سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
يوميات الأخبار : الإسلام والعقل »وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الارض جميعا ما ألفت بين قلوبهم
ولكن الله ألف بينهم انه عزيز حكيم«.. سورة الانفال آية 36
إن أكرم ما خلق الله في الكون الانسان، وإن أشرف شئ اختص به الانسان هو قلبه وعقله، وان أي بحث حول مفهوم القلب والعقل في القرآن الكريم والسنة الشريفة أمر مستعصي لأن الوحي لا جدال فيه، اللهم الا إذا كان تحليلا لنصوص القرآن الكريم والسنة وأنا لست مؤهلا لذلك ولكني لاحظت ان مدارس فكرية كثيرة تناولت ملكة العقل وبالغت كثيرا في تقدير إمكانياتها وقدراتها بل والمجال المسموح لها به ودأبت علي الاطلاع علي ما كتب في هذا الموضوع من المتقدمين والمتأخرين. وركزت علي ما شعرت بأن فيه إجماعا من الفقهاء وكبار العلماء كالأئمة الغزالي والمحاسبي وأمثالهما. إن الدين جاء هاديا للعقل في العقائد بالله ورسله صلي الله عليم وسلم وباليوم الآخر والغيب، وحدد معالم الخير وما يجب ان يكون عليه سلوك الانسان وأوضح مسائل التشريع من عبادات ومعاملات، وجاء القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه حاكما بهذا الأمن ومبينا لها. فالقرآن جاء هاديا للعقل ومرشدا له، ويوجهه بأن يلتزم بما جاء به القرآن الكريم. ان في العقيدة ثوابت لا مجال للنقاش فيها: بسم الله الرحمن الرحيم »الم ذلك الكتاب لاريب فيه هدي للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هو يوقنون« لاحظا أنه بدأ بالغيب الذي لا مجال للعقل فيه وعليه ان يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالقدر خيره وشره والجن والملائكة وسؤال القبر وعذابه. والجنة والنار والحساب والصراط وما الي ذلك »هذه شئون يخضع العقل لها إيمانا ثابتا راسخا ويسجد للوحي الإلهي«. وكل ماورد في القرآن من تفكير أو تذكير أو نظر أو تدبر إنما اريد به الوعظ والاعتبار ولم يلق الحق برسالته ليبحثها الانسان وإنما ليخضع لها دون شك أو حرج. أيها السادة: إننا لا نري بعقلنا إلا الظاهر أما الباطن والإشارات الإلهية فلا يعرفها البشر إلا بطور آخر فوق العقل ألا وهو القلب. ويقول الإمام الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال انه قام بجهد كبير متعاملا في المحسوسات والضروريات يقول هذا كلامه »من اين الثقة بالحواس واقواها حاسة البصر وهي تنظر الي الظل فتراه واقفا غير متحرك وتحكم بنفي الحركة، ثم بالتجربة والمشاهدة، اعرف أنها تتحرك، وأنظر الي الكوكب فأراه صغيرا ثم الأدلة الهندسية تدل علي انه اكبر من الأرض«. وأنا اضيف الي ذلك ان معلوماتنا مأخوذة من تجاربنا وملاحظاتنا، والزمان والمكان والطاقة عوامل تساعد علي إدراك بعض حقائق الكون ولكن القوانين التي ابتكرها الانسان لتفسير بعض الظواهر علي مر القرون اختلفت وتباينت، فبعد ان كان السائد في علم الطبيعة ان الأشياء التي نراها كلها مادة، تغير الوضع، وجاء اينشتين وغيره من العلماء فأثبتوا ان المادة تتكون من ذرات وإلكترونات وبوزيترونات وغيرها وهذه المكونات تتكون هي الأخري من امواج وكأن العالم كله ما هو إلا امواج في الاثير، وإن بدت المادة صلبة ولكنها في الحقيقة ما هي الا مكونة من امواج ذات ترددات مختلفة. طبيعة الوجود ولنضرب أمثلة سريعة عن طبيعة الوجود، فالعين حينما تنظر الي السماء، وتري نجوما مختلفة فإن الرؤية تتم علي اساس إنتقال أشعة من النجمة للعين، تسير بسرعة الضوء فتراها العين، وهذه الاشعة قد تكون قد تركت الجرم الذي تنظر اليه وهو علي بعد 001 مليون كيلو متر، كالشمس مثلا فيصل شعاعها الي العين بعد ثماني دقائق اي أننا نري الشمس علي شكلها منذ ثماني دقائق وهي تكون قد غربت والأمر يزداد حيرة عندما ننظر الي جرم يبعد عنا آلاف السنين الضوئية فنري جرما في السماء الان ولعله إندثر منذ آلاف السنين ثم أننا نجمع بينه وبين الشمس والقمر والنجوم المختلفة فكأننا نجمع بين الماضي والحاضر المتباينين في صورة