تشكل استضافة ليبيا فى معرض القاهرة الدولى للكتاب الذى يبدأ بعد غد الأربعاء فرصة لمزيد من الانفتاح الثقافى المصرى على الإبداع العربى وتجاوز "شبهات الانعزالية الثقافية". ففيما تتكرر على نحو أو آخر نبرة العتاب على ألسنة مبدعين عرب للثقافة المصرية "كثقافة مكتفية بذاتها لحد الانعزال" عن الواقع الثقافى العربى أو عدم الاهتمام الكافى بتطورات هذا الواقع، تأتى ليبيا لتكون ضيف الشرف لمعرض هذا العام الذى يستمر حتى الخامس من شهر فبراير المقبل، كما كانت تونس هى ضيف الشرف فى معرض العام الماضى. وإذا كانت بعض الأصوات الإبداعية العربية تنطلق فى عتابها هذا بل وانتقاداتها أحيانا من الإخلاص والحب والتقدير للثقافة المصرية، فليكن السؤال صريحا حول مدى المعرفة ناهيك عن الحضور لأسماء ثقافية عربية مهمة، من بينها اسم الكاتب والمثقف الليبى الكبير إبراهيم الكونى على مستوى التيار الرئيس فى الثقافة المصرية والاهتمامات الثقافية لوسائل الإعلام المصرية. والبعد الأمازيجى الطاغى والساطع فى كتابات إبراهيم الكونى مسألة تعنى المصريين لأنها تتناول ثقافة جزء منهم، هم بعض سكان الواحات والصحراء الغربية التى تدخل فى الهوية المصرية الرحبة والثرية والمتنوعة. كما أن بعض إبداعات الكونى حول ثقافة الصحراء الكبرى والطوارق والأمازيج مفيدة للغاية لمن أراد أن يفهم بعمق معنى التطورات المتسارعة الآن فى مالى، حيث التدخل العسكرى الفرنسى والحادث المأساوى الأخير الذى قتل فيه العديد من الرهائن الغربيين بمنشأة "عين أمناس" للغاز جنوبالجزائر. وكانت سويسرا منحت جائزتها الكبرى فى الأدب لابراهيم الكونى الذى ولد عام 1948 فى واحة "غدامس" بالجنوب الليبى كما اختارته مجلة "لير" الفرنسية ضمن 50 روائيا يمثلون أدب القرن الحادى والعشرين، فيما تدور أغلب رواياته حول العلاقة بين الإنسان وعالم الصحراء المحكوم بالحتمية والقدر الذى لايرد. ولاجدال أن هناك ما يدعو لمزيد من المعرفة والفهم على مستوى التيار الرئيسي للثقافة المصرية "للطوارقى" إبراهيم الكونى صاحب "الخسوف" و"نزيف الحجر" و"التبر" و"المجوس" و"خريف الدرويش" و"السحرة" و"عشب الليل" و"صحرائى الكبرى" و"الفزاعة" و"نزيف الروح" و"رسالة الروح". وفى روايته الأخيرة "فرسان الأحلام القتيلة"، يطرح ابراهيم الكونى رؤيته للثورة الليبية و"الانتقال من الأحلام القتيلة إلى الأحلام المحررة" ساردا خطايا النظام الاستبدادى فى تجريف الهوية الليبية وتزوير التاريخ وان كان بعض النقاد قد ذهبوا إلى أن الرواية لاترقى لمستوى الحدث ودراميته وتضحيات الثوار، معتبرين فى الوقت ذاته أن هذه "الكبوة" إن صح التعبير لاتنفى أن الكونى قامة روائية كبيرة فى العالم العربى وفارس أصيل من فرسان السرد الإبداعى. وكانت منظمة اليونسكو وصفت ابراهيم الكونى عندما منحته "جائزة الكلمة الذهبية" بأنه "بعث إلى الحياة عصرا بأكمله من تاريخ ليبيا كحضارة مجبولة على عشق الحرية والانتماء المكرس لرفع قيمة الإنسان بروح فلسفة تروج لإماطة اللثام عن سر الوجود الإنسانى". وفيما كان من الطبيعى استضافة مثقف ليبى كبير مثل إبراهيم الكونى فى هذه الدورة لمعرض القاهرة الدولى للكتاب كان الدكتور أحمد مجاهد، رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب، قد أوضح بصورة عامة أن "الظروف الاقتصادية التى تمر بها البلاد والاعتمادات المالية المتاحة لن تسمح باستضافة أية شخصيات من أى دولة". وأضاف فى تصريحات صحفية: "لذلك تتجه النية نحو المبدعين والمفكرين العرب والأجانب الذين يقيمون فى بلادنا لتجنب تكاليف تذاكر السفر والإقامة والتنقل". ونوه مجاهد بأن ليبيا اختيرت ضيف الشرف هذا العام فى معرض الكتاب لأنها "تمر بظروف عامة مشابهة لما يحدث عندنا بعد الثورة وأردنا أن نعرف عن قرب تفاصيل المشهد العام". وتشمل الأنشطة الثقافية فى المعرض تعريف الجمهور بما يموج على الساحة الفكرية والسياسية والأدبية الليبية بعد ثورة 17 فبراير وتتضمن شهادات عن "السجن والابداع" بحضور الأديب محمد الفقيه صالح و"الرواية الليبية الآن" و"ليبيا من الثورة إلى الدولة" و"الثقافة فى مواجهة الديكتاتورية" و"الشعرية الجديدة فى