قبل اختراع كلمة «المواطنة» ومصطلحات «حقوق الإنسان» و«التعايش السلمي» و«حرية الاعتقاد» وفى زمن كانت القوى والامبراطوريات الكبرى ماتزال غارقة فى عبادة النار والحروب والبعد عن التحضر والمدنية، كان النبى صلي الله عليه وسلم ومعه نفر قليل من الصحابة الذين أسلموا وهاجروا والذين نصروه فى يثرب يؤسسون أول دولة فى الإسلام، وكان على الدولة الوليدة أن تتعاطى مع شركاء فى الوطن، هم اليهود والنصارى ومجموعة من عبدة الأوثان والمنافقين، فماذا فعل النبى صلي الله عليه وسلم كى يؤسس دولته؟.. وكيف تعامل مع وطن متعدد الديانات والأعراق؟.. هل أسس دولة دينية؟.. هل اعتبر اليهود والنصارى كفارا يجب قتالهم وطردهم من الدولة الوليدة؟.. الإجابة بالتأكيد لا. إن أول ما قام به النبى الكريم، هو كتابة ما يمكن أن نطلق عليه ميثاق أو دستور أو وثيقة تعزز كل القيم المدنية الموجودة فى عصرنا والتى لم تكن معروفة فى ذلك الزمن البعيد، فقد أرسى حقوقا وواجبات يتساوى فيها المسلمون واليهود والمسيحيون، كما أنها تعد أول معاهدة للدفاع المشترك بين شركاء وطن من ديانات شتى. وإذا كان فقهاء القانون الدستورى يقولون إن تاريخ بدء الدساتير المكتوبة يبدأ من دستور الولاياتالمتحدةالأمريكية الصادر سنة 1776 م والمعروف بدستور فيلاديفيا، والدستور الفرنسى الذى ظهر فى الفترة الثورية سنة 1789 - 1791، وهو أول دستور فرنسى مكتوب، فإن التاريخ يؤكد أنه قبل 11 قرناً تقريباً من ظهور هذه الدساتير كان هناك دستور مكتوب أو عقد سياسى واجتماعى بين النبى صلي الله عليه وسلم والذين آمنوا برسالته وبين اليهود والنصارى وعبدة الأوثان وغيرهم فى المدينة وهذا نص الوثيقة : : بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد النبى [رسول الله]، بين المؤمنين والمسلمين من قريش و[أهل] يثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم،.إنهم أمّة واحدة مِن دون الناس. المهاجرون من قريش على رَبعتهم يتعاقلون بينهم وهم يَفدُون عانِيَهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين..وبنو عَوف على رَبعتهم يتعاقلون معاقلَهم الأولى، وكل طائفة تَفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو الحارث [بن الخزرَج] على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.وبنو ساعِدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تَفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو جُشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.وبنو النّجّار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو عَمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو النَّبِيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.وأنّ المؤمنين لا يتركون مُفرَحا بينهم أن يعطوه بالمعروف فى فداء أو عقل.