الله تعالى علم آدم كل الأسماء ودعانا أن نبحث فى ذاكرة الكون عن كل ضياء توطئة قد يكون من المفيد أن أذكر شيئا عن الضرورة أو الأسباب التى دعتنى إلى قيامى بهذه الدراسة، فقد بدأت الفكرة عام 1994م وكنت حينها فنانًا تشكيليًا وناقدًا، أقمت معارض عدة، وتناول النقاد هذه الأعمال بشىء من الرضا ومنهم رئيس جمعية النقاد المصرية كمال الجويلى وآخرون. ثم بدأت أتناول فلسفة الفن والتشكيل فى صحافتنا المصرية حتى استوقفتنى عدة أسئلة. بدأت هذه الأسئلة تشغلنى لفترة ثم عادت بقوة مع مكالمة من د.علاء الأسوانى الكاتب فى الشعب آنذاك والروائى العالمى بعد ذلك بسنوات طوال، وكذلك الأستاذ مجدى حسين رئيس التحرير، يطلبون منى كتابة مقال عن حالة الالتباس والمناظرات السلبية حول علاقة التشكيل واجتهادات التفاسير المختلفة لآيات القرآن الكريم، ثم جمعنى الحديث بعدها مع الأستاذ صلاح عيسى فى مكتبه بجريدة القاهرة بالزمالك حول رؤيتى لما حدث من طالبان وتمثال بوذا. لذلك وجدت أطرافا عديدة منهم بعض علماء الدين وجميعهم يطلبون منى، بل ويدفعوننى دفعا إلى محاولة تفسير علاقة التشكيل بما هو مكتوب بين دفتى التفاسير المختلفة للقرآن الكريم باعتبار أننى فنان تشكيلى وناقد ودارس للشريعة الإسلامية فى جامعة الأزهر. سافرت بعدها إلى دولة الإمارات العربية المتحدة حيث وجدت العالم قد تقدم هناك بعد الأخذ بكل أسباب العلم والمعرفة، وفتحت الإمارات أبوابها لكل مثقف يكتب ما يشاء، وهذه شهادتى أمام الله. فلا يكاد يمر يوم إلا وفيه فعالية ثقافية، أو مؤتمر أدبى، ناهيك عن معارض الكتاب ومعارض التشكيل سواء الشخصية أو الجماعية، إضافة إلى بينالى الشارقة الدولى والذى أصبح بحق ملمحا لثقافة شعب واع بأهمية الثقافة، وتكاد تزدحم دبى بالدوريات الثقافية، وبها مقالات ودراسات للعديد من كتاب الوطن العربى. وفى الإمارات بدأت أتناول بالتحليل أعمال غالبية فنانى التشكيل الإماراتى، سواء سلبا أو إيجابا فى كل ما يعنى بالثقافة، ومنها ملحق الخليج الثقافى وملحق البيان الثقافى وجريدة الاتحاد، ومجلة الرافد والصدى وغير ذلك. وشاءت المصادفة أن ألتقى الدكتور زغلول النجار العالم الجليل فى جامعة عجمان يوم الاحتفال بتأسيس كرسى الإعجاز العلمى فى القرآن الكريم، وعرضت عليه فى عجالة ما أفكر فيه من أمر هذه الدراسة، فوجدت تشجيعا وحافزا غير مسبوق حتى قال إننا نحتاج فى عالمنا العربى إلى كل جديد يقود إلى عالم من التنوير الحقيقى بما لدينا من تراث عبقرى عالمى، بل وبما لدينا من هذا التنزيل المعجز من قبل رب العالمين. مدخل لا بد فى البداية أن نستشعر حب الله لنا، وكيف أنه سبحانه وتعالى قد أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وأرسل إلينا رسولًا شاهدا ومبشرًا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، هو النبى الأمى محمد صلى الله عليه وسلم الذى بلغ رسالة ربه للعالمين. والله سبحانه وتعالى خلق الكون بقدرته، وأمر ملائكته بالسجود لآدم فسجدوا إلا إبليس اللعين. وسخر لنا ما فى هذا الكون لنبتغى من فضله، فالشمس والقمر والنجوم كلها مسخرات بأمره تعالى للإنسان، والليل جعله لباسا وسكنا، والنهار جعله معاشا، وسخر لنا البحر وما فيه من صيد أحله لنا سبحانه وتعالى حتى فى الأشهر الحرام، والأنعام والدواب لنا فيها منافع، وكذلك الخيل والبغال والحمير لنركبها وزينة. هكذا أراد لنا الله سبحانه وتعالى السعادة فى الدنيا إذا كنا على الحق والصراط المستقيم، نستمتع بالطبيعة وزينتها ولا تلهينا عن ذكر الله والعمل الصالح الحسن، قال تعالى: "إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً" الكهف7. وكذلك لا تكون الزينة البغيضة كما هى عند فرعون، قال تعالى: "فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ" (القصص: 79). ومن فضله سبحانه وتعالى أن أمرنا بالتدبر فى آيات الكون والسير فى الأرض للنظر كيف كان خلق السماوات والأرض وكيف هى تلك المحيطات الشاسعة وما تحويها من ممالك تسبح جميعا بحمد الله. ثم تبقى الأسئلة التى شغلتنى ومنها آيات بينات فى كتاب الله، نلتقى ببعض منها فى هذه الدراسة، وكان أولها: آية فى سورة يونس: قال تعالى: "فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ" (يونس: 92). فقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يجعل جسد فرعون معرضًا كونيا يشاهده الخلق وعلى مر العصور، بعد أن عصى وأفسد وأراد أن يسلم بعد أن أدركه الغرق. لذلك أودع الله سر التحنيط فى بعض من خلقه، لكى يرى الناس بعد ذلك وفى القرون التالية مومياء فرعون آية على قدرة الله، وليتحقق قوله تعالى: "لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً" والآية هى المعجزة والدلالة والعلامة، وقد تحق ذلك ورأى الناس فى كل مكان وزمان هذه الآية التى ما زالت إلى يومنا هذا تدور على الدنيا من خلال المعارض للموميات، وبعد أن تم تحنيط فرعون، انقطع السر بعد ذلك حتى عن أعتى الأمم علما وحضارة ولم يستطع أحد أن يحنط أحدا، لأن الله سبحانه وتعالى أراده من أجل تلك الآية الباهرة. أما السؤال الثانى كان عن آية فى سورة سبأ: قال تعالى: "وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ. يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِى الشَّكُورُ" (سبأ: 12، 13). الله سبحانه وتعالى سخر لسليمان عليه السلام هؤلاء الجن الذين يعملون له بإذن ربه ما يشاء، وهم طوع يديه، بعد أن دعا ربه لأن يهب له ملكًا لا ينبغى لأحد من بعده، فكانت الجن تعمل له تماثيل ومحاريب وجفان وقدور راسيات، ومن هنا كان السؤال الذى ألح على ذاكرتى إذا كانت الجن قد عملت لسليمان الحكيم شيئًا فأين هو.. وإن لم تكن عملت شيئًا فكيف ظلوا فى العذاب المهين حتى دلتهم دابة الأرض على موت سليمان. وقد أجمعت التفاسير على أن التماثيل كانت من زجاج ونحاس، إلا القرطبى الذى أضاف لها مادة الرخام وهنا لا بد من سؤال آخر، وهو عن الجفان التى كَالْجَوَابِ جَمْع جَابِيَة وَهُوَ حَوْض كَبِير يَجْتَمِع عَلَى الْجَفْنَة أَلْف رَجُل يَأْكُلُونَ مِنْهَا، فهذا ما تعمله الشياطين، فكيف يكون حجم التماثيل التى تقوم بعملها؟ لذلك خرج علينا البعض فى عهد قريب يطرح إمكانية التفكير فى أن التماثيل الضخمة فى "أبو سنبل" فى صعيد مصر والتى لا يتصور أحد كيف لإنسان أن يجسد حجمها أحد، هى من صنع الجن..! هذا احتمال لا يمكن أن نناصبه العداء، خاصة أن الأمم التى تعاقبت حتى يومنا هذا لم يقوموا بمثل هذه الأعمال. أما السؤال الثالث كان عن آية فى سورة الصافات: قال تعالى: "إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ" (الصافات: 64، 65). وفيها يكمن أهم الأسئلة عندى وهو كيف يشبه الله لنا مجهولًا بمجهول... فنحن لم نر شجرة الزقوم حتى تكون الشياطين مثلها!. وحالفنى توفيق الله؛ فقمت بالدراسة فى جامعة الأزهر حتى حصلت على الإجازة العالية "الليسانس" فى الشريعة الإسلامية وتكشفت لى بعض الإجابات أو التأويلات عن بعض هذه الأسئلة، لكن يبقى ذلك حالة من حالات الاجتهاد فى قراءة التفاسير، وهذه الاجتهادات تحتمل الخطأ الذى له أجر، كما تحتمل الصواب والذى أرجوه أن يكون ذلك وله أجران. وفى هذه الدراسة التى أود أن تكون عملًا خالصًا لوجه الله تعالى الكريم، أردت فقط القول بأن أمة الإسلام هى أمة عبقرية لكنها لم تستفد من أسرار القرآن الكريم، ولا من معجزاته، ووقف البعض بالمرصاد لكل محاولات التأويل والاجتهاد، التى تحاول أن تبحث فى كتاب الله عن الكنوز والأسرار الإيمانية التى لا تزال بين دفتى المصحف إلى أن تقوم الساعة ويقوم الناس لرب العالمين. وأنا أعلم يقينا أن هذه الدراسة ستكون محل جدل ثقافى واسع وأيضًا على يقين من أن كل من يقرأ آيات الله فيستشعر فى نفسه مشاعر مختلفة عن الآخر، كل تبعًا لرقة مشاعره أو ما جُبل عليه من مشاعر، وكذلك فلكل منا خياله الخاص حينما تدعونا آيات الله إلى التدبر والتفكر والتخيل. ونحن نعلم أن الكاتب والفنان والمبدع عمومًا يرى من تفاصيل الأشياء ما لا يراه غيره، فقد يرى فى دمعة طفل يتيم مريض كل المأساة، لكنها عند الطبيب حالة من الحالات. وقد يرى المبدع فى انهيار مبنى على رؤوس من فيه نهاية العالم، لكن ذلك عند المهندس حالة من غش المقاولات، لا يهم لديه من قضى تحته. وقد أودع الله فى بعض العباد أسرار العلم وأسرار الطبيعة، بل وسخر غير المؤمنين به للعمل ليلًا ونهارًا من أجل صالح البشرية وصالح المؤمنين، وإلا لما كانت هناك قوانين الجاذبية والمصباح الكهربائى، والأقمار الصناعية والتنقيب عن كنوز الأرض والبحار من البترول والمعادن، وكل المخترعات الحديثة التى ساعدت البشرية على ممارسة الحياة بيسر كبير.
هدف الدراسة وربما يكون من أهم أهداف هذه الدراسة القول بأن المذاهب الحديثة التى أطلت علينا من ناحية الغرب هى فى حقيقتها شرقية لا غربية، يدلنا على ذلك الحس الصوفى المطلق الذى غلف أعمال وحياة رائدى التجريدية كاندنسكى وبول كيلى، بل إن الأول كتب رسالة عن الروحانية فى الفن. ويدلنا على ذلك أيضا ما كان من أمر الشعر قديما ومن مواقف النفرى ومخاطباته التى كانت لغة إبداعية أخرى، تجاوزت الشعر والنثر، إلى عالم آخر يحتاج إلى البحث والتحليل كونه اخترق حد الحداثة أو ما بعدها. وفى هذه الدراسة نكاد نزعم أن هؤلاء قد أمعنوا قراءة القرآن العظيم، وقرءوا التفاسير، واستوعبوا الصور البيانية البلاغية، والمشهديات الإبداعية التى تجلت فى آيات القرآن الكريم. وكان الخلاف كبيرًا فيما يتعلق بالموضوعات التى اجتهد فيها العلماء بعد ذلك كى يتيحوا للناس فرصة فهم سهل لتفاسير القرآن الكريم.
التصوير الفنى عند الشيخ سيد قطب ومن هذه الآراء ما تعلق بتناول الشيخ سيد قطب المشهديات الفنية فى القرآن الكريم فى كتابه التصوير الفنى فى القرآن الكريم. ونستطيع أن نؤكد أن الكثرة من العلماء قد اتفقوا على أن التصوير هو الأداة المعتبرة فى أسلوب القرآن فهو يعبر بالصورة المحسة المتخيلة عن المعنى الذهنى والحالة النفسية وعن الحادث المحسوس، والمشهد المنظور، وعن النموذج الإنسانى والطبيعة البشرية، ثم يرتقى بالصورة التى يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة أو الحركة المتجددة، فإذا المعنى الذهنى هيئة أو حركة وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد وإذا النموذج الإنسانى شاخص حى، وإذا الطبيعة البشرية مجسمة مرئية. ومهما كانت ردود الأفعال تجاه كتاب الشيخ سيد قطب التصوير الفنى فى القرآن، فلا يمكن لأحد أن يقيد منا التخيل أو رؤية هذه المشهديات بكل تجلياتها ونحن نقرأ القرآن العظيم. فقد لاقى كتاب الشيخ اعتراضات كثيرة؛ منها أن المصطلحات التى استخدمها كالمشهد والموسيقى والحوار والقصة والنغمة إنما هى من أعمال أهل الدنيا وأعمال أولئك الذين سخط الله عليهم. "والتصوير الفنى الذى قصده الشيخ سيد قطب إنما جاء من إعجاز القرآن الكريم وبلاغة اللغة العربية التى قال عنها الإمام الشافعى: "لا يحط بالعربية إلا نبى". وجاء من المعنى الذى يقع عند السامع الخاشع إذا قرأ القرآن أو استمع له، فمن الذى لا يتوقف عند هول كلمات يوم القيامة ووقع جرسها ومنها "الصاخة" و"الطامة"، تكاد هذه الألفاظ كما يقول صاحب الظلال أن تخرق صماخ الأذن فى ثقلها وعنف جرسها، ولكنك إذا استمعت إلى ألفاظ تصور الحالة المشرقة للصبح والإصباح "وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ" تجد الإعجاز فى اختيار الألفاظ لمواضعها، ونهوض هذه الألفاظ برسم الصور على اختلافها. ومما ذكر الشيخ سيد قطب أيضًا من هذه المقابلات التى أفزعت البعض ما كان فى سورة الفجر: ففى وسط الهول الذى ترسم صورته هذه الآيات الكريمات: "كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ" فى وسط هذا الروع الذى يبثه البناء اللفظى، تأتى الآيات الأخرى لمن آمن العذاب: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِى فِي عِبَادِى * وَادْخُلِى جَنَّتِى). هكذا فى عطف ولطف: (يا أيتها) وفى روحانية وتكريم: (يا أيتها النفس). (المطمئنة) فى وسط هذا الروع. (ارجعى إلى ربك) بما بينك وبينه من صلة وإضافة. (راضية مرضية) بهذا الانسجام الذى يغمر الجو كله بالرضا والتعاطف. (فادخلى فى عبادى) ممتزجة بهم متوادة معهم. "وادخلى جنتى".
