«نزل القرآن فى مكة وطبع فى إستانبول وقرىء فى القاهرة».. حقيقة راسخة علي مر العصور..فمدرسة التلاوة المصرية كانت وستظل هي الحصن الحصين الذي يحفظ التلاوة من محاولات صبغها بالروح الوهابية التي أخرجت روح التلاوة من مضمونها إلي مجرد ترديد الآيات. عندما كانت مصر قوية كانت مدرسة التلاوة المصرية تغزو العالم وكان أمراء دولة التلاوة في مصر سفراء فوق العادة يستقبلهم رؤساء الدول.. وكان كثير منهم عابراً للقارات يرسخ لدور مصر الإقليمي دون ضجيج. كانت مدرسة التلاوة المصرية تحاول دائما التأكيد علي هويتها المصرية الخالصة لتؤكد أن مملكة قراء القرآن الكريم فى مصر كما أطلق عليها الكاتب الراحل الكبير محمود السعدنى هى مملكة راسخة لا منافس لها فى العالم الإسلامى حتى أن أى صوت يبزغ فى تلاوة كتاب الله لابد أن تجده يخرج من مدرسة الأداء القرآنى المصرية فالشيخ الرائد على محمود هو من اكتشف تلميذه الشيخ محمد رفعت والذى لقب بقيثارة السماء لما تميز به صوته من نقاء وعذوبة.. وقد جمعت بين الشيخين حلاوة الصوت والموهبة الخلاّقة فى كليهما والتى أهلتهما لحمل لواء التلاوة القرآنية فى سائر أرجاء العالم الإسلامى، وقد جمعتهما صفة واحدة هي أنهما كانا كفيفي البصر. وكما قال الكاتب الرائع محمود السعدني عن الشيخ رفعت إنه صوت يقف فريدًا غريبًا باهرًا وسر غرابته أنه استمد طبيعته من جذور الأرض إنه صوت المرحوم الشيخ محمد رفعت صوت الشعب الذي خرج من أصوات الشحاذين والمداحين والندابين والباعة الجائلين واستمد المرحوم الشيخ محمد رفعت صوته منهم فخرج مشحونًا بالأمل والألم مرتعشًا بالخوف والقلق عنيفا.. عنف المعارك التي خاضها الشعب عريضًا عرض الحياة التي يتمناها ولذلك كتب لهذا الصوت البقاء وسيظل إحدى علامات الطريق في تاريخنا الفني الطويل. ومن أمراء دولة التلاوة المصرية يخرج إلينا الشيخ عبد الفتاح الشعشاعى الذى كان يصور معانى القرآن حيث وهبه الله صوتا دافئا حقق من خلاله مكانة مرموقة أهلته للقراءة فى مأتم الملك فؤاد فى منتصف الأربعينيات من القرن الماضى بما يشى بنجومية تحققت لهذا الشيخ الجليل والذى ورث عنه ابنه إبراهيم الشعشاعى ليحمل هو الآخر راية القرآن خلفا لوالده ويستمر نهر التلاوة المصرية ليكرر نموذجا مشابهاً وهو الشيخ صديق المنشاوى والذى وصفه من أرخوا لملوك دولة التلاوة بأنه أمين القرآن وأنه درة فريدة فى عالم القراءة القرآنية مدللا على ذلك بوقائع عن حياته التى تضمنتها سيرته وحتى وفاته وقد قدم الشيخ صديق ابنيه محمد ومحمود ليصبحا نجمين من نجوم التلاوة.. وتتوالى مسيرة نهر العطاء القرآني لنقف عند واحد من هؤلاء النجوم النادر تكرارهم وهو الشيخ عبد الباسط عبد الصمد الذي يقول عنه محمود السعدني إن له صوتا جميلا ونفسية طيبة أيضًا وإذا كان صوتك من معدن الشيخ عبد الباسط فأنت تستطيع أن تدخل التاريخ كصاحب صوت وطريقة من أجمل ما عرفته دولة التلاوة في تاريخها الطويل. ومن الأسرار التي يحكيها السعدني عن المرحوم الشيخ عبد الباسط عبد الصمد أن وسيلته للاتصال بالناس كانت الخطابات وكان يضع في درج مكتبه ألف صورة له يضعها في خطابات في لون البنفسج ويرسل بها إلى المعجبين في كل مكان. مملكة التلاوة المصرية التي لا تنضب أخرجت لنا العديد والعديد منهم في عصرها الذهبى ومنهم الشيخ طه الفشنى والشيخ عبد الرحمن الدروى والشيخ عبد العظيم زاهر والشيخ مصطفى إسماعيل والشيخ محمود خليل الحصرى والشيخ كامل يوسف البهتيمى والشيخ محمود على البنا ونجما التواشيخ الدينية سيد النقشبندى ونصر الدين طوبار وغيرهم تضيق بهم المساحة. ولعل محافظات مصر مازالت رغم الغزو الوهابي لدولة ومدرسة التلاوة المصرية تحاول الصمود وتحاول أن تخرج لنا نجوما يحافظون علي وجود طعم مميز للروح المصرية.. ولابد من الاهتمام مرة أخري بمدارس تحفيظ القران وتلاوته.. فمحاولات الإطاحة بمكانة مصر لا تبدأ بالسياسة ولكنها بدأت من غزو الأزهر وإبعاده عن وسطيته ..ثم غزو آخر لمدرسة التلاوة المصرية عن طريق الفضائيات وشبكة الإنترنت وملايين السيديهات لما يسمون أنفسهم مقرئي القرآن ...نعم نزل القرآن فى مكة..ولكن القاهرة ستظل هي مدرسة التلاوة الكبري.