الدين في الفكر الاشتراكي (2-3) الأصل في موقف الاشتراكية أنها نظرية أو مذهب أو فلسفة كلية تهدف ليس فقط إلي تفسير العالم بل تغييره لصالح القوي المنتجة أيا كان موقعها في السلم الاجتماعي يقول ماركس " لم يقم الفلاسفة إلا بتفسير العالم فقط بشتي الأساليب، ولكن القضية ، علي أي حال ، هي قضية تغيير العالم " وفي مقابل هذه الرغبة في التغيير واجهت الاشتراكية العديد من الصعوبات والمشكلات المتداخلة كتوظيف الاقتصاد للاجتماع ، والسياسة للعلم، والمال للدين ، والفكر للميديا. وفي سياق تفسيرها للواقع تعارضت مع تفسيرات كثيرة للتاريخ والحياة ومنها بالطبع تفسيرات برجوازية علي الصعيد الفلسفي والسياسي والديني. وغاية التفسير الرأسمالي للدين أنه من الممكن أن يصبح أداة في يد الرأسماليات المحلية أو الأطراف من أجل تمرير أفكارها الاقتصادية أو الثقافية.بينما تنتقد الاشتراكية في الغرب العلماني بوصفها مذهبا يحارب الملكية الفردية لما لها من ثقل في نفوس الغربيين، يقول فولتير في وصفه لانجلترا " انظر إلي بورصة الأوراق المالية بلندن.. هناك يجري اليهودي والمسلم والمسيحي معاملاتهم معا وكأنهم من دين واحد، ولا ينعتون بالكفر غير المفلسين".فالدين هو المال والكفر هو الإفلاس وبالتالي يصبح حق التملك هو عقيدة الدين الرأسمالي في رأي فولتير، وحينما يتعلق الأمر بمهاجمة الاشتراكية في الشرق الإسلامي يكون ذلك من خلال أنها نظرية تحارب الأديان لما له من قيمة عظمي في نفوس الشرقيين، وقد أشار زكي نجيب محمود إلي هذا الاختلاف بين الثقافتين الغربية البرجماتية والشرقية الروحية في كتابه " الشرق الفنان".وهكذا اعتادت الرأسمالية تسخير كل قوتها لكبح جماح التقدم الاشتراكي . الدين زفرة المضطهدين وإذا ما تأملنا الدراسات الاشتراكية سنجد أنها لم تتأسس علي فكرة نقد الدين ولم تقم صرحها الكبير علي مناقشة قضايا الأديان ومسلماتها ، وإنما اهتمت كما سنري بإشكالية توظيف الدين في مصارف الحياة ومذاهبها.وما قدمه فلاسفة ومفكرو الاشتراكية من نقد للفكر الديني لا يعدو أن يكون ملاحظات هامشية لا تمثل حقيقة الفكر الاشتراكي، وعندما يتم اقتباس كلمات من مؤلفات ماركس أو أنجلز أو لينين و تفسيرها تفسيرا قسريا فإن هذا لا يعكس حقيقة الموقف الاشتراكي من الدين بقدر ما يعكس منهج الرأسمالية في توظيف الكلمات والعبارت التي تتحول إلي طلقات رصاص في ميدان معركة. وأهم عبارة انتشرت ورددها المرددون منسوبة إلي ماركس هي عبارة " الدين أفيون الشعوب" والتي وردت في كتاب" نقد فلسفة الحقوق عند هيجل" والذي ألفه ماركس عام 1843 وكان عمره وقتئذ 25 سنة في مرحلة أطلق عليها المؤرخون مرحلة ماركس الشاب أو الهيجلي ونص العبارة التي لا يذكرها المتصيدون " .. إن التعاسة الدينية هي في شطر منها ، تعبير عن التعاسة الواقعية. وهي من جهة أخري احتجاج علي التعاسة الواقعية. الدين زفرة المخلوق المضطهد، روح عالم لا قلب له، كما أنه روح الظروف الاجتماعية التي طردت