أنا المواطن أبو يكح الجوسقي، أسكن في إحدى العشش الكائنة في درب المهابيل، باحدي مناطق القاهرة العامرة ، سأحكي لكم عن مشكلتي .. إذ ربما تجدون لي حلا، وعلى الله قصد السبيل والأجر والثواب على الكريم، وهنيالك يا فاعل الخير ، ومن قدم خير بيداه التقاه . أما عن المشكلة التي حيرت الألباب، فلعلكم تتعجبون من مشيتي العجيبة، وانحناءة ظهري الغريبة، فمنذ زمن وأنا أسير منحنياً إلى الأمام، وكأنني في وضع الركوع أو نصف مربع ، والغريب أن هذه الحالة لم تصبني وحدي ولكنها أصابت كل أهل حارة درب المهابيل ، وتبدأ حكايتي عندما ولدتني أمي فى العهد البائد أيام الملك فاروق الأول والأخير ، ويحكى كبار السن من عائلتي أنني على عكس كل المواليد خرجت إلى الحياة وأنا أضحك إلا أنه كانت تنتابني فى بعض الأوقات حالات سرحان وتوهان لم يستطع أحد تفسير سببها ، أو الوصول إلى علاج لها . وفى طفولتي الأولى تناهى إلى سمعي عبارات لم أدرك وقتها معانيها مثل الإنجليز والاحتلال والملك الفاسد ، وبدت لي هذه الكلمات مثل الطلاسم والأحاجي إلا أنني أدركت فى ذات الوقت أنها كلمات تنبئ عن أمور خطيرة غاية فى الأهمية، ثم عرفت بعد أن شببت عن الطوق أننا نخضع للاحتلال الإنجليزي إلا أنه بالرغم من هذا الاحتلال فإننا كنا نعيش فى عزة وشموخ. ولما كان أبي موظفاً متوسط الحال، فقد ألحقني بإحدى المدارس الحكومية القريبة من بيتنا ، وفى مدرستي الأولى تعلمت الكثير، وأتقنت القراءة ، وبرعت فى العديد من المهارات التى اكتسبتها من خلال مجموعة من المدرسين العباقرة الذين تركوا أثراً عميقاً فى حياتي ، وأذكر من ضمن ما أذكر أنني انكببت، وأنا فى الصف الثالث الإبتدائى على قراءة مؤلفات طه حسين، والعقاد، وأحمد أمين، وتوفيق الحكيم، وحفظت أجزاء من القرآن الكريم ، كما أنني أدمنت قراءة روايات الجيب التى كانت تترجم أشهر الروايات العالمية ، وفى هذه الفترة من حياتي كان أبي يصطحبني فى بعض الأحيان إلى المسارح ،ودور السينما ، لأشاهد يوسف وهبي ، وحسين رياض ، ونجيب الريحاني، وغيرهم. وكان مما حدث فى حياتي آنذاك أنني خرجت مع بعض التلاميذ فى مظاهرة وطنية حيث انضممنا إلى طلبة الجامعة، وأخذنا نهتف «نموت نموت وتحيا مصر» ، وكان من أغرب الأشياء أنني عندما عدت إلى بيتي بعد هذه المظاهرة لاحظت ازدياد طولي بشكل لافت، وانتبهت أمي إلى أن قامتي انتصبت كعمود النور الشامخ ، وفى بداية حرب فلسطين عام 1948 لاحظ جميع أفراد الأسرة ازدياد طولي واعتدال قامتي، وكأنني مسلة مصرية شاهقة، وعندما حدث ما حدث واحتلت عصابات اليهود أرض فلسطين العربية تنبه أبي إلى أن طولي تناقص بعض بوصات ،وأن قامتي مالت للانحناء قليلاً ، وسرعان ما عادت الأمور إلى ما كانت عليه من اعتدال القامة ،وازدياد الطول، عندما سمعت أن الفدائيين المصريين يكبدون الإنجليز خسائر فادحة فى القنال ، ولا تسألوني عن الذى حدث لي عندما قامت الثورة فى يوليو 1952 إذ كان يُخيَّل للبعض من فرط طولي أنني أستطيع ملامسة النجوم فى السماء ، وزاد على ذلك أن طالت رقبتي وأبيض وجهي بشكل غير مسبوق . وفى عهد ثورة يوليو عشت أنا وأخوتي أحلاماً سعيدة وشهدت انتصارات مجيدة، ولأنه لا شيء يكتمل عادت قامتي لتتناقص بضع بوصات ولتنحني إلى الأمام وكأنني سأنكفئ على وجهي ، إذ تحولت مصر في عهد الثورة إلى معتقل وأُهدرت حقوق الإنسان وكانت الطامة الكبرى يوم أن لحقت بنا هزيمة منكرة من اليهود عام 1967 تلك الهزيمة التى أطلقنا عليها نكسة من باب تخفيف المصيبة على أنفسنا ، فكنا نسمع وقتها عبارات السياسيين الذين يقولون نحن لم نهزم قط ولكننا انتكسنا فقط ، وبعد أن ازداد انحنائي عادت قامتي لتنتصب من جديد بعد حرب أكتوبر 1973 ، إلا أنه والحق يقال تفاقمت حالتي الصحية وأصابتني هزات مرضية حتى أنني كنت عندما أسير فى الطريق يعتقد البعض أنني خرجت لتوي من حلقة ذكر ، أو من صالة رقص ذلك أن