وقف الفتى الأسمر صاحب الشعر المُجعد مذهولا أمام أحد القبور؛ مُحملقا فيها بلا وعى واضعا يده النحيفة على رأسه غير مُصدقا غرابة ما رآه مُدَونا على هذا القبر؛ الذى استوقفه أثناء زيارته لقبر والده ووالدته اللذين لاقيا حَتفِهما إثر حريق مروع التهم بيتهم الصغير ذات ليلة داكنة السواد.. ولعله من حسن حظ الفتى الأسمر وشقيقته الكبرى خروجهما للتنزه تلك الليلة وإلا كانا دُفِنا بجانب والديهما ارتفع حاجبا الفتى الأسمر صاحب الجسم النحيل مترا إلى أعلى ! ليخرج وجهه بتعبيرات عفوية تصرخ بالدهشة من كل ناحية، فالفتى الأسمر اعتاد على رؤية عبارة واحدة وحيدة دائمة التكرار على كل مقبرة وهى " هنا يرقد فلان بن فلان " وعلى حين غفلة، استوقفت نظرات الفتى مقبرة فارهة البناء، مزركشة الألوان، فخمة التعمير، مكتوب فوقها "هنا يرقد العجوز الغامض " لم يُحَرِك الفتى ساكنا، ووقف يحملق فى اسم صاحب المقبرة، لعله مخطيء فى قراءة ما رآه!! وأخذت أنفاسه تتزايد بغير انتظام، ودقاته القلبية تعزف أوتارا من الغناء الحائ ؛ الذى لا يعرف هل هو داخل حلم أم هو بقلب الواقع ؟ ! وبعد أن دقت أجراس اليقين أعين الفتى الأسمر، وأكدت له أن مايراه حقيقى، أخذ لسان حاله يتساءل فى إصرار وإلحاح - ماذا ؟ العجوز الغامض !! ماهذا الاسم المُبهَم؟ ورويدا رويدا بدأت الستائر الليلية فى السدول، وحينها شعر الفتى الأسمر بقشعريرة مفاجئة جعلته يرتعد خوفا من هول مساء تلك الليلة الغريبة، وذلك الحدث الأكثر غرابة ! غادر الفتى الهزيل القبور متوجها إلى بيته مُسرعا للاطمئنان على شقيقته الكبرى والوحيدة طرق الفتى الباب، وأنفاسه تكاد تُزهق من شدة الاضطراب، والخوف وكأن شخص ما يلاحقه وهنا علم الفتى الأسمر أن شقيقته الكبرى "ليزا" لم تعد بعد من عملها بأحد الفنادق، فوضع يده فى أحد جيوب معطفه، وإذ به يُخرج مفتاح البيت وإذ به يفتحه سرعان ما دخل الفتى بيته مُغلقا الباب خلفه بكل حزم قائلا وهو مُغمَض العينين، مُستَكين القلب : - الحمد لله، تخلصت من كابوس لامحل له من الإعراب ! راح الفتى يجلس بالقرب من مكتب شقيقته الكبرى "ليزا"، وأخذ دون تركيز يُقَلب فيما هو متواجد أمامه على منضدة المكتب غير المُرَتبة كالعادة فليزا فتاة شاهقة الطول، منكوشة الشعر,غير حسنة الهندام، عاشقة لشيئين لا ثالث لهما قراءة الحوادث وقصها من صفحات الجرائد القديمة وإجادة طبخ البيتزا على الطريقة الإيطالية !! وفجأة، وقعت أعين الفتى الأسمر على واحدة من مُلصقات الحوادث التى تضعها "ليزا" على منضدتها المُشبعه بالمذكرات ، والأقلام ، والصور ، وأوراق الحلوى ؛ التى إلتهمتها "ليزا" وقت تفقدها للحوادث قديمة الأجل مَدَ الفتى صاحب الشعر المُجَعَد يداه النحيفتان للأمساك بأحد هذة المُلصقات، فإذ بها تحمل عنوان مُثير، كتبته الصحيفة بالبنط الأسود العريض الداكن؛ رغبة منها فى جذب حواس القارئ بكل ما أوتت من قوة كتابية مؤثرة !! أخذ الفتى الأسمر ينظر بشغف زائد للسطور التى تقابل عينيه خلال رحلته الاستكشافية لأحداث القصة التى داعب عنوانها المُثير حاسته البصرية بلا تردد فإذا به يقرأ تلك السطور : - على خلفية موسيقية كان يحيا يوسف عبد البارى، كانت الموسيقى بالنسبة له كل شيء ولا شيء سواها ينام على ألحان موسيقية، ويستيقظ على أوتار غنائية، ربما لم يكن يوسف يفعل شيئا سوى سماع الموسيقى لم يكن الرجل من محبى الموسيقى الهادئة، رقيقة الأوتار، فهو من أكثر مدمنى الموسيقى الصاخبة، ولاسيما تلك الموسيقى التى ترطم بلغات أوربية غير واضحة المفهوم للمعظم من أبناء مجتمعه البسيط التقليدى عجب