وأنْ لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه. وأن المؤمنين المتقين [أيديهم] على [كل] مَن بغى منهم، أو ابتغى دَسيعةَ (كبيرة) ظلمٍا، أو إثمًا، أو عدوانًا، أو فسادًا بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعًا، ولو كان ولدَ أحدهم. ولا يَقْتُل مؤمنٌ مؤمنًا فى كافر ولا ينصر كافرًا على مؤمن. وأنّ ذمّة الله واحدة يجبر عليهم أدناهم، وأنّ المؤمنين بعضهم موالى بعض دون الناس. وأنّه مَن تبعنا من يهود فإنّ له النصرَ والأسوةَ غير مظلومين ولا مُتناصرين عليهم. وأنّ سِلم المؤمنين واحدةٌ، لا يُسالِم مؤمن دون مؤمن فى قتال فى سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم. وأنّ كل غازية غَزَت معنا يعقب بعضها بعضًا. وأن المؤمنين يُبِيء بعضهم عن بعض بما نال دماءهم فى سبيل الله. وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدًى وأقومه، 20/ب.وأنّه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفسًا، ولا يحول دونه على مؤمن. وأنّه مَن اعتَبط مؤمنًا قتلا عن بيّنة فإنه قَوَدٌ به إلا أن يرضى ولى المقتول [بالعقل]، وأن المؤمنين عليه كافّةً ولا يحلُّ لهم إلا قيام عليه. 22.وأنّه لا يحل لمؤمن أقرَّ بما فى هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن يَنصر مُحدِثًا (مجرما) ولا يُؤوِيه، وأن من نصره أو آواه فإنّ عليه لعنةَ الله وغضبَه يوم القيامة، ولا يُؤخذ منه صرف ولا عدل. وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإنّ مردَّه إلى الله وإلى محمد.وأنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا مُحاربين.وأنّ يهود بنى عوف أُمّة مع المؤمنين، لليهود دِينهم وللمسلمين دِينهم، مَواليهم وأنفسهم إلا من ظلَم وأثم، فإنه لا يُوتِغ إلا نفسه وأهل بيتِه. وأنّ ليهود بنى النّجّار مثل ما ليهود بنى عوف. وأنّ ليهود بنى الحارث مثل ما ليهود بنى عوف. وأنّ ليهود بنى ساعدة مثل ما ليهود بنى عوف. وأنّ ليهود بنى جُشَم مثل ما ليهود بنى عوف. وأنّ ليهود بنى الأوس مثل ما ليهود بنى عوف. وأنّ ليهود بنى ثَعلَبة مثل ما ليهود بنى عوف، إلا مَن ظلم وأَثم فإنّه لا يُوتِغ إلا نفسَه وأهلَ بيته. وأنّ جَفْنَةَ بطنٌ مِن ثعلبة كأنفسهم. وأنّ لبنى الشُّطَيبَة مثل ما ليهود بنى عوف، وأنّ البرَّ دون الإثم. وأنّ موالى ثعلبة كأنفسهم. وأن بطانة يهود كأنفسهم. وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم . وأنّه لا يَنحَجِز على ثأرِ جُرحٍ، وأنه مَن فَتَك فبنفسه فتك وأهل بيته إلا من ظَلم، وأنّ الله على أبَرِّ هذا. وأنّ على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأنّ بينهم النصر على مَن حاربَ أهل هذه الصحيفة، وأنّ بينهم النصح والنصيحة والبرّ دون الإثم. وأنه لم يأثم امرؤٌ بحليفه، وأنّ النصر للمظلوم. وأنّ اليهود يُنفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. وأنّ يَثرب حرامٌ جوفُها لأهل هذه الصحيفة. وأنّ الجار كالنفس غير مضارٍّ ولا آثِم. وأنّه لا تُجار حرمةٌ إلا بإذن أهلها. وأنّه ما كان بين أهل هذه الصحيفة مِن حَدث أو اشتجار يُخاف فسادُه، فإنّ مَرَدَّه إلى الله وإلى محمد رسول الله. وأن الله على أتقى ما فى هذه الصحيفة وأبَرِّه. وأنّه لا تُجار قريش ولا مَن نَصَرها، وأنّ بينهم النصر على مَن دهم يثرب. وإذا دُعوا إلى صلح يُصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وأنهم إذا دَعوا إلى مثل ذلك، فإنه لهم على المؤمنين إلا مَن حاربَ فى الدِّين. على كل أناس حِصَّتهم مِن جانبهم الذى قِبَلهم. وأنّ يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة، مع