القصة والشعر وحين نتعامل بمنطق المجتهد فلابد أن نحرر محل النزاع ونتفق على أن الله تعالى ذكر القصة والشعر فى القرآن الكريم، ونتفق على أن القصة لها ما لها، وأن الشعر هو شىء آخر. فالله سبحانه وتعالى يخاطب نبيه الكريم ويورد له القصص: قال تعالى "وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا" (النساء: 164)، وقال تعالى: "وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ" (هود: 120). وفى سورة يوسف قال تعالى: "نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ" (يوسف: 3). وقد وَرَدَ فِى سَبَب نُزُول هَذِهِ الْآيَة مَا رَوَاهُ اِبْن جَرِير حَدَّثَنِى نَصْر بْن عَبْد الرَّحْمَن: حَدَّثَنَا حَكَّام الرَّازِى عَنْ أَيُّوب عَنْ عَمْرو هُوَ اِبْن قَيْس عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : قَالُوا يَا رَسُول اللَّه لَوْ قَصَصْت عَلَيْنَا؟ فَنَزَلَت "نَحْنُ نَقُصّ عَلَيْك أَحْسَن القصص". وقد أخبر سبحانه وتعالى عن الشعر والشعراء فى القرآن الكريم لاختلاف أوجه التناول الإبداعى، قال تعالى"وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ" النمل 226، وقال تعالى "وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ" الحاقة 41، فى تفرقة واضحة بين القصة والشعر، فالقصة لها شروطها الإبداعية وكذلك الشعر. ولو قرأنا آيات كتاب الله بنفس صافية وخالصة لوجدنا أن كل ما جاء به الغرب من معجزات علمية وطبية وحقائق كونية هى فى كتاب الله الكريم، لذلك نحاول أن نلتمس الطريق ناحية الاتجاهات الفنية الحديثة فيما يخص التشكيل فى بعض تفاسير القرآن الكريم، وكيف أن الغرب والذين أسسوا مذاهبهم لم يأت أىٌّ منهم بجديد.
الزينة والجمال والألوان فى القرآن الكريم فى الفن الحديث يتوافق الشكل مع المضمون ولهما أهمية متساوية، لكن فى هذه الدراسة يتبن لنا أهمية المضمون القصوى الذى تقدمه لنا الآيات، ثم يأتى الشكل بعد ذلك نتاج أعمال الخيال. فقد احتفت كل التفاسير بآيات الزينة والبهجة والجمال التى وردت فى كتاب الله تعالى، منها ما هو فى الدنيا الفانية ومنها ما لا يخطر على بال بشر مما هو فى الجنة وما أعده الله تعالى لعباده الصالحين. وفى هذه الدراسة نورد من هذه الآيات ما نقترب به إلى كل مستويات التلقى شريطة إخلاص النية وأن نستبعد المواقف المسبقة، بل يجب أن نتعامل بمنطق المجتهد الذى إذا أصاب فاه أجران وإن أخطأ فله أجر. قال تعالى: ·"بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ" (البقرة: 69). قال شريك عن معمر عن ابن عمر (فاقع لونها) صافٍ، وقال العوفى فى تفسيره عن ابن عباس( فاقع لونها) أى شديدة الصفرة تكاد من صفرتها تبيض، وقال السدى "تسر الناظرين" أى تعجب الناظرين، وقال وهب بن منبه إذا نظرت إلى جلدها تخيلت أن شعاع الشمس يخرج من جلدها. ·"وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَّمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ" (النحل: 5، 6). "ولكم فيها جمال حين تريحون" قال ابن كثير وقت رجوعها عشيًا من المرعى فإنها تكون أمده خواصر وأعظمه ضروعا وأعلاه سمنة، (وحين تسرحون) أى غدوة حين تبعثونها إلى المرعى. ·"وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً" (النحل: 8) يقول ابن كثير عن أكبر المقاصد من الخيل والبغال والحمير إن الله جعلها للركوب والزينة. ·"إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً" (الكهف: 7). والزينة هنا كما يقول مجاهد زائلة أى أن زينة الدنيا هى فى النهاية للاختبار، وبعدها الزوال والانقضاء والفراغ وذهابها. 5- "أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ" (النمل: 60). يقول ابن كثير (فأنبتنا به حدائق ذات بهجة) أى بساتين لها منظر حسن وشكل بهى. 6- "وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ" (يوسف: 31). قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والحسن والسدى وغيرهم أن امرأة فرعون قالت أنتن من نظرة واحدة فعلتن هذا بعد النظر إلى يوسف فكيف أنا، فقلن لها وما نرى عليك من لوم بعد هذا الذى رأينا. لأنهن لم يرين فى البشر شبيهًا ولا قريبًا منه؛ فإنه عليه السلام قد أعطى شطر الحسن كما ثبت فى الحديث الصحيح فى حديث الإسراء، أن النبى صلى الله عليه وسلم مر بيوسف عليه السلام فى السماء الثالثة قال "فإذا هو قد أعطى شطر الحسن". 7- "إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ" (الصافات: 6). أخبر الله تعالى أنه زين السماء الدنيا للناظرين إليها من أهل الأرض بزينة الكواكب التى يثقب ضوئها جرم السماء الشفاف فتضىء لأهل الأرض.
الألوان إن كل ما يمكن تخيله من ألوان موجود فى مخلوقات الله من نباتات وزهور، وفى باطن البحر ما يمكن أن يسلب الألباب من التنسيق البديع للألوان سواء على المرجانيات أم فى مخلوقات البحر التى لا يعلم أعدادها إلا خالقها علام الغيوب. وفى البداية نذكر أن صفات الألوان هى الفاقع لوصف اللون الأصفر وأما الناصع صفة للأبيض والقاتم للأسود. ونحن نتحدث عن الألوان فى القرآن الكريم ينبغى أن نذكر أن الألوان ألأساسية هى: الأزرق والأصفر والأحمر وكذلك الأسود، بالطبع الأبيض وهى الألوان التى لا يمكن إنتاجها بمزج الألوان.لكن الألوان عامة تنقسم إلى الألوان الدافئة (الساخنة): الأحمر، الأصفر، البرتقالى، وكلّ تدرجاتها. والألوان الباردة: الأخضر، الأزرق، البنفسجى، وكلّ تدرجات هذه الألوان. الألوان الباردة ترتبط بالبرد، هدوء، وصفاء. يشكلون تراكبًا لونيا. والألوان التماثلية هى الألوان التى تصطف بجانب بعضها فى دائرة الألوان. وقد وردت الألوان فى القرآن الكريم بصفاتها الصريحة الأسود والأبيض والأحمر والأزرق والأصفر وكذلك الألوان المشتقة لكنها فى القرآن الكريم صريحة دائما. وقد وردت الألوان فى آيات عديدة منها، قوله تعالى: - "بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ" (البقرة: 69). - "وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ" (فاطر: 27). - "يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ" (النحل: 69). - يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ" (آل عمران: 106). - "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ" (الحج: 