هو الحسين بن منصور الحلاج، فارسى الأصل، من بلدة البيضاء التي ينسب إليها المفسر البيضاوي، ولد في منتصف القرن الثالث الهجري، ونشأ بالعراق، وقتل في سنة ثلاثمائة وتسعة هجرية. في السادسة عشرة من عمره، اتصل بالصوفية ولبس حرفتهم، وتتلمذ على أعلامهم، كالجنيد، وسهل التستري، ومن هنا بدأت الأزمة، ثم أصبح له هو نفسه مع مرور الأيام مريدون كثيرون، كان يعبر عنهم في قصائد بقوله: "أصحابى وخلاني"، ولم يلبث الخلاف أن بدأ ينشب بين الحلاج وبين أعلام الصوفية في عصره. نشأ الحلاج في «واسط» وكانت هذه المدينة مركزا من مراكز الإشعاع الفكرى والروحي، أسس بها الأشاعرة مدرستهم الكبرى وفيها نشاط ثقافى وتيار علمى حر، وأقام الحنابلة مدرسة القراء ومعهدا للحديث، وكانت المساجد مقاعد للبحث والدرس والجدل والحوار. في هذا الجو العلمى نشأ "الحلاج" ولفت إليه الأنظار منذ طفولته بذكائه وشفافية روحه وتفتح قلبه وحبه للعلم والمعرفة وحفظ القرآن الكريم، وهو في العاشرة من عمره وتعمق في فهم معانيه، واشتهر بالإرادة القوية الموجهة والرياضات والمجاهدات الروحية ونسى لهو الطفولة، كان كثير الصلاة والتأمل، وتعلق كثيرا بالدراسات التي تتناول المعرفة الروحية وأقبل على علوم عصره من فقه وتوحيد وتفسير وحديث وحكمة وتصوف، وأراد أن يعرف المعنى الرمزى الذي يرفع دعاء الروح إلى الله. تعلق قلب "الحلاج" بالوجد الإلهى والحب الربانى وانقطع عن دروسه وأقبل على ملكوت السماء والأرض، يقلب الآفاق ويتأمل أسرارها ويبحث عن أسرار وأسرار، ونذر نفسه لربه وأقبل عليه بكل ذاته والتهبت عواطفه بالحب والوجد، لكن في النهاية لاقى عقابا كبيرا لاتهامه بالكفر والإلحاد وتوفى متأثرا بتعذيبه. لا يثبت على حال يقال إن الحلاج كان متلونًا لا يثبت على حال فتارة بزى الفقراء والزهاد وتارة بزى الأغنياء والوزراء وتارة بزى الأجناد والعمال، وطاف البلدان ودخل المدن الكبيرة وانتقل من مكان لآخر وهو يظهر للناس أنه من الدعاة إلى الله، وفى نفس الوقت ينشر مذهبه وطريقته في الحلول والاتحاد، فكان له أتباع في الهند يكاتبونه ب"المغيث"، وفى خراسان يكاتبونه "المميز"، وفى سركسان يكاتبونه "المقيت"، وفى بغداد يكاتبونه ب"المصطلم"، وفى البصرة ب"المجير"، وهكذا راج أمره على كثير من الناس، وكان يستعمل السحر والحيل في خداع الناس وإقناعهم بمذهبه وطريقته، وقد قال المؤرخون إنه كان مخدومًا من الجن والشياطين، وله حيل مشهورة في خداع الناس ذكرها ابن الجوزى وغيره، وكان الحلاج يتلون مع كل طائفة حتى يستميل قلوبهم، وهو مع كل قوم على مذهبهم: إن كانوا أهل سنة أو رافضة أو معتزلة أو صوفية أو حتى فساقًا. ادعاء النبوة ذاعت شهرته وأخباره وراج أمره عند كثير من الناس، حتى وصلت لوزير المقتدر بالله الخليفة العباسى أخبار ادعاء الحلاج للنبوة، فقبض عليه فأنكر ما نسب إليه فوضعوه في السجن فترة ثم صلبوه حيًا صلب تشهير، ثم أعيد للسجن ثم أطلق فلم يرتدع عن غيه ولا طريقته ووصل الأمر لأن ادعى الربوبية- بحسب روايات عنه- وأضل خلقًا كثيرًا من غلمان بيت الخليفة والوزراء ومن الخدم والحشم، بل أضل نصر القشورى حاجب الخليفة نفسه، وظهرت طائفة بالعراق تقول عن الحلاج إنه إله وإنه يحيى الموتى والجن مسخرون له. بعدها ألقى القبض على عدد من أتباعه فأقروا بالأمر واعترفوا عليه بأنه يدعى الربوبية والألوهية، فلما واجهوه بالشهود أنكر بشدة وتبرأ منه وجعل لا يزيد على الشهادتين والتوحيد فتم صلبه وتنفيذ حكم الإعدام فيه في عام 309 هجريا. قبل مقتله ترك الحلاج الإيقاع يقوده نحو دليل تكفيره وإدانته، فعبقريته رغم عدم فهم الناس لها جرفته فقال: أنت بين الشغاف والقلبُ تجرى مثل جرى الدموع من أجفاني