بقدر ما تفرض قضية العدالة الاجتماعية نفسها في الواقع المصري، فإنها تحولت إلى قضية ملحة في الثقافة الغربية تبحث عن إجابات جديدة ومغايرة لإجابات الماضي التي لم تعد تصلح اليوم في سياقات بالغة التعقيد. واذا كان الفيلسوف الألماني كارل ماركس اقترن في أذهان الكثيرين بقضية العدالة الاجتماعية فيما يقول البعض، إن دول المنظومة الشيوعية المنهارة ظلمت أفكاره بشمولية أنظمتها الطاغوتية، فإن الغرب الثقافي يتساءل:هل مازالت أفكاره صالحة للتطبيق اليوم. جوناثان سيربر، الذي كتب سيرة جديدة لحياة فيلسوف القرن التاسع عشر، سعى للإجابة على هذا السؤال عبر طرح في جريدة "الجارديان" البريطانية اعتبر فيه أن زمن ماركس يختلف كثيرا عن زمننا، ومن ثم فإن أفكاره بحاجة لكثير من الفرز بحيث لا يبقى منها سوى ما يصلح لهذا العصر. ومن أفكار كارل ماركس التي يرى كاتب سيرته الجديدة جوناثان سيربر أنها لا تصلح للقرن الحادي والعشرين، أفكاره عن العدالة الاجتماعية ونظرية قيمة العمل التي تجاوزتها الطبعة الراهنة من الرأسمالية بصورة لم تعد فيها هذه النظرية الشهيرة لماركس مرتبطة بالواقع الحالي على أي نحو. فعلى أقصى تقدير فإن أفكار ماركس تكون مفيدة إلى حد ما في إضاءة سبل للتفكير في التحديات المطروحة اليوم ولكنها لا تقدم إجابات لحل هذه التحديات، ومن بينها بالتأكيد قضية العدالة الاجتماعية. إنها صيحة من الماضي أطلقها فيلسوف بشأن قضية العدالة الاجتماعية تماما مثل صيحة في القضية ذاتها أطلقها الروائي الفرنسي فيكتور هوجو الذي مازال يبهر الكثيرين في هذا العالم بعد 128 عاما على رحيله برواياته التي تصور معاناة المظلومين والمستضعفين، وخاصة روايته "البؤساء" بنزعتها الفلسفية الإنسانية وطموحها نحو العدالة بقدر إدانتها للقسوة والظلم. وفي سياق جهد معرفي لا يتوقف في الغرب لتحليل جذور الرأسمالية المعاصرة، يعود روبرت نيومان في الكتاب الجديد: "سر التجارة" إلى زمن "شركة الهند الشرقية"، بل وشركة "ليفانت" التي أسست في العصر الإليزابيثي ببريطانيا عام 1581 أي قبل 19 عاما من تأسيس "شركة الهند الشرقية"، معتبرا أن شركة "ليفانت" (المشرق) كانت البداية الحقيقية لمحاولة الشركات الكبرى خطف دور الدولة والسيطرة عليها بما يحقق أهدافها الرأسمالية. فهذه الشركة كانت تملي الكثير من خطوط السياسة الخارجية لبريطانيا حيال المشرق وخاصة تركيا التي ارتبطت معها بتعاملات تجارية كثيفة، بينما باتت الشركات الاحتكارية المعولمة اليوم في نظر الكثيرين، سواء في الغرب أو في الشرق، هي التي تملي كل خطوط السياسات في العالم وتمارس أبشع ألوان العدوان على حلم العدالة الاجتماعية بقدر ما تعبر عن الرأسمالية الجامحة. وحق للكاتب المصري سمير مرقص أن يقول، إن الحصاد البائس للرأسمالية الجامحة هو هدر المساواة، معتبرا أن الانتقال لما سمي بالليبرالية الجديدة عام 1979 كان نقطة تحول في تاريخ البشرية، حيث بدأت "عملية السيطرة الصامتة من قبل الشركات الاحتكارية الكبرى والبورصات المالية تحت غطاء المؤسسات الدولية الاقتصادية وإطلاق حركة رجال المال والأعمال بالمطلق، أي دون ضوابط أو قيود". ومع تغييب الدولة انطلقت الرأسمالية الجامحة "تدوس كل من يقف في طريقها"- كما يقول سمير مرقص- فيما تركت الغالبية تحت رحمة السوق بآلياتها التي لا ترحم في الوقت الذي تعمل فيه لصالح الأكثر غنى وكانت النتيجة: هدر المساواة. ويلاحظ مرقص أنه بالرغم من التدفق الإعلامي غير المسبوق، فإن هناك كما يبدو حالة من التعمد لعدم بث الانتقادات لسياسات الليبرالية الجديدة وما يجري في بلدان المنشأ لعلاج آثارها السلبية "لتظل بلداننا أسيرة المبادئ الضالة التي تعمل السوبر رأسمالية في إطارها لتبرير الهيمنة الناعمة أو السيطرة الصامتة". ويخلص الكاتب سمير مرقص إلى "أننا في حاجة لإدراك ما جرى ويجري من علاجات واستحالة الاستمرار في تطبيق هذه السياسات التي كان حصادها بائسا وخاصة بالنسبة للأغلبية، والانضمام إلى الجهود التي تعمل على الإجابة عن سؤال: أي مساواة نريد بعد أن أهدرت على مدى ثلاثة عقود؟". وثمة بيانات للمعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية تقدر عدد المصريين الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي بنحو 14 مليونا، فيما كان الدكتور كليمينس بربيسنجر، ممثل هذا المعهد، أشار في مؤتمر عقد مؤخرا حول "الفقر والأمن الغذائي في مصر"، إلى أن أكثر من نصف الأطفال في تسع محافظات مصرية يعانون من الأنيميا. وكان الرئيس محمد مرسي أكد على أهمية قضية العدالة الاجتماعية ونوه في سياق حديثه الصحفي مؤخرا مع عبد الناصر سلامة رئيس تحرير جريدة "الأهرام" إلى أن ثورة 25 يناير قامت ضد الفساد والهيمنة والتزوير والديكتاتورية وغياب الحريات وعدم العدالة في توزيع الثروة وسيطرة عدد قليل على مقدرات وثروات مصر. وقال الرئيس مرسي، إن "ما يستحقه المصريون أكثر بكثير مما هو موجود"، موضحا أن العدالة الاجتماعية أحد الأهداف الكبيرة التي يسعى لتحقيقها.. وهو هدف يبدو جليا أنه بحاجة لإبداعات ثقافية لتحقيقه في واقع جديد يطرح أسئلة لم تعد الإجابات القديمة تتلاءم معه، على اختلاف المدارس والتيارات الفكرية التي انتجت هذه الإجابات. وفيما بدت قضية العدالة الاجتماعية بحاجة لإبداعات ثقافية جديدة في مصر، كما هو الحال في دول أخرى، فإنه من الأهمية بمكان دحض أوهام استقرت في أذهان البعض بأن الأنظمة الشمولية يمكن أن تكفل العدالة الاجتماعية لشعوبها. فهذا النمط من الأنظمة يقوم على ممارسات فاسدة تشوه أي قيم إنسانية وتستند دوما للقهر والانفراد بعملية صنع القرار وفرضه بصورة تكرس سيطرتها على السلطة والثروة والنفوذ، وينتهي بها الحال وهي ترفع أروع الشعارات، إلى ديكتاتورية قلة تنعم بكل شيء وأكثرية تعاني من فقدان كل شيء. فالنظام الشمولي يرفع شعار العدالة الاجتماعية ويزعم أنه يعمل لصالح الأغلبية، في حين أنه مستعد دوما لسحق أي مطالب أو احتجاجات مشروعة للجماهير من أجل العدالة الاجتماعية، على النحو الذي استقر في الذاكرة العربية لأنظمة يستحق كل منها أن يكون تجسيدا لما يسمى "جمهورية الخوف". وغالبا ما تكون التشريعات المنحرفة والأساليب الفاسدة المستترة وراء صياغات قانونية رافدا لممارسات الاستبداد التي تتصادم مع قيمة العدالة بتجلياتها المتعددة ومن بينها العدالة الاجتماعية. إن مصر بعد ثورتها الشعبية في 25 يناير 2011 لا يمكن أن تقبل غياب أو تغييب العدالة الاجتماعية أو استحواذ قلة على مقدرات الوطن بما يضرب مصالح الجماهير العريضة في مقتل ويحول دون صياغة مستقبل يليق بهذا الوطن وتضحيات شعبه، ناهيك عن التصادم مع تقاليد وممارسات العدالة الاجتماعية في موروث يعتز به هذا الشعب وعقيدة تدخل في صميم هويته. فشخصية مثل شخصية الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري بقت وتبقى ملهمة لكل الساعين من أجل العدالة الاجتماعية، بقدر ما تجسد معنى تطابق الأقوال والأفعال وتضفي مجدا فوق مجد على ثقافة العدالة الاجتماعية في تراث الأمة ومددها العقائدي. كما أن إنجازات المفكر الراحل سيد قطب في التنظير للعدالة الاجتماعية بحاجة لنظرة منصفة ومتعمقة بعيدا عن أهواء الانحيازات السياسية أو شبهات التحيز لهذا الطرف أو ذاك من الفرقاء في الساحة السياسية، بحثا عن مغنم أو خوفا من مغرم! وهو ما ينطبق في المقابل على إنجازات مفكر مصري ربما على طرف نقيض سياسيا هو سمير أمين الذي اهتم بدوره بقضية العدالة الاجتماعية. ودون تحقق شرط العدالة الاجتماعية لن يمكن القول بأن ثورة يناير حققت تغيرا جوهريا في الواقع الاقتصادي- الاجتماعي المصري، ناهيك عن علاقات الإنتاج وتوزيع الناتج بصورة مغايرة للماضي، حيث كان النظام السابق يتبجح بتحقيق معدلات نمو مرتفعة، بينما ثلث أطفال مصر أصيبوا بالتقزم جراء انعدام الأمن الغذائي. وكما تقول الكاتبة والمحللة الاقتصادية أميمة كمال، فإن النمو وحده مخصوم منه العدل لن يصلح أحوال الفقراء ولن يصلب أعواد أبنائهم، فيما قال الرئيس محمد مرسي، إن "حجم الفساد كان ضخما وأكبر مما تصورنا جميعا". غير أن السؤال الكبير الذي يبحث عن إجابة: "هل تنجح مصر بعد ثورتها الشعبية في المساهمة بإجابات جديدة لأسئلة جديدة في قضية العدالة الاجتماعية المطروحة عالميا في سياقات ثقافية واقتصادية معقدة ومغايرة لسياقات الماضي".. ولم لا؟.. إنها مصر مهما استبدت بالبعض الظنون.