يثور التساؤل بين المشرعين الدستوريين فى العالم العربى والإسلامى عن المواجهات فوق الدستورية Supra constitutional / Supra constitutionnelle التى يجب أن يلتزم بها واضعو الدساتير عند قيامهم بوضع دساتير الدول العربية والإسلامية مستقبلا. ويتبين لنا من استقراء القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ضرورة التزام الدساتير العربية والإسلامية بالقرآن الكريم وبالدستور الأول لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وهو دستور المدينةالمنورة المعروف بوثيقة المدينةالمنورة والذى يوجب التوافق بين جميع أطياف المجتمع وجميع الديانات السماوية تحقيقاً لصالح العباد والبلاد واعترافاً بالاختلاف الموجود بين الشعوب والأمم التى يجب أن تتوافر بينها التوافقية والرضائية Compatibility والتعاقدية Contracting أو ما يطلق عليه العقد الاجتماعى Social Contract وهى أهم الموجهات فوق الدستورية فى جميع دساتير العالم وهو ما أوضحناه تفصيلا فى مؤلفنا : “موسوعة شرح الدستور المصرى الجديد لسنة 2012” وسوف نتعرض فيما يلى لأهم المبادئ الدستورية العليا التى تضمنتها وثيقة المدينةالمنورة وذلك فيما يلى: أولاً: الأهمية الدستورية لوثيقة المدنية المنورة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي العصر الحاضر: وضعت وثيقة المدينةالمنورة في عهد الرسول أسس الدولة المدنية الحديثة كما وضعت أسس التعايش بين الأديان السماوية المختلفة وتعتبر أول دستور في الإسلام، حيث قبل النبي صلى الله عليه وسلم التعدد في المدينة وتعايش معه، فجمع بين المسلمين واليهود والمشركين من أهل المدينة وجعلهم كلهم يدًا واحدة يتعاونوا فيما بينهم، كما حددت وثيقة المدينةالمنورة كيفية التعامل مع مظاهر الوثنية الموجودة في المدينة من قبليات وعصبيات وديانات مختلفة كما جاء في دستور المدينةالمنورة فى الفقرة 15 و 16 التي تنص على أنه « ...وأنّ ذمّة الله واحدة يجبر عليهم أدناهم، وأنّ المؤمنين بعضهم موالى بعض دون الناس. وأنّه مَن تبعنا من يهود فإنّ له النصرَ والأسوةَ غير مظلومين ولا مُتناصرين عليهم.» ثانياً: الأسس التوافقية والتعاقدية الإسلامية لوثيقة المدينةالمنورة: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم وثيقة المدينة وحرص على تسطيرها وكتابتها حيث أسست للعيش المشترك بين مواطنى دولة المدينة الناشئة التي أقامها الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتولى إدارة شؤونها وقيادتها، فبعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يثرب، غير اسمها إلى المدينة وآخى بين المهاجرين والأنصار على اختلاف قبائلهم وتعدد عشائرهم ثم أقام دولة مستقلة عن النفوذ الأجنبي الروماني والفارسى والحبشى - في المدينة، دولة لها إقليم جغرافى معلوم محدد، ويتكون مواطنو هذه الدولة من المسلمين المهاجرين والأنصار ومن اليهود -على تعدد قبائلهم وعشائرهم ومن بعض المشركين- وهذا يعني أن أديان وعقائد هؤلاء المواطنين فى الدولة الوليدة متعددة وأن قبائلهم وأعراقهم متنوعة وأن ثقافاتهم متفاوتة، ومن هنا فقد جاءت وثيقة المدينة الدستورية لتعلن أسس ومبادئ حكم الدولة، وواجبات مواطنيها، والعلاقة بينهم وبين رئاسة الدولة متمثلة فى الرسول صلى الله عليه وسلم - وكل ما لهم وما عليهم من حقوق وواجبات دستورية كما جاء فى وثيقة المدينةالمنورة من الفقرة رقم 1 حتى الفقرة رقم 11 والتي تنص على أنه « هذا كتاب من محمد النبيصلى الله عليه وسلم ، بين المؤمنين والمسلمين من قريش و(أهل) يثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم. أنهم أمّة واحدة مِن دون الناس. المهاجرون من قريش على رَبعتهم يتعاقلون بينهم وهم يَفدُون عانِيَهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو عَوف على رَبعتهم يتعاقلون معاقلَهم الأولى، وكل طائفة تَفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين .وبنو الحارث (بن الخزرَج) على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو ساعِدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تَفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو جُشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو النّجّار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو عَمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو النَّبِيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وأنّ المؤمنين لا يتركون مُفرَحا -أي مثقلا بالدَّين وكثرة العيال - بينهم أن يعطوه بالمعروف فى فداء أو عقل.» ثالثا: قيم ومبادئ التعايش المشترك والرضائية بين مواطنى المدينةالمنورة على اختلاف عقائدهم وانتماءاتهم: تضمنت الوثيقة قيم ومبادئ التعايش المشترك بين كل مواطنيها من المسلمين، المهاجرين والأنصار، واليهود وبعض المشركين، والإطلاع على هذه الوثيقة يوقفنا على نص دستورى لا نعرف في تاريخ الفكر الإنسانى