63). - "وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ" (الزمر: 60). وفى تفسير ابن كثير يقول إن الله تعالى ينبه على كمال قدرته فى خلقه الأشياء المتنوعة المختلفة من الشىء الواحد وهو الماء الذى ينزله من السماء يخرج به ثمرات مختلفا ألوانها من أصفر وأحمر وأخضر وأبيض إلى غير ذلك من ألوان الثمار التى ورد ذكرها، وكما هو مشاهد من تنوع ألوانها وطعومها وروائحها، وذكر القرآن أيضًا الألوان المشتقة التى تتبادر إلى الخيال بمجرد قراءة الآيات كالبنفسجى فى ثمار الرمان فى الآية: "وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ" (الأنعام: 99). وقوله تبارك وتعالى: "وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا" أى وخلق الجبال كذلك مختلفة الألوان كما هو المشاهد أيضا من بيض وحمر وفى بعضها طرائق وهى الجدد جمع جدة مختلفة الألوان أيضًا. قال ابن عباس رضى الله عنهما الجدد الطرائق، وكذا قال أبو مالك والحسن وقتادة والسدى ومنها غرابيب سود، قال عكرمة الغرابيب الجبال الطوال السود وكذا قال أبو مالك وعطاء الخراسانى وقتادة، وقال ابن جرير والعرب إذا وصفوا الأسود بكثرة السواد قالوا أسود غربيب ولهذا قال بعض المفسرين فى هذه الآية هذا من المقدم والمؤخر فى قوله تعالى "وغرابيب سود: أى سود غرابيب وفيما قاله نظر. وهذه الألوان التى وردت فى القرآن الكريم لها دلالتها، ففى تفاسير القرآن الكريم تجد أن اللون الأسود هو مرادف لأعمال وصفات الكافرين والذين كذبوا على الله"، بينما كان اللون الأبيض هو مرادف لأعمال الصالحين من العباد، كما كان اللون الأسود والأبيض والأحمر أيضًا هو لون بعض الجبال الشوامخ والطرائق بينها، واللون الأصفر فى بقرة بنى إسرائيل كان مبعثًا للسرور فى نفوس المشاهدين، كذلك كانت الألوان المتعددة فى الثمرات التى نأكل منها. عملية النقد هناك الكثير من النظريات الجمالية التى تحكم جمالية الأعمال الفنية ومستواها، وتعتمد هذه النظريات بشكل أو بآخر على مجمل العناصر والأسس التى تجعل من العمل الفنى، عملا يمكن تذوقه جماليًا. وكذلك الأسس التى استخدمت فى بناء العمل الفنى، والعلاقات التشكيلية بين عناصر العمل والتكوين، والنسب والمنظور. وتختلف أساليب الحكم على الأعمال تبعًا لتباين المدارس الفنية، فهناك الواقعية التى تعتمد على الدقة فى استخدام الألوان والعلاقات والخطوط، وهناك النظرية الشكلية التى تعتبر التنظيم الشكلى هو المعيار الوحيد للحكم على العمل الفنى، ولا مجال فيه لأى علاقة بين العمل والقيم الاجتماعية. وهناك من يرى أن مضمون العمل الفنى ربما يكون أعمق معنى من المعنى الجمالى للعمل الفنى عبر مستويات هذا المضمون المتعددة. نشأة الفن الفن هو مطلق الموهبة والمهارة، وهو مرادف أيضا للأخلاق، كما أنه لا بد وأن يفرض حالة من المتعة بين الذات والموضوع، والفن الإيجابى هو الذى يفرض الاحترام والإعجاب الخالص، وهو الذى يدلنا على آيات البهجة والزينة والجمال والبهاء حتى تحدث تلك الحالة من المتعة المفرطة. قد تقتضى الضرورة أن نذكر بعضا يسيرا عن نشأة الفن وبداياته التى حددها المؤرخون بالعصر الحجرى، فقد شكل الإنسان البدائى ما يحتاجه من أدوات شكلها من العظم والخشب والصلصال، حتى إذا فزع من الحيوانات الضارية قام بتسجيل خوفه منها ثم انتصاره عليها على جدران الكهوف، ثم بدأ الفن المصرى القديم بالزخرفة على الأوانى الفخارية، وتشكيل الدمى من العاج، وبدأ علم التحنيط وانتهى سره كما بدأ. ثم تأكدت الصفات الروحية والعقائد الدينية فشيّدوا المعابد والتماثيل من حجر الجرانيت القاسى بشكل أعجازى. واتخذت العمارة أشكالا أهمها الأهرامات، وقبل ظهور الإسلام كان الذوق العام يبحث عن جميل يمنحه السكينة والأمان والتوازن النفسى بين الأرضى والسماوى، والدينى والدنيوى والحسى والروحى، حيث ارتبط بالوثن والصنم المعبود فى الجاهلية. وبعد الإسلام وحين تداعت الأسس الروحية لمنظومة القيم الوثنية استدار عنها الذوق العام وحلت مفاهيم التوحيد للإله الواحد الأحد الخالق الأعظم، وعرف الإنسان أن الجمال يخضع بقوانينه لقدرة الله مصدر الجمال والبهاء وهو أرقى جمال وهو رمز لتضافر الخير والحقيقة. ولابد أن يكون الفن جميلا ويتوقف هذا على مقصد الفن فى استثارة المشاعر الراقية كما قال ابن سينا: جمال العمل الفنى فى مقصده. وحين تراجعت المفاهيم الراقية للفنون وارتبطت بالترف والدعوة للانحلال والمجون كان لا بد من الوقوف فى وجه تلك الفنون ومقاومة عبثها، وهكذا كان الفن الإسلامى الذى انصرف كليةً عن التشبيه والتجسيم إلى التسطيح والزخرفة والأرابيسك فى واجهات المساجد ومشربيات المنازل. ولم تكن الزخرفة وأعمال الأرابيسك إلا حالة من تجليات الفنان المسلم الذى وجد فى تسبيحاته وتكبيراته اللانهائية صياغة واعية لما يعتريه من جلال المشهد النورانى الذى تألفه النفس البشرية النقية، لذلك تجد وحدات الأرابيسك والوحدات الزخرفية على أبواب المساجد، وكذلك تلك المقرنصات هى وحدات لانهائية وامتداد معمارى هندسى لا يحده إطار. كذلك برز دور الكتابة فى العمارة بكل تجليات الحرف العربى وتشكيلاته، إلى جانب الاهتمام بالخزف والتحف المعدنية والنسيج والسجاد. وجاء بعد حين عصر النهضة الذى اهتم بالتجسيم الواقعى والطبيعة والحياة الإنسانية والمنظور، فكانت الواقعية التى أضفى عليها عصر العباقرة شخصية الفنان ذاته وإحساسه بجلال العمل الفنى وجماله أيضا. وشهد القرن التاسع عشر عصر فن الباروك واهتماما أكبر بالإنسان وعلاقته بالطبيعة وثراء الألوان وإيجاد الحلول التشكيلية للأعمال الفنية. ثم تطورت المفاهيم الجمالية إلى مقاييس للرقة والأناقة ورحلة نحو الكمال الكلاسيكى الذى يهتم بالرسم الدقيق والتجسيم ومحاكاة الطبيعة وألوانها والنسب التشريحية المنضبطة. ثم جاءت الرومانتيكية ليعبر الفنان عن شاعريته وخياله الحقيقى وانتقل عشاق الفن إلى الطبيعة والتأمل فى الكون الفسيح، ولاحظوا قرص الشمس وأشعتها الساقطة على الأشياء لتكون التأثيرية. وهكذا تنوعت الأساليب والاتجاهات الفنية حتى وصل الأمر إلى المفاهيمية، والتى بدأت جذورها مع مارسيل دو شامب والمبولة الشهيرة والتى فتحت الباب أمام الأعمال سابقة