منها الروح، إنه أفيون الشعب". ونلاحظ من هذا النص كيف كشف ماركس عن انعكاس الواقع علي شكل التدين ، فإذا حكمت الطبقة الإقطاعية تحالفت مع الكنيسة علي تراكم الإقطاعيات والثروات وعلي تزييف وعي المأجورين لصالح استمرار هذا الوضع الاجتماعي ، أما إذا حكمت طبقة الرأسماليين والتجار فإن خطاب توظيف الوعي لصالح تلك الطبقة الجديدة يتم أيضا بحيث يضمن عجز الناس عن تغيير أوضاعهم وفقا للفكرة الدينية، وبذلك يصبح مخدرا يساعد البشر علي تحمل أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية البائسة. ولكن السؤال ،هل هذا هو المعني الذي قصده ماركس فحسب؟ . لقد وضع ماركس الطرف الآخر من المعادلة في العبارة نفسها عندما أكد أن " الدين زفرة المخلوق المضطهد" أي زفرة ضد الظلم والاستغلال. وبذلك وضع - كمؤرخ وفيلسوف - مظهري التدين فإما أن يكون الدين زفرة المضطهدين وهو هنا يشير إلي الجانب الايجابي الذي تتبناه الاشتراكية ، وإما أن يكون أفيون الشعوب وهو الجانب السلبي الذي يتبناه أعداء الاشتراكية، وقد أكدت الثورة المصرية صحة موقف ماركس عندما سعت السلفية إلي محاربة الثورة والادعاء بأن الخروج عن الحاكم كفر.وثمة سؤال آخر هل في هذه المقولة دعوة إلي نفي الدين أو نقده؟ الجدير بالذكر أيضا أن ماركس حينما علق بهذا النص العابر عن دور الدين في التغيير أو الثبات قالها ردا علي أهم فلاسفة المثالية في الغرب أي أنه كان حوارا بين فلاسفة ليس بين فيلسوف ورجل دين ،لقد قال ماركس هذه العبارة حينما كانت أوربا الكاثوليكية تنهض من ثبات سيطرة الكنيسة علي السلطة والثروة والدين في تحالف هيكلي مع الإقطاع، حينئذ كانت الكنيسة تملك بمفردها حوالي ثلث الأراضي الأوربية بما عليها من أقنان وما تفيض به من محاصيل ومراعي. التدين السلبي والجدير بالذكر أيضا أن مؤلفات ماركس وأنجلز لا تتوقف عند هذه العبارة بل تذخر بالعديد من الإشارات والملاحظات التي تؤكد علاقة التدين السلبي بالرأسمالية حيث يقولان في الايديولوجيا الألمانية " إن الطبقة الصناعية الكبيرة حاولت إخفاء الدين فلما عجزت حاولت إظهاره في شكل أكذوبة مفضوحة" من خلال مؤلفات كاملة تهاجم الدين والمسيحية علي وجه الخصوص سبينوزا وهولباخ وفولتير وديدرو ودالمبير وذلك علي عكس الفكر الاشتراكي فليس لدي فلاسفة الاشتراكية كتاب خاص عن الدين ، بل جاءت معظم ملاحظاتهم في إطار تحليلات ارتبطت بقياس مستويات الوعي عند الطبقات الاجتماعية. وذلك باستثناء موقف ماركس من اليهود في الغرب حيث وجه نقدا عنيفا لليهودية في مقاله المهم الذي نشره في مجلة الحوليات الفرنسية الألمانية الشهيرة " حول المسألة اليهودية" أشار فيه إلي أهم المشكلات التي تعوق اندماج اليهود في السياق الاجتماعي للشعوب ، وأدان دورهم التخريبي في البرجوازية الأوربية وكذا استعمارهم لفلسطين، مؤكدا أن هذا الاحتلال ليس حلا لمشكلتهم الوجودية بل الحل في نظره يكمن في تحررهم الإنساني والفكري من عبودية المجتمع الرأسمالي