العُجاب فى الأمر أن يوسف عبد البارى لم يكن مُتَعَلِما من الأساس، فهو أمى تعليما وثقافة !! إلا أنه كان عاشقا للموسيقى الصاخبة التى لايفهم رسالتها، ولا يتدبر معناها وذات يوم عاد يوسف من إحدى رحلاته فى عالم الصيد الأكثر مُتعه بالنسبة له من العمل والإنتاج، فالرجل لم يكن عاملا يوما فى حياته ؛ فهو يعيش على تسول زوجته الطعام، والخبز من الجيران الذين يعطونها الوجبات شفقة على حالها البائس، فهى فى نظر الجميع زوجة بغير زوج بالمعنى المعترف به فهو زوج عديم الفائدة .. سكير..لايعمل .. يعيش لمتعته الذاتية وحسب وذات ليلة سمع يوسف أبناءه الثلاثة يقرأون دروسهم الدينية بصوت مرتفع فانتفض متوجها لغرفتهم ليأمرهم بإخفاض صوتهم اللعين، فالموسيقى الصاخبة لا تحلو مادام هناك أصوات بجانبها ، وأن كانت أصوات أبنائه الصغار وأثناء اقترابه من غرفة أبنائه الثلاثة، سمعهم يتلون آيات من القرآن الكريم، فزاد غضبه، واستشاط غيظا، وفتح باب غرفتهم مسرعا وصرخ فى وجه الصغار بصوته الجهورى قائلا : - توقفوا عما ترتلونه أيها الملاعين الصغار .. ألا ترونى استمع لأرقى فنون الكلام ؟؟ توقف الأطفال عن ترتيل وقراءة القرآن، وجلسوا يرتعدون خوفا من وجه أبيهم العبوس، وصوته الجهورى تكرر هذا الموقف عدة مرات داخل كيان هذه الأسرة المكونة من خمسة أفراد، أربعة منهم يعشقون كلام الله وتدبر آياته، وشخص واحد لايعترف بوجود الأديان كلها، وينظر إلى الأديان على أنها بدعة وأن الموت خرافة ولا يستحق كل هذا التخوف من لقائه عاشت تلك الأسرة فى اضطراب وتفكك لا تُحسد عليه، فالأب وحده بغرفته يشرب أكوابا من الخمر ويعربد ليلا ونهارا على خلفية موسيقته الأوربية الصاخبة التى لايعى ماذا تقول؟ ! وبعد أن كَبُر الأبناء الثلاثة ، وصل أبيهم لسن الهرم ولاتزال إعتقاداته كماهى ولايزال كلما حدثه شخص عن وجود الله والإعتراف بالموت ، زاد فى عناده الأبدى دائما كان يوسف يكرر لأبنائه أنهم ليسوا أوفياء له وأنه لو كان لديه ثروة كبيرة لكتبها باسم كلبه "ريكس" المرافق له فى أى مكان قائلا لهم بصوت تملئه موجات غاضبة : - ريكس أكثر وفاء لى من زوجتى، وأبنائى، وهو يشاركنى كل شيء حتى شُرب الخمر .. فمن منكم يشاركنى أى شيء؟؟ وذات ليلة ممطرة خرج يوسف وأخذ برفقته كلبه المخلص ريكس، وحينها حاولت الزوجة والأبناء منعه من الخروج؛ ناظرين لعمره فهو كهل مُسن، والى مرضه فهو مُصاب بمرض القلب الدامى لم يُنصت إليهم يوسف مُتجاهلا توسلاتهم وبكاءهم خرج يوسف متحديا أبناءه وزوجته.. ضاربا بالاعتراف بالموت عرض الحائط .. كارها لكل الأشخاص والكائنات فيما عدا ريكس الذى ظن أن لديه حنانا يغمره عند الحاجه إليه أكثر من أقرب الناس له ! توجه يوسف بجواره ريكس إلى العيش وسط القبور؛ مُعلنا رغبته فى رؤية ذلك الشخص الوهمى المعروف فى دنيا أبنائه وزوجته بالموت احتلت الدهشة ملامح وجوه زوار القبور متسائلين عن ماهية هذا الشخص وسبب تواجده للعيش هناك وهو على قيد الحياة قائلين : - إنه لشخص مجنون لامحالة ! ذات يوم أفاق ريكس جائعا، ووسط معيشة القبور والتربة والأجواء المُربكة لم يجد أمامه سوى مالكه ورفيقه "يوسف " رحل يوسف عن عالم الأحياء الذى ظن أنه لم يرحل يوما عنه متحديا ذلك بتوجهه للعيش وسط القبور المفزعة مات الرجل العجوز على يد ريكس رفيق دربه الوحيد !! الذى أعطاه الأمان أكثر من أبنائه فلذة كبده ودمه تنهد الفتى الأسمر تنهيدة ارتياح مصحوبة بدمعة حائرة فى عيونه، سرعان ماسقطت على نهاية أحداث القصة، لتنسج فى ذهنه خيوطا متماسكة تربط بين ما رآه على المقبرة وماقرأه بالصحيفة.