التجهيز أو التنصيبات الفراغية. والتى حملها فيما بعد جوزيف كوست افتراضات فلسفية اجتاحت ولا تزال المشهد التشكيلى العربى بعد العالمى. ومع الصراع التكنولوجى وثورة المعلومات نود أن نذكر فقط أن الفن يرتبط فى جوهره بالحس الروحى، فلو تتبعنا الفن المسيحى نجده تأثر فى بداياته باللاهوت؛ حيث قام الرهبان برسم الأيقونات وفق قوالب خاصة فنية ثابتة فى الشكل والمضمون انتهت بعد ذلك إلى صفاء الشكل وحبكة التكوين، وظهر تأثير ذلك فى النزعة الصوفية عند كاندنسكى رائد التجريد ورسالته حول الروحانية فى الفن عام 1910. التشكيل المعاصر من الضرورى أن نؤكد أن الفن التشكيلى فى نزعاته التقدمية هو رجع الصدى للحركات الفكرية التى نشأت حديثًا، وإذا كانت الاتجاهات الفنية الحديثة تسير بجانب الحركات الأدبية والفكرية، فإن لها أفكارها وأساليب أدائها المختلفة. غير أننا ينبغى أن نؤكد أننا فى الوطن العربى استقبلنا المذاهب الحديثة بتوجس وريبة بعد مرور فترة طويلة على تأسيس هذه المذاهب فى أوروبا، ومنها الكلاسيكية والرومانسية، وكذلك الواقعية الحديثة التى تحاول تبسيط الخطوط والألوان، لذلك لا يخلو اتجاه حديث من تأثيرها، ففى كل الفنون لا تختفى الأشكال العضوية نهائيًا، ثم التعبيرية، أما الوحشية وهو مذهب العودة إلى الفطرة والبدائية فى التعامل مع الألوان بطابع زخرفى صارخ الانفعال، ويقوم على الدوافع الغريزية مع تشويه الأشكال وتحطيم الخطوط. ومن رواده هنرى ما تيس، ويعتمد هذا المذهب على التسطيح فى البناء وتجانس الضوء وبساطة الأداء بلا ظل أونور، ثم التكعيبية وهو الاصطلاح الذى أطلق على ثورة بيكاسو وبراك فى الأداء، وهو يتعلق بنظرية التبلور حيث تأخذ المعادن أشكالًا هندسية التكوين قائمة على أسس تجريدية، وهذا المذهب فيه رد على الحركات الواقعية مع أنه يجنح إليها، لكن واقعيته تقوم على الصورة الجوهرية. وتعمل الواقعية التكعيبية على تصوير الأشياء الظاهرة والمختفية باعتبار أنها موجودة، وأخيرًا التجريدية، ثم السريالية التى قامت بفعل الدادئية التى كانت إرهاصاتها الأولى بعد الحرب العالمية الأولى لتحدث التمرد على كل شىء، فكانت الدادائية حركة الهدم وتحطيم الأطر والتمرد والثورة والتخريب والسخرية، هكذا ببساطة ما حدث بعد الحرب العالمية الأولى على يد فنانى الدادائية، فهى اتجاه قام على صرخات الاستنكار لما خلفته الحرب العالمية الأولى، أى أنها حركة سياسية لها منظروها ومنهم مارسيل دوشامب الذى قدم أعماله ضد القيم الجمالية. ونؤكد أيضا على أن كبار الفنانين الذين أسسوا هذه المذاهب فى الغرب ذاقوا الويلات ومرارة الرفض والتعتيم وكانت خاتمة حياتهم أشبه بالمأساة لكل منهم فى صراعهم مع أنصار القديم، لكن فنان الوطن العربى الذى يقلد هؤلاء يعيش فى برج عال، ويتأفف من جهل المتلقى بهذه المذاهب. وفى خلال هذه الدراسة نذكر بعض ملامح المذاهب الفنية فى بعض تفاسير القرآن الكريم، ومن خلال عدد قليل من آيات الله التى لا يحيط بعلمها أحد. ولا يعنى هذا أننا سنتناول كل النظريات والمذاهب التى لا تحصى، أو الدخول إلى مناطق التنظير التى لاتهم المتلقى البسيط، ولكن فقط نتناول من المذاهب ما يمكن أن يقرب ويوضح الهدف من هذه الدراسة خاصة الكلاسيكية، التأثيرية، التجريدية والسريالية، ثم نعرج على نماذج من بعض الاستلهامات الفنية لعدد من الفنانين. الكلاسيكية هذه المدرسة تهتم بالنقل الكلاسيكى المطابق تماما للأصل لكل ما فى الواقع والطبيعة، وهى لذلك تشكل حالة رصد كاملة للمجتمعات، وقد كانت بديلًا عن الكاميرا قبل اختراعها، وشكلت البورتريهات أكثر ما يميز هذه المدرسة وكذلك الطبيعة الصامتة. والذى يشاهد بورتريهات هذه المرحلة يقف فى حيرة من قوة النقل وحرفيته الطاغية، وقد تدخلت فيما بعد أحاسيس الفنان فى رصد هذه الأعمال فكانت هناك الواقعية الرمزية والواقعية التعبيرية. كانت النظرة الجمالية الخالصة هى تلك التى بدأت بها الحركة الكلاسيكية التى تمثل أوضاع الطبيعة بلا تشويه، وقام عليها الفن الإغريقى والرومانى، "أعمال العصر الذهبى.. دافنشى وأنجلو". حيث المقاييس الطبيعية والنقل عن الأصل تمامًا. وهذا ما نلحظه فى آيات كثيرة منها ما تعلق ببقرة بنى إسرائيل التى كانت فى غاية الكلاسيكية، ووصفها القرآن الكريم بأنها تسر الناظرين للمتعة التى يحدثها الأصفر الفاقع البديع "الأصفر الصريح"، إلى جانب التكوين والتشريح الجسدى المثالى. قال تعالى: "بقرةُ صفراءُ فاقعٌ لونُها تسر الناظرين" البقرة 69. وليوناردو دافنشى وهو من فنانى عصر النهضة الذين ساهموا فى صناعة هذه الحقبة الذهبية فى تاريخ الفن، وهو الذى اعتمد فى أسلوبه على صياغة العناصر بوحدة تصورية متكاملة عن طريق درجات الظل والنور المتغايرة، جعلتنا نتخيل وجود الخطوط الخارجية دون أن نراها تصورية متكاملة.. وجعلتنا نحس بوجود الهواء والفراغ، كما نشعر بطيّات الملابس. وقد ألف دافنشى عدة مؤلفات تتعلق بالرسم وتوجيه الفنانين، متحدثا بأسلوب علمى عن قواعد الرسم المستقاة من الطبيعة، معالجا علاقة الفن التصويرى بكل من الشعر وحركات الجسم الإنسانى والأقمشة والملابس وقوانين الظل والنور، والمناظر الطبيعية بما فيها من أشجار وسحب وصخور وفضاءات. وتعتبر رائعته الموناليزا التى رسمها فى "15031507" تلخيصًا جوهريا لحالته تجاه الموديل بعدما أضفى عليها الواقعية والشاعرية فى آن واحد. وفى الآية الثانية قال تعالى: "فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ" يقول ابن كثير: أى بساتين لها منظر حسن وشكل بهىّ. وهكذا فلن تتحقق البهجة إلا من خلال تبادل المتعة بين الذات والموضوع، وهنا لا بد أن تكون الذات المستقبلة صافية حتى تستطيع أن تتلقى هذا المنظر الطبيعى بكل جلال الرهبة والقدرة لله رب العالمين. والمنظر الطبيعى للحدائق غالبا ما يلفه الشجر بأوراقه اليانعة الخضراء، وزهوره المختلفة الألوان، حيث تبدو السماء فى خلفية المنظر زرقاء تمتد فى اللانهاية. وقد برع الفنانون منذ القدم فى رسم الطبيعة الصامتة وخاصة فى العصر الذهبى، ومنهم "كارافاجيو"، الذى جاء بمفاهيم جديدة عن فن الطبيعة الصامتة، فبعد أن كانت هامشية فى اللوحة أصبحت هى البطل الرئيسى، فأنت عندما ترى