إنما هو لشهادتهم تلك الأمور الروحانية المفارقة للهيولى، ويعنون بها جنة الدنيا ونعيمها.