ما زال يحفظ لنا ناشرو التراث الإسلامي، كتبًا حوت بداخلها صفات النبى محمد صلى الله عليه وسلم وحسن معاملته للآخرين، كما احتوت المؤلفات ذاتها مواقف جمعت الرسول صلى الله عليه وسلم بمن هم على غير دين الإسلام، وضرب فيها أروع الأمثلة. وفى أقدم معرفة موثقة للمسيحيين عن النبى محمد نعود للمصادر البيزنطية التي كتبت بعد مدة وجيزة من وفاة الرسول سنة 632 م، كان هناك حوار بين يهودى تحول للمسيحية وعدد من اليهود، كتب أحد المشاركين أن شقيقه كتب له قائلا: إن نبيا ظهر وسط الشرقيين ولن تكتشفوا أي شيء حقيقى عن النبى المذكور إلا عند القراءة عنه، ورغم أن سيدنا محمدا لم يذكر باسمه فوجوده معروف ومقصود على ما يبدو من الحوار. وسمع الغرب عن النبى وعرفوا عنه كثيرا ومنهم من دافع عنه ومنهم من اتهمه على ما سمعه فقط دون أن يعطى لنفسه فرصة التروى والاطلاع على صفاته وأفعاله ومواقفه التي دائما ما كان يتعامل بها، بروح نبى الرحمة والرسول من الله للعالمين ليكون لهم رحمة وقلبا طيبا ويعمل على حل أزماتهم ومشاكلهم الحياتية. فبعد هجرة رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى المدينة أصبح سيدًا عليها، ومن ثم عاشت معه في داخل المدينة أقلية غير مسلمة من المشركين واليهود، وعندما امتدت الدولة الإسلامية إلى مساحات أوسع صارت فيها أقليات من النصارى -كذلك- تمتعت كلها بالحرية الدينية، فكل أقلية تمارس شعائرها كما تحب، وهذه الحرية أقرها الإسلام كمبدأ منذ نزول الوحى على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لترتقى بها الإنسانية، وتسعد في ظلِّها البشرية. وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير شاهد على تمتع الأقلية غير المسلمة بالحرية الدينية،رغم ما قاساه الصحابة الكرام الأوائل من مشركى مكة، إلاَّ أن رسول الله عليه الصلاة والسلام- الذي اكتوى أيضًا بنار القسوة والتعذيب- لم يَرد على الكافرين والمشركين بهذا الأسلوب، ولم يعاملهم بالمثل عندما أنعم الله عليه بالنصر والتمكين، ولم يرتضِ يومًا أن يفرض عليهم عقيدة لم يقتنعوا بها بعدُ، امتثالًا لأوامر القرآن الكريم التي يقول الله فيها: «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» [يونس: 99]، وهو ما طبَّقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل منه دستورًا للمسلمين في تقرير الحرية الدينية. كما حرص صلى الله عليه وسلم على معاملة المشركين والمسيحيين بالرفق وحفظ دمائهم وأموالهم، وذلك ما داموا مسالمين خاضعين كرعايا في دولة الإسلام تجرى عليهم أحكامه، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس جاءه يهودي، فقال: يا أبا القاسم، ضرب وجهى رجل من أصحابك، فقال: من؟ قال: رجل من الأنصار، قال: ادعوه. فقال: أضربته. قال: سمعته بالسوق يحلف: والذي اصطفى موسى على البشر، قلت: أي خبيث، على محمد صلى الله عليه وسلم ؟ فأخذتنى غضبة فضربت وجهه، فقال النبى صلى الله عليه سلم: لا تخيروا بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من تنشق عنه الأرض، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدرى أكان فيمن صعق، أم حوسب بالصعقة الأولى. وكان غلام يهودى يخدم النبى صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه النبى صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: أسلم. فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فأسلم، فخرج النبى صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار. ورد في إنجيل يوحنا «وكان المرسلون من الفريسيين فسألوه وقالوا له (أي يوحنا) فما بالك تعمد إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبى فأجابهم يوحنا قائلًا أنا أعمد بالماء ولكن في وسطكم قائم... الذي لا أستحق أن أحل سيور حذائه»، وورد هذا النصّ في متوسّط قصّة التمهيد لمجيء المسيح عليه السلام من قبل المكلف بذلك يوحنا المعمدان وقد أتى إليه الفريسيّون بعد تلك الضجّة التي نتجت عن دعوته ليساءلوه، فقالوا له كيف تعمد إن لم تكن أنت المسيح ولا إيليا ولا النبي؟. والسؤال الذي يطرح نفسه من هو هذا النبى الذي ينتظره اليهود؟ لا شكّ أنه طرف ثالث يأتى بعد المسيح عليه السلام وهو المذكور في نبّوات العهد القديم، إنّه من سلالة إسماعيل عليه السلام، وقد ورد ذكره في سفر التثنية. من الملفت للنظر ذكر ثلاثة أماكن يأتى منها نور الله وهي: أولًا: سيناء: وتقع في مصر أرض بنى يعقوب منشأ الرسالة الإلهيّة الأولى الناموس الموسوى (التوراة). ثانيًا: سعير: وهى في أرض فلسطين موطن المسيح عليه السلام، وقد فاقت قوتها الأولى إذ يقول: إنّه أشرق منها بينما جاء فقط من سيناء. ثالثًا: جبل فاران: وهو من أسماء الجزيرة العربيّة موطن النبيّ محمد صلى الله عليه وآله والظهور فيها هو الأتمّ إذ يقول: إنّ نور الله قد تلألأ منها والتلألؤ هو أفضل درجات الجلاء والوضوح والظهور. ولكن كيف نستطيع أن نظهر أوجه الربط بين إسماعيل عليه السلام والرسول محمّد وأرض فاران؟ من المعلوم في التاريخ أن الرسول صلى الله عليه وآله يعود بنسله إلى جدّه إسماعيل عليه السلام، وقد ذكرته التوراة قبل بعثه بآلاف السنين، ولقد كان لإبراهيم عليه السلام ابنان إسماعيل وإسحاق وقد وعد الله تعالى أباهما بأن يجعل له منهما نسلًا مباركا ويخرج منهما أمما قويّة فتلعب دورها في ايصال الرسالة الإلهية إلى الناس حيث نقرأ في سفر التكوين 21: 13: (لأنّه بإسحق يدعى لك نسلًا وبان الجارية أيضًا أجعله أمة لأنه نسلك). ولكن ما هي علاقة إسماعيل عليه السلام بأرض فاران؟ هذا ما بيّنه لنا نصّ التكوين (ونادي ملاك الله هاجر من السماء... لا تخافى لأن الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو قومى أحملى الغلام وشدّى يدك به لأنّ سأجعله أمّة عظيمة... وكان الله مع الغلام وكان ينمو رامى قوس وسكن في بريّة فاران). إذًا ففاران هي مسكن إسماعيل عليه السلام، ومنها سوف يخرج خاتم النبييين متلألئًا بالرسالة النبوية الشريفة ومن سلالة هذا النبى يخرج اثنا عشر رئيسًا يكوّنون أمّة عظيمة. صفات الرسول محمد في الكتاب المقدس: ورد في أشعياء (هو ذا عبدى الذي أعضده مختارى الذي سرّت به نفسى وضعت روحى عليه فيخرج الحق للأمم لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته)، وهذا ما تثبته كتب السيرة والأخلاق، وهذا ما قاله الرسول محمد في غالب الأحاديث المتواترة ومنها أن الرسول بعث ليتمم مكارم الأخلاق. ومن صفاته صلى الله عليه وآله أنه صادق أمين كما هو مدوّن في إنجيل: (اسهروا إذا لأنكم لا تعلمون في أية ساعة يأتى ربّكم.. فمن هو العبد الأمين الحكيم الذي أقامه سيّده (الله) على خدمه ليعطيهم الطعام (الروحي) في حينه طوبى لذلك العبد الذي إذا جاء سيده يجده يفعل ذلك الحق أقول لكم إنّه يقيمه على جميع أمواله (أنبيائه). ومن المعلوم في كتب التاريخ أنّه لم يلقب أحدهم بالأمين حتى أصبح ينادى بهذا اللقب بدلا عن اسمه سوى الرسول محمد صلى الله عليه وآله، ولم يخرج نبى بعد المسيح عليه السلام برسالة تعتبر طعامًا روحيًا غير محمّد الذي أخرج التوحيد في حينه بعد أن انتشر الشرك ابتداء من القرن الرابع حتى بعثته. وقد حدّد الكتاب المقدس نوعية هذا الطعام حيث قال في إنجيل يوحنا بأنّ المسيح سوف يرسل من بعده المعزى (محمد) (أمّا المعزّي... الذي سيرسله الأب باسمى فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بما قلته لكم). إذًا الطعام الذي سيحمله الرسول محمّد إلى الناس هو تعاليم تشبع جوعهم لمعرفة الله وتروى عطشهم نحو الحق بعد أن عمّ الضلال. ومن أبرز النبوءات الدالّة على الرسول محمّد ما ورد في يوحنا: (إن كنتم تحبوننى فاحفظوا وصاياى وأنا أطلب إلى الأب فيعطيكم معزيًا آخر ليمكث معكم إلى الأبد). وتعبير «معزّيًا آخر» دليل على كونه كالمسيح نبيّ فالمسيح هو المعزى الأول ومحمد هو المعزى الآخر الذي يأتى بعده. جاء في سفر الرؤيا (اسجد لله فإن شهادة يسوع التي ألقاها على الناس هي روح النبوة ثم رأيت السماء مفتوحة وإذا فرس أبيض والمجالس عليه يدعى أمينا وصادقا وبالعدل يحكم ويحارب). وفى هذا النص عدّة صفات لا تنطبق سوى على الرسول محمد صلى الله عليه وآله. 1 أنّه يدعى أمينا وصادقًا وهذا ما لم يدع به أحد في التاريخ سوى محمد صلى الله عليه وآله. 2 أنّه يحارب الكفر ويجعل العدل الإلهى قائما دون رهبة وهذا ما قام به محمد صلى الله عليه وآله، مقابل الرسالة المسالمة التي جاء بها المسيح عليه السلام. 3 أن نبوات رؤيا يوحنا تتحدّث عن فترة ما بعد المسيح عليه السلام مما يستلزم تطبيقها على الرسول محمد صلوات الله وسلامه عليه.