لست ناقدا سينمائيا؛ لكني أعرف جيّدا تلك الأفلام التي هزّتني أو أبكتني أو أضحكتني أو جعلتني أفكّر طويلا.. أعرفها وأحتفظ بها جميعا في الحافظة الزرقاء العتيقة التي تمزّقت أطرافها، وسوف أدعوك لتشاهدها معي لكنها أثمن من أن أقرضها! معظم هذه الأفلام قديم مجهول أو لا يُعرض الآن، لكنها تجارب ساحرة يكره المرء ألا يعرفها مَن يحب. بما أن أزمة السولار تجتاح البلاد، فقد خطر لي عنوان هذا الفيلم لمجرد تداعي المعاني، وخطر لي أن الصفحة ستُغري كثيرين من سائقي اللوري بالدخول.. "الجاز" هنا طبعا هو إيقاع الجاز وليس الكيروسين. رأيت هذا الفيلم الرائع في برنامج نادي السينما، وبالطبع كان هناك قصّاص أثر مهم أمشي وراءه وأعرف منه أين أضع قدمي؛ هذا الرجل هو الناقد سامي السلاموني الذي رأى الفيلم في مهرجان كان فلم يستطِع أن يكتم صرخات الانبهار به.. بالطبع قدّم نادي السينما نسخة مهذّبة جدا من الفيلم؛ لأن جُرعة العُري فيه زائدة نوعا ما، وهو قرار حكيم جدا لأنه لم يحرمنا من مشاهدة هذا العمل العظيم.. في رأيي أن الحذف العاقل الذي يعرف ما يفعله قد يكون هو الحل الأمثل لأعمال رائعة؛ لكن فيها أجزاء لا تصح مشاهدتها أو قراءتها للجميع، وهذا هو الحل مع ألف ليلة وليلة مثلا.. يمكن أن تكون هناك نسخة مهذّبة هي التي تدخل بيتك، وفي الوقت نفسه يستطيع الدارسون الحصول على النسخة الكاملة. بوب فوسي مخرج عبقري اشْتُهر بأفلامه الاستعراضية الجميلة لسامي الساموني تجربة مماثلة عندما قدّم مدير الرقابة المثقف حمدي الزقزوق عرضا خاصا للنقاد لتحفة برتولوشي "القمر"، وكان السؤال الذي سأله حمدي الزقزوق هو: هل أعرض هذا الفيلم فعلا؟ كان سؤالا مصيريا؛ لأن الفيلم الجميل المتقن يدور حول علاقة بين أم وابنها! وكان رأي سامي السلاموني هو منع العرض أصلا.. اقترح نقاد آخرون الحذف بكثرة وإفراط وهو ما حدث فعلا. نعود لموضوعنا.. بوب فوسي مخرج عبقري اشْتُهر بأفلامه الاستعراضية الجميلة، لكن تلك الحياة الصاخبة وفرط التدخين أديا إلى أن يعتل قلبه.. خطر له عام 1979 أن يقدّم هذا الفيلم عن مخرج استعراضات في برودواي يحاول مراوغة الموت.. لكنه يفشل بالطبع. السيناريو كتبه مع كاتب السيناريو روبرت آلان أرثر.. سوف ترى بصمات شديدة الوضوح من هذا الفيلم في عمل يوسف شاهين العبقري "حدوتة مصرية" برغم أن القصة تحمل اسم "يوسف إدريس". جيديون الذي يقوم ببطولته الفنان روي شيدر -بطل فيلم "الفك المفترس"- مخرج استعراضات يعشق عمله لدرجة الإدمان.. هنا نعرف روتين حياته من خلال لقطات سريعة: موسيقى فيفالدي في الكاسيت.. القطرة في العين.. قرص الأسبيرين الفوّار.. الدوش والسيجارة في فمه.. ثم الوقفة أمام المرآة: هذا هو وقت الاستعراض يا جماعة.. هنا نكتشف أن المونتاج بطل مهم جدا من أبطال الفيلم، بل هو البطل الرئيس فعلا. شاهد هذا التتابع الساحر هنا إضغط لمشاهدة الفيديو: طيلة الفيلم هناك حوار مستمرّ مع فتاة بارعة الحسن تلبس كالعروس؛ هي جسيكا لانج التي تلعب دور الموت.. الموت الذي جاء ليصحب جيديون معه لكنه يماطل.. هناك تداخل مع استعراض كوميدي لرجل يحاول الفرار من الموت، ويقترح عليه أن يأخذ أمه العجوز بدلا منه.. هنا نسمع مرارا مراحل تعامل المحتضرين مع الموت: 1- الغضب 2- الإنكار 