وتحلُّ الضمير جوف فؤادى كحلول الأرواح في الأبدان. فجاء البيت الأول هنا رقيقًا رائعًا ذا صورة فنية سامية معبرة بشفافية فريدة، يسرى فيها المحبوب "الله" فيما بين القلب وما يغلفه "الشغاف"، وتشبيهه انسياب الدمع من الجفن المحتضن للعين هيّ صورة صوفية معبرة عن فكرة امتلاء المحب بالمحبوب "الله"، الذي هو حقيقة كل شيء بمعناها الواسع، لكن الحلاج بقوله كلمة "الحلول" الخطيرة التي لم تُذكر من قبل في الشعر الصوفي، أوغيره من ألوان الشعر أو الأدب وطرحها بالشكل المفاجئ، وإعادتها مرتين وتأكيد معناها في أبيات أخرى غير هيّاب أو متوجس، ولا متحسب لوقعها على أهل زمانه، ومحدودية تفهمهم للنص وتقلبهم اللامعقول على التفسير الجامد أعطى لأعدائه وخصومه من المتزمتين والجهلة فرصة النيل منه والإيقاع به وإدانته، عندما قال: مزجتَ روحَك في روحى كما تُمزَجُ الخمرةُ بالماءِ الزلالِ فإذا مسّك شيءٌ مسّنى فإذا أنت أنا في كل حال وكلمة الحلول تُؤوَّل صوفيًا تأويلات لا تفهمها العامة ويُكفِّرها مشايخ التكفير، ويختم الحلاج بكلمة أشد خطرًا وهيَّ "المزج"، ثم يشبه هذا المزج بين روحه وروح المحبوب "الله" بمزج الخمر الحسيّة بالماء، وكانت التهمة هنا هي الادعاء بحلول الله فيه والامتزاج بينه وبين الله، وأثار التكفيريين أكثر قوله فإذا أنت انا في كل حال ولم يكن هذا مأرب الحرج ولا مبتغاه، وكان تفسير أعدائه الحرفى وجد له آذانًا صاغية من المتربصين بالحلاج والساعين لإزاحته عن طريقهم ليخلو لهم الجو ويُمرروا ما يريدون تزلفًا للحاكم وطمعًا بالمناصب والمال والجاه. الحلاج يناحى ربه نفى الحلاج كل التهم التي لاحقته فقال إن من ظن أن الألوهية تمتزج بالبشرية فقد كفر، وعن الحلول قال أيضا إن معرفة الله هي توحيده،وتوحيده تميزه عن خلقه، وكل ما تصوَّر في الأوهام فهو تعالى بخلافه، ووظفَت قناعات الحلاج في الشعر العربى المعاصر منذ ستينيات القرن الماضى في شعر عبد الوهاب البياتى وصلاح عبد الصبور وأودونيس ومحمد لطفى جمعة ونجيب سرور وغُنِيت أشعاره من قبل ظافر يوسف وبشار زرقان وآخرين. وكان آخر ما قال الحلاج: نحن بشواهدك نلوذُ وبِسَناعِزَّتكَ نسْتَضئُ لِتُبدى لنا ما شِئتَ من شأنك وأنت الذي في السماء عرشك وأنت الذي في السماء إله وفى الأرض إله تَجلَى كما تشاء مثل تجليك في مشيئتك كأحسن صورة والصورة هيَّ الروح الناطقة الذي أفردته بالعلم(والبيان)والقدرة وهولاء عبادك قد اجتمعوا لقتلى تعصُّبا لدينك وتقربا إليك فإغفر لهم! فإنك لو كشفت لهم ما كشفت لي لَما فعلوا ما فعلوا ولو سترت عنى ما سترت عنهم لما لقيتُ ما لقيت فلكَ التقدير فيما تفعل ولك التقدير فيما تريد المشهد الأخير قبل قتل الحلاج نظر إلى السماء وكان مصلوبا على الصليب الخشبى مناجيًا ربه قائلا ما سبق، وهذا دليل قاطع على إيمان الحلاج وعدم كفره وحبه لله ولكنْ أي إيمان إنه إيمان الفطرة والعقل لا الإيمان المبنى على الإبهام والجهل، كما أُسيء فهم مقولته "أنا الحق" أي أنا الحقيقة، والمتعارف عليه أن الله هو الحقيقة المطلقة ففُهمت كتعبير متعاظم للذات، بحيث أثار الشكوك بإيمانه مفسرين أقواله ادعاء بحلول الذات الالهية في النفس البشرية، واعتبروه ساحرًا خطيرًا واستاء منه خصومه السياسيون خاصة من دوره في خطة مرسومة لإصلاح الضرائب، ورأى رجال الدين في فكرته حول إسقاط الفرائض تعبيرًا عن كفره، ودليلًاعلى إلحاده، رغم أنه ألف أروع أنشودة يمتدح فيها الرسول محمد عليه وآله أفضل الصلاة والسلام في كتاب الطواسين من سجنه، وأشاد كبار المتصوفين وأبدوا إعجابهم على مر العصور بحبه المطلق لله ورسوله ومن أروع ما قاله عنه: والله ما طلعت شمس ولاغربت إلا وحبك مقرون بأنفاسي.