فى أعمال هؤلاء أطباق الفاكهة، والكئوس، والصحون المليئة بالأطعمة المرتبة على نحو متناغم، وحبات التوت والعنب وتكاد تلمس وندرك خشونة البرتقال بالبصر، ومتعة التذوق، تتحول النظرة إلى اللوحة هنا إلى حالة من التواصل الممتع بين الذات والموضوع، لأن العناصر كادت وطابقت الأصل بشكل واقعى مبهر. فى سورة المؤمنون: قال تعالى: "فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ"، يقول ابن كثير فى تفسير هذه الآية إن الجنة هى البساتين والحدائق والتى لها منظر حسن، وقد احتوت على كثير من الفاكهة والثمار الطيبة بداية من النخيل والأعناب بكل صنوفها وأشكالها وألوانها، إلى الفاكهة الكثيرة والمتنوعة والمختلفة والتى ذكرت أيضًا فى آيات كثيرة. الرومانسية اهتمت هذه المدرسة بالبُعد العاطفى الذى يضفى على اللوحة الكلاسيكية إحساس الفنان تجاه الموضوع، ولعل الفنان البريطانى جون وليام ووترهاوس والذى تخصص فى رسم النساء الجميلات وافتتانه بفكرة الأنوثة وتبنيه للاتجاه الواقعى فى الرسم، ومن خلال لوحة "أزهار الريح" تبدو هذه الفكرة حيث تمثل فتيات فى ملابس فضفاضة وهن يجمعن الأزهار فى طبيعة مفتوحة. والذى يقرأ سورة يوسف لا بد أن تأخذه الآيات التى تتحدث فيها النسوة عن يوسف عليه السلام لما دفعته إليهن امرأة العزيز، فأضاف خيالهن لهذه الخلقة الجميلة ليوسف عليه السلام كل ما كن يحلمن به فى الرجل، وقلن إنه من الملائكة. لقد تحول النموذج الواقعى تماما إلى حالة رومانسية بفعل الفنان البريطانى وليامز أو النسوة فى الآيات الكريمات: "فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكًا وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ"، يقول ابن كثير أن امرأة العزيز قالت للنسوة هل لكن فى النظر على يوسف؟ قلن: نعم، فبعثت إليه تأمره أن يخرج إليهن، فلما رأينه جعلن يقطعن أيديهن، فلما جعلن يتألمن قالت لهن هذا من نظرة واحدة فكيف أنا؟ " فَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَك كَرِيم"، وبعد ذلك قلن وما نرى عليك من لوم بعد هذا الذى لم يرين مثله بين البشر ولا شبيهه، فقد أعطى يوسف عليه السلام شطر الحسن، كما ثبت فى حديث الإسراء. التأثيرية قال تعالى: "أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً" 45 الفرقان، لا شك أن كل فنان لديه نزعته التأثيرية من خلال تألق ألوانه واستخدام البقع اللونية المتجاورة، لكن التأثيرية قامت على تحليل الطيف الشمسى إلى الألوان السبعة وعلاقته بشبكية العين، حيث نشاهد الألوان متأثرة بالطبيعة الزرقاء لطبقات الهواء، ومع اقترابنا نشاهد الألوان على حقيقتها. ويتعامل التأثيريون مع الألوان بوضعها متجاورة حتى تمتزج على شبكية العين فى عملية تسمى الامتزاج البصرى. وفى أوقات مختلفة يختلف التأثير بالطبع وهذا ما صنعه مونيه الذى رسم المنظر فى عدة أوقات. ويعتبر الضوء عند التأثيرين هو البطل الذى يحقق المتعة وكذلك المسافة عن الصورة التى تعطى الامتداد وتحقيق الشكل العام. أما التأثيرية كاتجاه والتى اقترنت بالفنان كلود مونيه (1840-1926) والذى هام عشقا بالظل والنور حتى انه كان إذا لم يكمل لوحته عاد فى اليوم التالى إلى نفس المكان وفى نفس التوقيت ليجد الظل كما هو بقدره ومقداره، وهو بذلك يدلنا على آية أخرى فى كتاب الله الكريم. قال تعالى "أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً" 45 الفرقان. الله سبحانه مد الظل أى بسطه وحركه، فكلما مالت الشمس عن وسط السماء ناحية الغروب انتشر الظل أكثر وامتد أكثر وتكون الشمس عليه دليلا، فالأشياء تعرف بأضدادها، لذلك قام مونيه برسم نفس المشهد فى مختلف ساعات النهار فقام برسم الحشائش مرة ومرات فى أجواء مختلفة، فالتأثيريون راقبوا الشمس وأشعتها الذهبية الساقطة على الأشياء فى أوقات مختلفة ثم خرجوا إلى الطبيعة ليقدموا للعالم أسلوبهم عن طريق ضوء الشمس ودائرة الظل وكل ما هو ملون بالشمس التى تعطى العناصر تألقا دائما، بل وتصبح للألوان قيمة مغايرة بسقوط أشعة الشمس عليها سواء بتحويلها إلى ألوان أخرى أو تعطى المشاهد إحساسا بلون آخر. ولأن الظل فى التأثيرية ملون بالضوء قام التأثيريون بالتحليل الدراسى لضوء الشمس حتى تحرر عندهم اللون من عملية الخلط، واستخدموه مباشرة على سطح اللوحة دون مزج، كما استخدموا الخط المهزوز أو النقط المتجاورة حتى يراها المشاهد من مسافة كما فعل فان جوخ. ولو تتبعنا بداية الظل كما قال ابن عباس وابن عمر -رضى الله عنهما- أى ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، علمنا كيف كان الفنان ألتأثيرى أنشط من غيره من الفنانين؛ لأنه يبدأ يومه فى هذا التوقيت المبكر، بعد أن استفاد من حكمة الله التى أجرى عليها شئون الخلق والمخلوقات أجمعين. التجريدية قال تعالى: "أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ" 40 النور. التجريدية هى إعادة صياغة لكل ما هو محيط بنا برؤية فنية جديدة يتجلى فيها حس الفنان باللون والحركة والخيال ودافعه ومثيره التشكيلى، ويعود الفضل فى ابتكار الفن التجريدى للرسام الكبير كاندينسكى الذى حقق عام 1910 أولى اللوحات المجرّدة بمادة «الغواش»، وكذلك إلى رائد التجريد الهندسى الفنان موندريان. وهو أسلوب جديد يختلف عن الكلاسيكية والتوجهات الفنية الأخرى المتّبعة، ويبتعد عن التصوير التقليدى حيث تطور المنظر الطبيعى إلى حالة من التبسيط، وكذلك تفكيك معالم اللوحة. وعلى خلاف الدقة الباردة التى تطبع التجريد الهندسى ورائده موندريان فإن غنائية كاندنسكى تسمح بحرارة المادة والحركة الدائبة أيضًا. وهناك العديد ممن ساهموا فى انتشار هذا التوجه الجديد من خلال معارضهم التى بدأت جماعية مشتركة، حيث بدأت اللوحات وكأنها دراسات للعالم الجديد فهى فضاء يسبح فيه مجموعة من البقع اللونية. لكن المصطلح نفسه تعرض لتقسيمات تشكيلية حسب حالة التلقى، فهناك من تحدث عن فن لا شكلى، وقسمٌ آخر عن فن حركى، وقسمٌ ثالث عن مشهدية مجرّدة أو مادّية، ولكن مايجمع هذه التقسيمات هو أهمية النور والحركة والمادة أو الوسيط. ومن الممكن القول أن التجريد هو تعبير مرتجل عما يعتمل فى النفس، يجمع الفنان فيه عناصره وهو الفن الذى يتخلص