قبله نصاً يشبهه في التأسيس للعيش المشترك بين مواطنى دولة ناشئة يحملون كل أشكال الاختلاف وصنوف التعدد! ومن هذه القيم: الإقرار بمبدأ التعددية بكل تجلياتها والقبول بالأخر المختلف دينيا وعرقياً وثقافياً. رابعا: إقرار وثيقة المدينةالمنورة للتعددية الدينية والعقائدية: أقر الدين الإسلامى الحنيف التعددية الدينية وقد تم تطبيق ذلك عملياً في وثيقة المدينةالمنورة وذلك في نص طويل مكون من عشر فقرات يبدأ بالفقرة 25 وينتهي بالفقرة 35 من تلك الوثيقة والتي تنص على أنه «... وأنّ يهود بني عوف أُمّة مع المؤمنين، لليهود دِينهم وللمسلمين دِينهم، مَواليهم وأنفسهم إلا من ظلَم وأثم، فإنه لا يُوتِغ (أي لا يهلك) إلا نفسه وأهل بيتِه. وأنّ ليهود بني النّجّار مثل ما ليهود بنى عوف. وأنّ ليهود بنى الحارث مثل ما ليهود بنى عوف. وأنّ ليهود بنى ساعدة مثل ما ليهود بني عوف. وأنّ ليهود بني جُشَم مثل ما ليهود بنى عوف. وأنّ ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف. وأنّ ليهود بني ثَعلَبة مثل ما ليهود بنى عوف، إلا مَن ظلم وأَثم فإنّه لا يُوتِغ إلا نفسَه وأهلَ بيته. وأنّ جَفْنَةَ بطنٌ مِن ثعلبة كأنفسهم. وأنّ لبنى الشُّطَيبَة مثل ما ليهود بنى عوف، وأنّ البرَّ دون الإثم. وأنّ موالي ثعلبة كأنفسهم. وأن بطانة يهود كأنفسهم». ومع ذلك هم أمة واحدة سياسياً ودستورياً، وإن كان لكلِ دينه الذى يختص به، وهذا يذكر بما جاء في سورة الكافرون الآية 6 لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ وبقوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ سورة البقرة الآية 62. فقد أوردت الآية أصحاب العقائد والأديان من المسلمين (المؤمنين) واليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين جنباً إلى جنب ثم بينت بأن سلطة الفصل بين أتباع الأديان بيد الله تعالى وحده، وأن هذا الفصل الإلهى بين أتباع الأديان موعده يوم القيامة. خامسا: مفهوم الأمة فى وثيقة المدينةالمنورة: استخدم النبي الكريم كلمة أمة فى نص الوثيقة وكلمة أمة فى لغة العرب تحمل معاني متداخلة بدءًا من: الجماعة المتميزة عن غيرها بخصائص، ومنها قول الله تعالى في سورة الأعراف الآية 168 وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمْ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي جماعات لها خصائص ليست في غيرها، وعليه فهناك (الأمة) على مستوى الدين والعقيدة، وقد أشارت الوثيقة إلى ذلك في (الفقرة 2) عندما تحدثت عن المؤمنين من المهاجرين والأنصار، قالت عنهم (إنهم أمة واحدة من دون الناس)، أما بالمعنى السياسى الدستورى فهُم مع غيرهم من المواطنين الذين يختلفون معهم في الدين والاعتقاد أمة واحدة، وتأسيساً على ذلك فإنه يجب على الجماعات الدينية الإسلامية يمكنها أن توسع دائرة نظرها واهتمامها إلى الأمة بالمعنى الواسع اتساع الأرض، وأن الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية عليها أن تلتزم بالمفهوم السياسي والدستورى لمصطلح الأمة أى أمة المواطنين فى إقليم ودولة معينة مهما تعددت وتنوعت عقائد مواطنيها وإثنياتهم أو انتماءاتهم العرقية، فهم جميعاً امة واحدة. سادساً: الأسس الدستورية للحكم في دولة الإسلام. تناولت وثيقة المدينة وهى تضع الأسس الدستورية للحكم فى دولة الرسولصلى الله عليه وسلم فى المدينة المبادئ الكلية والمقاصد العليا للشريعة الإسلامية فقط ، ولا تتوقف الصحيفة عند الفروع والجزئيات والظنيات والأحكام التفصيلية الاجتهادية التى ستتغير مع تغير الزمان والأحوال والمواقف. سابعاً: أسس وأخلاقيات التعايش المشترك في الدولة الإسلامية: دعت الوثيقة إلى أخلاقيات التعايش المشترك، ودفعت المواطنين دفعاً لممارستها، وأسست الصحيفة لمبدأ وجوبية نصرة المظلوم على الجميع، ولقد حرصت الوثيقة على أن التعامل بالمعروف والفضل يساعد على العيش المشترك وهو ما جاء بنص وثيقة المدينةالمنورة في الفقرتين 37 و 83 على أنه « ...وأنّ على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأنّ بينهم النصر على مَن حاربَ أهل هذه الصحيفة، وأنّ بينهم النصح والنصيحة والبرّ دون الإثم. وأنه لم يأثم امرؤٌ بحليفه، وأنّ النصر للمظلوم. وأنّ اليهود يُنفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.» ويتبيّن مما تقدم ضرورة التزام الدساتير العربية والإسلامية بالدستور الأول لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وهو دستور المدينةالمنورة الذي يوجب التوافقية والرضائية والتعاقدية بين جميع أطياف المجتمع وجميع الديانات السماوية وهو ذات المطلب الذي نادى به الشيخ الماليزي/ عمران حسين حيث دعى المشرعين الدستوريين في الأمة الإسلامية بأن لا يرجعوا إلى الدساتير الأمريكية أو الأوروبية بل أن يرجعوا أولاً إلى دستور الرسول صلى الله على وسلم بالمدينةالمنورة و أن يطبقوه بينهم فهو خير مرجع وخير دليل عملي بعد القرآن الكريم كتاب الله العزيز.