ليبيا" وإسهامات المرأة الليبية فى الثورة. كما تتضمن هذه الأنشطة فى الدورة الجديدة لمعرض القاهرة الدولى للكتاب لقاءات ثقافية وندوات حول "المسرح الليبى.. تجارب وآفاق"، فضلا عن محاضرات حول "إشكالية بناء الدولة فى ليبيا الحديثة" و "التفكير الناقد" ومستقبل حرية الفكر والابداع فى ظل ثورات الربيع العربى و"الشرعية السياسية فى دول الربيع العربى" إلى جانب أمسيات شعرية وحلقات نقاشية أخرى. ولعل الشاعر الكبير محمد الفيتورى الذى يحمل دماء مصرية - ليبية - سودانية يعبر أفضل تعبير فى تكوينه ومسيرته فى الحياة والإبداع عن مدى التداخل والتفاعل الثقافى بين دول "المثلث الذهبى العربي"، هو الذى عاش سنوات التكوين والدراسة فى مصر وانطلقت شهرته منها. فقصة الفيتورى فى الحياة والابداع دالة لفهم أهمية الدور الثقافى المصرى الذى تجلى على لسان الشاعر الراحل كامل الشناوى وهو يقدم ويزكى الشاب محمد الفيتورى للعمل فى مجلة "آخر ساعة" المصرية فى بدايات خمسينيات القرن العشرين ويقول لرئيس تحريرها حينئذ محمد حسنين هيكل: "إن مصر تاريخيا هى صانعة النجوم فى الثقافة العربية"، متنبئا لهذا الشاب بأنه سيكون نجما جديدا من نجوم الإبداع الشعرى تقدمه مصر للعرب. ومن المفارقات التى تبعث على التأمل أنه رغم الدور الريادى والنبيل للثقافة المصرية على مستوى محيطها العربى فإن اهتمامات المصريين بالواقع الثقافى فى هذا المحيط أقل بكثير مما ينبغى، كما أن للظاهرة الآن انعكاساتها السلبية حتى على مستوى التنافس فى الإنتاج التليفزيونى فى مجال الدراما بين مصر الرائدة عربيا فى هذا المجال وبين دولة كتركيا التى يتكرر الحديث عن "غزوها التليفزيونى الدرامى للسوق العربية، ومن ثم تأثيرها الثقافى فى مزاج المشاهد العربى وذائقته". وللعاهل الأردنى الراحل الملك الحسين بن عبد الله رأى فى هذه المسألة المصرية حيث كان يصف المصريين بأنهم شعب طيب وكريم ولكن معلوماتهم عن العالم الخارجى محدودة للغاية. وإذا كان للأمر علاقة بما يقوله المصريون، بل وغير المصريين أيضا حول الثراء الثقافى المصرى لحد الاكتفاء الذاتى وأن "مصر هى أم الدنيا" بما يبرر على نحو ما ظاهرة الانعزال الثقافى، فإن الصينيين الذين كانوا من منظورهم الثقافى، التاريخى يرون بدورهم أن بلادهم هى "الدنيا" وماخارجها هو خارج العالم قد دعتهم الضرورات الضاغطة للانفتاح الثقافى على بقية الدنيا التى كانوا لا يعترفون بها حتى أصبحوا من أكثر الشعوب انفتاحا وتفاعلا مع "الآخر". وقد تحتمل أمريكا بمساحتها الهائلة وموقعها وتكوينها الديموجرافى من مهاجرين من أغلب بقاع العالم ظاهرة العزلة النسبية عن بقية العالم، وقد تكون الظاهرة فى وقت ما تنطوى على مزايا بالنسبة لها وهذا مايفسر تاريخيا وجود تيار كبير وفاعل فى الحياة الأمريكية تبنى مسألة العزلة عمدا من منظور ما يتصوره كمصلحة أمريكية. وهذا أمر مختلف كل الاختلاف بحكم عوامل عديدة فى مقدمتها البعد الجغرافى والموقع بالنسبة للحالة المصرية، فمصر ليس من مصلحتها الوطنية أن تعزل لا عن محيطها العربى ودائرتها الاسلامية ولا عن العالم الخارجى خاصة مع توالى متغيرات العولمة وتحدياتها. وهذه الظاهرة الثقافية المؤسفة قد تكون لها انعكاساتها السلبية حتى على مستوى الخبرات والمهارات المعرفية والقدرات التحليلية لكوادر دبلوماسية يفترض أنها يمكن أن تقوم بأدوار الخبراء الموثوق بتقديراتهم فى الشؤون العربية والخارجية مع أننا فى عصر تقاس فيه القوة بامتلاك المعلومات. وهنا أيضا تكمن أهمية الأدب كشاهد إبداعى على عالم متغير منذ رواية هوميروس عن حرب طروادة بقدر ماهو حنين إلى الحرية فيما تكون مهمة الأديب التعبير عن التغيير بصورة ابداعية" كما يرى ابراهيم الكونى. جميل أن تواكب الدورة 44 لمعرض القاهرة الدولى للكتاب المتغيرات الثقافية والسياسية بعد ثورة 25 يناير، كما أعلن الدكتور احمد مجاهد رئيس الهيئة العامة للكتاب، وجميل أيضا أن يكون هذا المعرض بداية لانفتاح ثقافى مصرى حقيقى على الثقافة العربية بتنوعاتها وتجلياتها المتعددة وتجاوز "شبهات الانعزالية الثقافية" وهى قضية كانت جديرة بأن تطرح بصراحة ضمن مناظرات المعرض وندواته.