والأفكار اليهودية، وهذا لن يتحقق في تقديره إلا بثورة اشتراكية، هكذا يبقي تحليل ماركس اقتصاديا اجتماعيا في كل قضايا الواقع. بهذا المعني قرأ ماركس التاريخ وتوظيف الأفكار الدينية في تبرير الحكم المستبد أو تفسير أسباب الثروة الناجمة عن استلاب العامل والفلاح وهو ما يؤدي في نظره إلي الاغتراب الناتج عن كل عوامل تزييف الوعي سواء باسم الدين أو غيره. إذن فالعبارة التي اشتهرت في الشرق" الدين أفيون الشعوب "اجتزأت من سياقها ولا تعبر عن حقيقة موقف الاشتراكية من الدين .فهذا لينين يدعو إلي دعم كل تحرك من رجال الدين الشرفاء في اتجاه الحرية والعدالة والمساواة إذ يقول 1905" علينا أن نتابع مطالب أعضاء السلك الكهنوتي الواعين الشرفاء حتي نهايتها ، وأن نربطهم بوعودهم عن الحرية". لقد اتخذت الاشتراكية موقفا مركبا في هذه القضية ، حيث فصلت بين الدين والتدين ، فبينما نظرت إلي الدين كعقيدة ناتجة عن وعي الفرد وبالتالي مستقلة أو يجب أن تكون كذلك عن كل صور السيادة الاجتماعية ، نجدها من جهة أخري تدين علاقة الطبقات الحاكمة بنوع من التدين الذي يستخدم في غير صالح القوي التقدمية في المجتمع.وسوف نكشف في المقالة القادمة عن موقف الاشتراكية من الإسلام. الاشتراكية كعلم ولكن ما نستطيع استخلاصه في هذا السياق هو الآتي: 1- اعتقد أن الاشتراكية قدمت خدمة جليلة للدين والفكر الإنساني حينما نقلت الفلسفة نقلة نوعية مهمة وجذرية من مجال الميتافيزيقا والفكر المثالي إلي مجال الطبيعة والحياة البشرية ، وهي بذلك حررت الفلسفة من اللاهوت ونقلتها إلي مناقشة قضايا الواقع، وخلصت الدين من الفلسفة وربطته بالعبادات. وهي نقلة- في تقدير متخصص في الفلسفة- مهمة أفادت الفلسفة والدين علي حد سواء. 2- إن الاشتراكية كعلم بعيدة - كسائر العلوم - عن المعايير الدينية والأحكام الأخلاقية، لأنها علم تفسير حركة التاريخ، وعلم تغيير الواقع ، وعلم الثورة علي الاستغلال، يقول جورج لابيكا " إن الماركسية ليس لها ما تقول حول الدين ، كما أن العلم ليس له ما يقول حول الدين". 3- أكدت الاشتراكية علي فصل الدين عن التدين وفصل التدين عن السياسة، ولم تسع إلي نقد الدين كمعتقد أو نفيه من حياة الإنسان.فالاشتراكية لم تفعل أكثر مما فعل فلاسفة التنوير باعتبارها جزءا من هذا المشروع الكبير، ولم تفعل أكثر مما فعل أنصار التنوير الإسلامي حينما أقاموا نظرتهم إلي الدين علي مبادئ العقل والعقلانية أمثال ابن رشد. 4- الاشتراكية تؤمن بكل تشريع بشري أو إلهي يحارب الظلم والفساد والاستبداد فإذا كان الشرع عقلا خارجاً اكما يقول حمدي زقزوق فإن العقل شرع من داخل وكلاهما متعاضدان في تدعيم مصالح البشر ، وتلك المصالح يحكمها العلم والمعرفة وتحددها أسس العدل والمساواة ولا تحددها معتقداتهم أو جنسهم أو لونهم يقول لينين " لا يجوز التمييز بين المواطنين بحسب معتقداتهم الدينية أبدا" وهو إذ يرفض ذلك التمييز انطلاقا من نقده لازدواجية المصالح بين الدين والدولة.