واحدة وهو ما يخالف الواقع، وهذا مثال من عدة أمثلة كثيرة توضح ان حواس الانسان وحدها غير كافية للتعرف علي الحقيقة، وبالتالي فإن العقل الذي يدرك من طريق هذه الحواس إنما خدعته حواسه عن معرفة الحقيقة لأنه لم تهيئ له الأدوات التي تعاونه عن معرفة الحقيقة الا عن طريق طور فوق العقل وهو القلب. فالعقل مهيأ لأمور كعمارة الارض والزراعة والصناعة والعلوم والإستدلال أما عالم الغيب الذي أمرنا بالإيمان به دون ان نراه فهو ليس العالم الحسي أو المعقول لأن العقل يجرد الأمور عن المعينات في حين ان عالم الغيب له وجود فعلي امرنا بالايمان والتسليم بما جاء عنه ولا دور للعقل في ذلك لأن مصادر المعرفة في الإسلام تعلو علي العقل لأن له دورا يعلو به، إذا إلتزم بدوره كفعل لعمل القلب المؤمن، وينحط إذا خرج عن منهج الله وانحرف عن تفعيل القلب له. يقول الحق جل وعلا »واتقوا الله ويعلمكم الله« والتعليم لا يتم الا بقدرة الله ونحن نستعين بالعقل والحس ولكن بعد ان نستعين بالله، والإسلام يستخدم العقل في فهم أصول الدين وفي هذا المجال يقول الحارث المحاسبي ان العقل نور في القلب كما ان البصر نور في العين فالعقل نور القلب الذي تدرك به النفس مالا تدركه الحواس. ولفظ العقل لم يرد في القرآن ولا مرة ولفظ القلب أتي في القرآن 12 مرة ولفظ قلوب 211 مرة أما فعل العقل فورد بلفظ نعقل أو عقلوه أو تعقلون أو يعقلها أو يعقلون حوالي 94 مرة ولم يستخدم العقل في القرآن إلا بصيغة الفعل وليس بصيغة الاسم وذلك كله في الآيات التي تتحدث عن آيات الله في الطبيعة وفي خلق السموات والأرض وظاهرتي الليل والنهار وفي الحياة والممات. الشمس والقمر وهي شملت الزمان والمكان بحركات الاشياء والخلق والإماتة والانسان ومراحل تطوره. واذكر في هذا المجال ما كتبه أحد العلماء الفرنسيين وهو الدكتور الطبيب الحائز علي جائزة نوبل في كتابه المشهور الانسان ذلك المجهول »ان جهلنا المطبق في اغلب الاسئلة التي يلقيها الانسان علي نفسه وهو يدرس الجنس البشري ظلت بلا جواب لأن هناك امورا كثيرة مازالت غير معروفة ولا مفهومة لنا سواء داخل الذرة وجزئياها أو حركات الالكترونات أو الثقوب السوداء أو إنتظام حركات الأفلاك أو كيف تتحد جزئيات المواد الكيماوية لكي تكون المركب أو كيف تقرر الجنس في نواة البويضة وقضية خلق الكون والموت والعبث وظهور الشئ من نقيضه كظهور النار من الشجر الاخضر«. ولنضرب بعض الأمثلة علي ذلك: 1- الراديوم ينقلب الي رصاص. 2- ذرات اشعة الشمس التي تدخل من الزجاج جزء منها وجزء لا يدخل. 3- رؤية الإنسان الكترون واحد في مكانين. 4- كارليل وقوله عن الشفاء بالدعاء في كتابه وفي (لورد). 5- الضوء - البعض يراه شحنات والبعض يراه ذبذبات. وكل هذه الحوارات تنتهي بالاشارة الي انهم لا يعقلون وتظهر أهمية عمل العقل وعمل الحواس من قول الكفار أثناء العذاب في الآخرة »لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير« سورة الملك آية 01 فربط السمع هنا بفعل العقل دل علي ان سماع دعوة الإيمان تقتضي فهم الدعوة، فإذا كان هناك سمع من غير تعقل فإنه لا قيمة له، فقيمة عمل الحواس هو من قيمة ارتباطها بالعقل الذي هو نور القلب، وأحكام الشريعة كلها منوطة بالعقل لأن التكليف يسقط عن غير العاقل.مؤدي ما تقدم ان الحواس نوافذ نطل بها علي المعرفة تشارك في العمل العقلي وإن كانت لها حدود وانها لا تعطي الصورة الصحيحة أحيانا وان ما وراء الحواس إدراكات تدركها آلة أخري غير العقل وهي البصيرة وان كانت كل هذه الآلات من لب وفؤاد وصدر وغيرها هي كلها أنوار قلبية أو تحركات قلبية، افعال قلبية يستعلي بها القلب علي العقل. فلفظ القلب هنا مسند إليه فعل العقل كما ان العمي يسند الي القلب، فكأن القلب قوة كلية إذا صلح صلح الجسد كله وإذا فسد فسد الجسد كله فالكل فيه ومنه وهو الذي قيل عنه في حديث قدسي »ما وسعتني سمائي ولا أرضي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن« وهو بين اصبعي الرحمن يتقلب ولا يثبت إلا