جسمي بشكل غير إرادي كان يتجه بانحناءة إلى الأمام ثم يعود للخلف سريعاً ، ومع معاهدة كامب ديفيد أصابني مرض آخر هو «سلس البول» فبغير إرادتي كنت أبول على نفسي مما يسبب لي إحراجاً وسط أقراني وبين جيراني ، وقد حار الأطباء فى علاج هذا المرض ولم يستطع أحد الوصول إلى علته فأصبحت «معلولاً بعلة ليس لها علة» وقد حاول أحد الخبثاء تفسير هذا المرض تفسيراً سياسياً فقال إن عهد السادات عهد «انفتاح» وهو يؤدى حقاً إلى انفتاح الأشياء المغلقة أو الضيقة وأنه بسبب الاستغراق فى الانفتاح انفتحت كل المجارى والقنوات بما فيها قنواتي الجسدية ، ولأنني أصبحت بشكل مستمر «أطول وأقصر وأعتدل وانحنى» فقد أصابني الهزال والسرحان كما لاحظ البعض من أهلي أنني فى بعض الأحيان تصيبني حالة من البلاهة، فأضحك فى موضع البكاء وأبكي فى موضع الضحك. أما في عهد مبارك المخلوع الذي دام أكثر مما يجب ومما ينبغي ومما لا يجوز فقد ازدادت أمراضي بمرض جديد ، فمع اعتدالي وانحنائي أصبحت أهز وسطى هزاً متوالياً وكأنني ألعب لعبة الهيلا هوب ، وقد قلدني مجموعة من الشباب فى هذه الهزة وسموها هزة «توشكا» وقال بعض العالمين ببواطن الأمور إن زلزال 1992 صبغ نفسه على حياة المصريين فأصبحت حياتهم عبارة عن هزات وزلازل وأن ما ينقصهم هو البراكين ، إلا أن مبارك صنع لنا ما يشبه البراكين ذلك أنه جعل حياتنا محاطة بسلسلة من الحرائق المتوالية كحرائق القطارات وقصور الثقافة وشركات البترول، وفى الحقيقة فإنني أختلف مع من يدعي أن عصر مبارك كان عهد زلازل – رغم أن الزلازل التي وقعت في عهده لم يحدث مثلها فى تاريخ مصر!! – وقد تقول لي يا سيدي : إذن أي عصر كان هو ؟ ساعتها سأقول لك بالفم المليان إن عصره كان عصر الانحناء والانكفاء ، فإذا كنت أنا المواطن أبو يكح الجوسقي مصاباً بداء الانحناء والهز فلست بدعاً فى ذلك ولست مبتدعاً لذاك ، ولكنني أنظر فأجد كل شيء يقلدني فى الانحناء والهز ، وإذا كان الهز والانحناء قد أصابني فإنه قد أصاب أيضاً العديد من الكُتّاب المصريين الذين استمرءوا الانحناء والهز ، كما أصاب الاقتصاد والتعليم والصحة والثقافة ، وانتشر هذا الوباء حتى أصاب الكثير من الجماعات والأحزاب شفاهم الله من هذا المرض العضال. نسيت أن أذكر لكم أنني لم أتزوج حتى الآن وشقيقاتي أيضا مر عليهن قطار الزواج وهن ينظرن إليه في أسف ، كما أنني عاطل لم أستطع الحصول على عمل حتى الآن واضطررت للعيش في فترة من حياتي في إحدى المقابر ثم قررت أن أهجر المقابر بسبب مزاحمة الأموات لنا فيها وذهبت إلى حارة درب المهابيل العامرة واشتريت بمدخراتي ومن بعض إرثي عشا يصلح للسكن غير الآدمي وينطبق عليه قول الشاعر القديم وهو يصدح بالغناء ( عش العصفورة يكفينا ) . وأخيرا انتهى حكم مبارك بعد أن قامت الثورة المصرية العظيمة فانتهت جميع مشاكلي الصحية وزاد طولي زيادة كبيرة حتى لفت هذا الطول نظر العالم كله إلا أنه بعد أحداث متتالية من الثورة وبدءً من الاستفتاء الدستوري وخلافات الثوار وتحكمات المجلس العسكري والصفقات التحتية وصولا إلى انتخابات الرئاسة التي فاز فيها رئيسنا الجديد معالي عناية قداسة فخامة الدكتور اللواء الأستاذ محمد باشا مرسي قمت بإطلاق لحيتي وأصبحت خطيبا في مسجد حارة درب المهابيل وقدمت طلب انضمام لجماعة الإخوان بعد تزكية المشير طنطاوي شخصيا لي في هذا الطلب بما له من مكانة عند الجماعة ، ولكن ومع ذلك عاد الانحناء إلى جسدي بصورة رهيبة حتى أصبحت أزحف على الأرض وكأنني من فصيلة الزواحف ، كما أن سلس البول تفاقم معي بشكل مزعج وزاد عليه سلس من نوع أخر لا حيلة لي فى دفعه وقد يضطر هذا السلس أحدكم أن يمسك أنفه عندما يراني في الطريق ، وقد نصحني البعض نصيحة غالية لمواجهة هذا المرض ، وأنا إعمالاً لهذه النصيحة أسألكم أن تبحثوا معي عن «بامبرز» يصلح لحالتي على أن يتم توريده لكل من قام بركوب الثورة المصرية.