من تفصيلات الأشياء، والانتقال بها إلى الخصائص الكلية وتعرية الطبيعة للكشف عن أسرارها. تنويه تعتبر الصوفية هى الرافد الأساسى الذى أمد الفنان التجريدى بإبداعاته، من حيث التجرد عن كل رغبات النفس وهواها، وكذلك تجريد الصفات الجمالية من شكلها الحسية لتبدو فى حالتها الفلسفية القائمة على الصفات الجوهرية، ويبتعد التجريد عن التشبيه العينى والحسى، ويعتبر الفنان الروسى كاندنسكى من أهم فنانى التجريدية ويعتبر كتابه عن الروحانية فى الفن من أهم المراجع فى هذا الميدان، وهو أول من أنتج فنًا غير محدد الشكل. وكذلك فإن موندريان هو رائد التجريدية الهندسية التى تقوم على أساس من الفن المعمارى، وألف هو الآخر كتابا فى التشكيلية الحديثة. ومن التجريدية انطلقت بعض المذاهب والمدارس كالتجريدية التعبيرية وغيرها. وإذا كان التجريد هو الذى يتحرر فيه اللون والشكل من قيد الواقع نجد آيات فى كتاب الله تدعونا للتأمل بشكل آخر؛ قال تعالى فى معرض الحديث عن أعمال الكافرين "أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ" 40 النور. فى هذه الآية ننظر إلى التراكيب فائقة الروعة، ولو تأملناها لوجدنا فيها علاقات تشكيلية كاملة من ظل ونور وكتلة وفراغ وحركة وسكون والخطوط المستقيمة واللينة ومختلف الإيقاعات اللونية لإحداث التوازن المطلوب بداية من الأزرق الداكن والأسود المتدرج "بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ" إلى البقع الزرقاء التى تختفى تحت مساحات ثلجية بيضاء "مِن فَوْقِهِ سَحَابٌ" ثم مساحة من الداكن "ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ" لتعادل الأبيض، مساحة تجريدية خالصة لمست فينا وجها آخر للآية الكريمة. ورغم أن الفن التجريدى قد حرر الألوان من ارتباطها بالرموز، إلا أن علاقتها معًا تظهرها فى واقعها الأصلى، وفى هذه الآيات نجد استخدام الأسود والأبيض والرماديات وأزرق الماء بين السحب يجد صداه لينطلق الخيال إلى الارتباط بالمعنى العام للآية فى وصفها لأعمال الكافرين. وقد تابع بعض الفنانين العرب محاولاتهم فى تجريب التجريد مثل الفنان السورى ربيع الأخرس؛ حينما بدأ يلخص فى تماثيله رسالته كان سيمبوزيوم النحت الأول فى دبى شاهدا على ذلك. وكذلك الفنان الإماراتى عبد الرحيم سالم الذى حاول فى التجريد الشكلى؛ حيث تخلص من تفاصيل الموديل فى لوحة الحامل، وكان قد تفوق على كثيرين، خاصة مع حالة الوعى بأهمية التجريد كحالة شعورية متدفقة لا يحدها شىء، ثم توقف بعدها ليخوض مع الخائضين فى ظاهرة الفن المفاهيمى الذى وفد إلى المنطقة العربية حديثا، رغم أن عبد الرحيم سالم من تلك الكوكبة الإماراتية من جيل الرواد صاحب الشأن فى التشكيل الإماراتى، والتى لا بد وأن تتمسك بأهمية الموروث. السريالية قال تعالى: "إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ" 64-65 الصافات. انبثقت السوريالية بفضل اطلاع الشاعر أندريه بريتون على أفكار الفيلسوف فرويد بين العقل والخيال وبين الوعى واللاوعى. وتقع فى منطقة سطوة الأحلام والفكر الحر. من أهم السرياليين : خوان ميرو- آرب- آيرنست - سلفادور دالي. وهى تلك الحركة التى قامت بفعل الدادائية التى هدمت كل شىء وهدمت نظريات الفن، وهى شعور ملتبس ودوافع غامضة يترجمها الفنان إلى أشكال أكثر غموضًا، والفنان السريالى لديه عالم حقيقى مجهول ومتحرر من كل الحقيقة، تتدافع لديه الرؤى التى لا يراها فى الواقع، ولكنه يراها فى مخيلته وأحلامه وهذيانه ثم يضعها كما هى فى إطار عمل فنى تتحكم فيه العلاقات التشكيلية يسمى الصورة الفوق واقعية. ومن الخطأ لدى العامة نسبة السريالية إلى دالى، لكنه أحد الذين انضموا مع آخرين إلى جماعة مذهب السرياليزم التى أسسها الشاعر أندريه بريتون لتترجم كل مشاهد الفوق واقعية التى تتخلص من العقلى إلى اللا عقلى واللا شعورى، وبطبيعة الحال تتخلص من الإدراك البصرى. وتعتنى بخبايا النفس من نزعات وعقد وميول ولكن بلغة خاصة تصل إلى الهلوسة أو الخرافة، والذى يحقق ذلك هو عالم الرؤى والأحلام حيث تحاط الأشكال بالغموض، ومن الممكن أن يكون عالم اليقظة أيضا ميدانا لهذا الاتجاه أى يحقق سيريالية اليقظة كأن يصور الفنان دوافعه فى صور حيوانية مثلًا، أو التحليق فوق الواقع النظرى ليعبر عن الأشياء والموضوعات الرمزية الغامضة فى اللا شعور. يعتبر هذا المذهب فى حقيقته ترجمة لأبحاث التحليل النفسى التى قام بها العالم سيجموند فرويد فى علاج النفس البشرية التى أصابها العوار من جراء الواقع، فيقوم الفنان بالبحث فى اللاشعور عن الأزمات حتى تتخلص النفس منها. وبذلك تكون السريالية فتحت آفاقا غير مرتادة للفن ليكون مطهرًا لكل شىء. وتقول التفاسير القرآنية إن الله سبحانه وتعالى حين أمرنا بالتخيل.. والتدبر والتفكير إنما أرادنا أن نُعمل أقصى طاقات العقل لفهم الواقع وما فوق الواقع الذى نسلم به بكل جلال الإيمان بالغيب. وها هى آيات القرآن العظيم تدعونا لذلك حيث قال تعالى عن شجرة الزقوم: "إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ" 64-65 الصافات. وهنا شبه الله سبحانه وتعالى مجهولا بمجهول.. فنحن لم نشاهد شجرة الزقوم ولا الشياطين ولا رؤوسها، فكيف لنا أن نعرف شجرة الزقوم؟ لكن الله أمرنا بإعمال الخيال؛ فقد كانت العرب تتخيل الشيطان فى كل مستقبح ومستقذر، ومن يستطع التخيل لكل التفاصيل والمفردات حتى الدقيقة منها إلا الفنان الذى يتجاوز حدود الواقعية إلى آفاق أخرى ميتافيزيقية لمشاعره التى تكون رجع الصدى لما يراه فى مخيلته يقظة أو منامًا.. هى السريالية، وبنفس المعنى نستطيع رسم شجرة تروى بالنيران وفى نهاية طلوعها رؤوس منفرة كتلك التى قد يراها أحدنا فى كوابيسه يقظة أو مناما. ابن الإنسان لوحة ابن الإنسان للفنان البلجيكى رينيه فرانسوا ماغريت والقريب من السريالية والذى يصور دائما عناصر طبيعية فى سياق غير طبيعى، ليعطى فى النهاية معانى جديدة، وهذا الاتجاه فى الرسم أطلق عليه فى ما بعد الواقعية السحرية. من أعماله لوحة" ابن الإنسان" والتى تصور تفاحة وجدارا ورجلا مجهولا على رأسه قبعة، تعيش فيها مع فضاءات من الأحلام أو اليقظة، وربما من الغموض وهو يربط فكرة الجنة والنار وتفاحة