بالإيمان الحق ومنه تصدر التجليات فالقلب يعقل ويدرك ويبصر ويؤمن، وهو الذي تنكشف امامه الحقائق ويسلط النور علي الاشياء فيدركها العقل، وهو الذي تنبثق منه الإدراكات والمشاعر من عواطف ووجدان وهو القوة التي تقف وراء العقل وهو الذي نسميه أحيانا بالإلهام ويعرفه المؤمنون الذين رزقوا الشفافية ورقة الشعور وهو الذي ينير الطريق للعباقرة والشعراء مستعملا أدوات مختلفة لا يعلمها إلا الله. فلابد إذن أن يشف القلب وترق الحواس لتدركه وترتفع الحجب وينكشف الران الذي يغلف القلب نتيجة عدم إتباع السنة المحمدية الشريفة ولفظ البصيرة يعطي معني الإحاطة بكوامن النفس البشرية. لقاء القلب والعقل ومن هنا تظهر أهمية فهم اللقاء بين العقل والقلب في الارتباط بالمعرفة أولا وبالحواس التي تساعد علي المعرفة فهما إما أن يكونا شيئا واحدا أو انهما أحوال تختلف بإختلاف المسميات كالنفس وهي واحدة ولكنها قد تكون امارة أو ملهمة أو راضية أو مرضية ولكنها واحدة فهي واحدة في ذاتها ولكنها تترقي في مراتب مختلفة أو تنحط في دركات. ويرتفع القرآن الكريم بقيمة القلب حتي يبلغ أعلي مراتبه في المعرفة الإلهية حيث يكون منزل الوحي وموطن كلام الحق جل وعلا »نزل به الروح الأمين علي قلبك لتكون من المنذرين« سورة الشعراء آيتا 391، 491. فالوحي إذن بالنسبة للرسالة الاسلامية هو قمة المعرفة التي تصل السماء بالارض ومؤدي ذلك انه أعطي قمة المعرفة الربانية ما يفوق علم البشر وهنا يخرج عن نطاق قدرة العقل الذي يتقبل ويستسلم لهذه المعرفة لأنها آتية من خالق الأكوان، فالرسول صلي الله عليه وسلم منذر بالقرآن بأمر الله، والمؤمنون يتلقون عنه ويبلغون الناس بما رأوه وسمعوه من القدوة والاسوة. والإنسان ذو قلب واحد »ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه« سورة الاحزاب آية 4 فالإنسان لا يشرع حسب هواه ولا يخرج عن شريعة الله التي تقرر له الاحكام، والقول باللسان إذا لم يتفق مع احكام الشريعة لا قيمة له، لأن الله هو الذي يقول الحق وهو الذي يلزمنا بإتباع الحق »ذلك قولكم بأفواهكم والله يقول الحق«. والعواطف كلها مكانها القلب، الحب والكره، الرحمة والسكينة، القلق والطمأنينة والخوف »وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الارض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم انه عزيز حكيم« سورة الانفال آية 36. والقلب محل الإيمان سأل الرسول صلي الله عليه وسلم عمار بن ياسر عن الحالة التي تعرض لها من الكفار فقال لهم كلمة ارضتهم من باب التخلص من العذاب فحدث بها الرسول صلي الله عليه وسلم فقال له كيف كان قلبك أكان منشرحا بذلك فقال. ما أنزل الله في هذه الاية. بقوله تعالي: »الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب« سورة الرعد آية 82. وقوله تعالي »من كفر بالله من بعد إيمانه الا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم« سورة النحل آية 601. والصبر علي الشدائد محله القلب كالربط علي قلب ام موسي »لولا ان ربطنا علي قلبها« سورة القصص آية 01. والسكينة محلها القلب قال تعالي »لقد رضي الله عن المؤمنين اذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم واثابهم فتحا قريبا« سورة الفتح آية 81. فالقلب محل الايمان والهداية ويتعرض لمواقف كثيرة.. الابتلاء والإختبار والفتنة والعقل يعاونه بفعله أي بفعل القلب. والقلب والصدر والفؤاد واللب طبقات أو مقامات كل واحدة تستر الأخري هذا في نظر الترمذي الحكيم، اما الإمام الغزالي فيعرف القلب بقوله في الاحياء »هو لطيفة ربانية روحانية لها بهذا القلب الجسماني تعلق وتلك اللطيفة هي حقيقة الانسان وهو المدرك العارف من الإنسان وهو المخاطب والمعاتب«. يقول الغزالي »وللقلب بابان باب مفتوح الي عالم الملكوت وهو اللوح المحفوظ وعالم الملائكة، وباب مفتوح الي الحواس الخمس المستمسكة بعالم الملك والشهادة ويقول ان اقبال القلب علي الخيالات الحاصلة في المحسوسات هو بمثابة حجاب عن مطالعة اللوح المحفوظ.