3- المساومة 4- الاكتئاب 5- الإذعان ونرى الحياة التي يحياها جيديون من التدخين والخمر والصخب والإجهاد العصبي والتوتر، ونعرف كذلك أنه يعبث كثيرا.. ليس مخلصا لزوجته جدا. شاهد البروفة وانتقاء الراقصين الذين يريدون بطولة العرض في هذا المشهد الممتع، مع أغنية جميلة لبنسون إضغط لمشاهدة الفيديو: هكذا نعرف شبكة العلاقات.. زوجته.. ابنته.. عشيقته.. المنتجين.. المخرج المنافس.. الفنان بن فيرين الذي يظهر هنا كصديق له.. مشاكل الإنتاج.. بعض العروض تفشل وبعضها ينجح.. ثم تأتي النوبة القلبية الأولى في مشهد أستاذي يصعب أن تنساه إضغط لمشاهدة الفيديو: إنهم يجلسون حول منضدة القراءة لمراجعة البروفات، وفجأة يشعر بذلك الألم الممض.. هنا يصمت العالم كله.. لا نسمع سوى صوت أنفاسه وصوت حذائه على الأرض.. وجوه تضحك.. ناس توجه له الكلام.. لا يعي أي شيء.. يهشّم القلم الرصاص بين أنامله من شدة الألم لكنه لا يريد أن يعترف بالمرض.. هذا مشهد خالد في تاريخ السينما.. عندما يعترف جيديون في النهاية بأنه سقيم، تكون كارثة على المنتج.. معنى هذا خسارة مالية هائلة، وفي مشهد ذكي نرى جدل المنتج وقلق الزوجة على المسرحية، بينما نرى مشهد تمزيق قلب جيديون وشرايينه التاجية بمبضع الجراح.. المعنى واضح طبعا.. إن جيديون يفيق في عالم من الهلاوس الكاملة، لدرجة أنه يرى نفسه يخرج العرض ويسأل نفسه عن رأيه "عند 2:10"! ومن ضمن الهلاوس نرى ابنته في استعراض طويل تقول له إنه سوف يفتقدها عندما يموت.. شاهد هذه الأغنية هنا إضغط لمشاهدة الفيديو: جيديون يرفض المرض.. يمارس ذات حياة الصخب في المستشفى.. رقص وغناء وخمر وفتيات.. لا يصدق أنه عاجز.. وفي كل مرة يقترب أكثر من حضن الموت.. وأخيرا تأتي النهاية المحتومة.. يفر من غرفته ليركض في المستشفى خائفا مذعورا.. وهنا تبلغ عبقرية بوب فوسي ذروتها عندما يقدّم الاستعراض الأخير.. استعراض الموت. هنا نرى الزوجة والعشيقة والأصدقاء وأطباء المستشفى كلهم في مسرح واحد، والطبيب ينظر لساعته في قلق، وعلى المسرح يبدأ الاستعراض الضخم بين روي شيدر وبن فيرين.. والجو كله عضوي طبي؛ حيث الديكور يشبه الضلوع، والراقصات يتحركن كأنهن شرايين حية تنبض أو أجنة.. وتبدأ أغنية: الوداع يا حياتي.. الوداع يا سعادتي.. مرحبا بالوحدة.. أشعر أنني أستطيع الموت الآن! وفي النهاية ينفصل روي شيدر وحده ليمضي في نفق طويل.. في نهايته ينتظر الموت.. الفتاة الحسناء التي تفتح له ذراعيها لينام للأبد. وجهه فيه راحة لكن نظرة مذعورة أخيرة تتبدّى في عينيه.. وأخيرا نرى جثته توضع في الثلاجة، مع أغنية تقول: ليس هناك ما هو أروع من مهنة الاستعراض.. شاهد الاستعراض الأخير الرائع هنا إضغط لمشاهدة الفيديو: انتصر الموت في النهاية كالعادة، وكما انتصر في فيلم "الختم السابع" لبيرجمان، لكن ما قتل جيديون بالفعل هو نهمه الشديد إلى الحياة، وعجزه التام عن قبول فكرة المرض.. هذا هو الفيلم الرائع لبوب فوس.. المخرج الذي حوّل نوبته القلبية ودنو الموت منه إلى عمل استعراضي يدير الرءوس.. حصد الفيلم الكثير من الجوائز؛ منها أربع جوائز أوسكار: أفضل إخراج فني - أفضل تصميم ثياب - أفضل مونتاج - أفضل موسيقى.. ونصيحتي هي ألا تفوّت فرصة مشاهدة هذا الفيلم متى أُتيحت لك.