آدم بعصرنا من خلال اللباس العصرى للرجل فى لوحته. المفاهيمية قال تعالى: "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ". الحج 18. يقول الطبرى فى تفسيره عن هذه الآية: إن الله تعالى يقول لنبيه الكريم: ألم تر يا محمد بقلبك فتعلم أن الله يسجد له من فى السماوات من الملائكة ومن فى الأرض من الخلق من الجن وغيرهم، والشمس والقمر والنجوم فى السماء، والجبال والشجر والدواب فى الأرض. من هنا قد نستطيع أن ندلف إلى المفاهيمية التى تدور حول تحرير فكرة العمل الفنى من معناها السطحى أو مرادفها الإصطلاحى، وتتعامل مع المعانى التى تفرضها الأسئلة الفلسفية حول عناصر العمل الفنى، وهذا ما فعله جوزيف كوست الذى قرأ المعنى وافترضه فى ثلاثة أحوال للعنصر، الصورة والأصل واللغة. فقام بوضع كرسى فى فراغ القاعة، ثم وضع على الجدار صورة فوتوغرافية للكرسى وبجوارها كتب على الجدار أيضا كلمة "كرسي"، وترك للمتلقى التعامل مع كل الأفكار الواردة إلى خياله تجاه هذا العمل. وبنفس هذه الفرضيات تعامل الفنان الإماراتى محمد يوسف مع الجماد والحركة فيه بعد أن قرأ القرآن بكل الجلال والخشوع، وقرأ التفاسير التى قالت أن الجماد كالجبال والشجر والدواب كلها تسجد لله، فعلم أن هناك حركة فى الكون، واستوعب حركة الجماد وأراد أن يعبر عن تلك الحركة وفق ما اتسع له خياله وفلسفته حول طبيعة هذه الحركة فقام بقطع بعض جذوع الأشجار وصنع لها ما يشبه القدم ترتكز عليه ثم وزعها فى حديقة منزله، وقام بدعوة الفنانين والجمهور برؤية هذا المعرض لكن الجميع استهجن ما حدث.. وسبب الاستهجان أن الفنان محمد يوسف صاغ أعماله بطريقة مباشرة أفقدتها قيمتها الفلسفية، لكن تبقى هذه المحاولة من أهم محاولات فنان إماراتى للخروج نحو الفلسفة المطلقة للعمل الفنى. وفى نفس السياق يستطيع الفنان المفاهيمى المثقف أن يقدم للماء أكثر من معنى إذا ألغى الحد الفاصل بين الواقع وما فوق الواقع، فالماء إضافة إلى معناه النبيل، يكون مرادفًا للغرق والكوارث والطوفان، بل إلى النار والحرائق إذا كان الفنان أكثر دراسة لعلوم الطبيعة فيعرف أن الماء يتكون من الهيدروجين والأكسجين اللذيْن إذا اتحدا لتكوين قطرة ماء صاحب ذلك دوى هائل من النيران ذهبت بأصابع جاليليو وإحدى عينيه..!! وهذا ما دلنا عليه القرآن الكريم فى معرض الحديث عن شجرة الزقوم التى تخرج من أصل الجحيم، فهى ترتوى بالنار والتى هى تنتج من اتحاد عنصرى الهيدروجين والأكسجين ليحدث دوى شديد ويتكون الماء. استلهامات ما نود قوله هنا تحديدًا أن هناك البعض من الفنانين على مستوى العالم قرؤوا القرآن الكريم، واستوعبوا من التفاسير ما اتسعت له مخيلتهم، ثم قاموا باستلهام بعض الصور الكونية التى أخبر عنها القرآن الكريم، وربما كان من هؤلاء فنان عصر النهضة مايكل أنجلو، وبطبيعة الحال الفنان العربى المسلم وأهمهم أحمد نوار، وغيرهم ولسنا هنا بصدد حالة إحصائية. يوم الحساب جاء الحديث عن يوم الحساب وما فيه من هول ومشقة فى أماكن كثيرة من آيات القرآن الكريم. قال تعالى: "لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ". إبراهيم:51. من حكمة الله سبحانه وتعالى أن جعل الحياة الدنيا دار اجتهاد وعمل، وجعل الآخرة دار حساب وجزاء، يحاسب فيها الناس، فيجزى المحسن على إحسانه، والمسىء على إساءته، ففى ذلك اليوم يقف العباد بين يدى ربهم خاضعين أذلاء، يكلمهم ربهم شفاها من غير ترجمان، فيسألهم عن الصغير والكبير، ويسأله عن كل شىء، مع ما هم عليه من العنت والمشقة، ومعاينة أهوال ذلك اليوم العظيم. ولقد كان الفنان مايكل أنجلو -والعهدة على التاريخ- هو أول فنان تعامل مع خياله تجاه هذا اليوم العظيم، فبعد أن عهد إليه البابا يوليوس الثانى بأن يرسم مناظر من العهد القديم على سقف كنيسة (سيستينى) فى الفاتيكان، أنجز بعد ذلك بأعوام لوحة "يوم الحساب، على أحد جدران نفس الكنيسة والتى تعتبر إحدى روائعه الفنية. وتتألف اللوحة أو الجدارية من 229 لوحة تفصيلية وتعد أكبر جدارية فى عصر النهضة تغطى مساحة قدرها 16 مترا ارتفاعا فى 12 مترا عرضا، توزعت رسومها على ثلاثة أقسام، وفيها صور الفنان كل ما تخيله واتسعت له حساباته البشرية عن يوم الحساب فرسم الهلع والخوف والجنة والنار وفق مفهوم بشرى قاصر ومقصر. أما الفنان المصرى أحمد نوار فقد استلهم أيضًا موضوع تخرجه من الجامعة من تفاسير القرآن الكريم؛ حيث أنجز لوحة يوم الحساب بالقلم الرصاص وعلى ثلاث لوحات، وربما كانت حالة من الإعجاب بمايكل أنجلو، فقرر أن يوثق إعجابه من خلال هذا العمل، ولا تثريب عليه هنا فقد كان طالبًا آنذاك. الضوء والنور والضياء ذكر القرآن النور والضياء فى آيات كثيرة، منها الآية الباهرة فى سورة النور عن نور الله عز وجل وهو نور السماوات والأرض. قال تعالى: "اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِى زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّى يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ". وهذه الآية لها تفاسير عديدة وتأويلات لم تزل لا تعطى جلال الآية كل ما لها، ومن هذه التفاسير ما يقوله الإمام الراحل الشيخ الغزالى حيث يرى وجهتى نظر فى تفسير الآية هل نوره فى قلب المؤمن أم مثل نوره فى العالم فى الملكوت كله؟ الآية تتحمل المعنيين، مثل نوره فى الملكوت كله: يريد ألله أن يقول كل ذرة فى الأرض وفى السماء كل ذرة فى الملكوت قاصية ودانية كل ذرة مشحونة بأدلة تدل على عظمة الله وسمعه وبصره وعلمه وقيومته كل شىء فى الكون يدل على الله. حدائق خلف بوابة الخريف للفنان الأمريكى المعاصر توماس كينكيد يعتبر توماس كينكيد "فنان الضوء" بالنظر إلى مهارته العالية فى توظيف الضوء فى لوحاته والتى تصور مشاهد تضج بالحياة وتعطى الإحساسبالسكينة والتفاؤل والسلام، وتبعث الأمل والإلهام فى النفس، وهى مشاعر فرضتها حالة التأمل الذاتية للفنان والتدبر. وفى لوحته المسماة "حدائق خلف بوابة الخريف" التى أنجزها فى نوفمبر من العام 1994، حيث تجد بركة ماء صغيرة وفى منتصفها مزهرية، ثم هذه الورود والأزهار التى تناثرت فى كل مكان بانتظام بديع يسمح برؤية غلالات الضوء والنور فى جميع الأرجاء، وتبدد الضباب الكثيف.