البِرّ المحض مِن أهل هذه الصحيفة، وأنّ البِرّ دون الإثم لا يَكسِب كاسب إلا على نفسه، وأنّ الله على أصدق ما فى هذه الصحيفة وأبَرِّه. وأنه لا يحول هذا الكتابُ دون ظالمٍ أو آثم، وأنه مَن خرجَ آمِنٌ ومن قعد آمِنٌ بالمدينة، إلا مَن ظلم وأثم، وأنّ الله جارٌ لمن بَرَّ واتّقى ومحمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم). إلى هنا انتهى نص الوثيقة التى تعد وثيقة أمن وسلام وتعايش ودعوة إلى الصلح، ونصرة المظلوم وتؤسس لحقوق الإنسان، ومبادئ المجتمع المدنى فى ظل العدل والتفاهم وتحديد الحقوق والالتزامات المتبادلة بل إنها تعطى نظرية فى حقوق المواطنة، إذ أن لليهود والنصارى ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، طالما ظلوا ملتزمين بهذا الميثاق. وتعليقا على هذه الوثيقة يقول الدكتور أحمد محمود كريمة الأستاذ بجامعة الأزهر : إن أول وأعظم وثيقة ترسى قيم «المواطنة » و«حقوق الإنسان» فى مجتمع مسلم تصان فيه الحقوق وتؤدى فيه الواجبات وتسود فيه الحريات والتنوع الفكرى والتعدد العقائدى وزمالة الشرائع، أرساها سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب هجرته المباركة من مكة إلى المدينة «يثرب»، داعيا الى ضرورة تعلم هذه الوثيقة وتعليمها والإعلام بها فى المؤسسات الدعوية والتعليمية والإعلامية والثقافية فى الداخل والخارج، دلالة على الإخاء الإنسانى فى الإسلام. ويقول الدكتور السيد عمر أستاذ النظرية السياسية الإسلامية بجامعة حلوان فى كتاب «وثيقة المدينة الدستور الإنسانى الأول»: إنها تقرر حرية العقيدة الدينية ، وتنص على أن اليهود أُمّة مع المؤمنين، لليهود دِينهم وللمسلمين دِينهم، مَواليهم وأنفسهم، كما أسست للعلاقات بين المواطنين بجميع عقائدهم الدينية على الشراكة فى الأعباء والتعاون على البر حيث تنص الصحيفة على أن :» على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأنّ بينهم النصر على مَن حاربَ أهل هذه الصحيفة، وأنّ بينهم النصح لنصيحة والبرّ دون الإثم». ويوضح أن الوثيقة أرست وحدة سلم شركاء الوطن ووحدة حربهم : تقضى الوثيقة صراحة بأن :» لا تُجار قريش ولا مَن نَصَرها. وأنّ بينهم النصر على مَن دهم يثرب. وإذا دُعوا إلى صلح يُصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وأنهم إذا دَعوا إلى مثل ذلك، فإنه لهم على المؤمنين إلا مَن حاربَ فى الدِّين. على كل أناس حِصَّتهم مِن جانبهم الذى قِبَلهم». ويشير إلى أن الوثيقة تؤكد على وحدة العدو والمساواة بين كل المواطنين فى مواجهته بصرف النظر عن الدين منوهاً إلى أنها أرست مبدأ المعاملة التفضيلية لغير المسلمين فى الدولة الإسلامية حيث تقرر الوثيقة أن لموالى غير المسلمين وأنفسهم من أهل المدينة، مثل ما لأهل هذه الصحيفة من حقوق، وتزيد على ذلك تقرير حقهم فى البر من أهل هذه الصحيفة، وتقرر مبدأ شخصية المسئولية لمن يقع فى الإثم منهم. تلك الحقوق التى أعلن عنها النبى صلى الله عليه وسلم منذ ما يقرب من خمسة عشر قرنا من الزمان لم تظهر إلا مؤخرا فى الدول المعاصرة. فقد تضمنت وثيقة حقوق الإنسان بالدستور الأمريكى الصادرة فى ديسمبر عام 1917م عدة تعديلات نصت على حرية العبادة والرأى والاجتماع وحماية الأديان.