لست ناقدًا سينمائيًا؛ لكني أعرف جيدًا تلك الأفلام التي هزّتني أو أبكتني أو أضحكتني أو جعلتني أفكّر طويلاً... أعرفها وأحتفظ بها جميعًا في الحافظة الزرقاء العتيقة التي تمزّقت أطرافها، وسوف أدعوك لتشاهدها معي لكنها أثمن من أن أقرضها! معظم هذه الأفلام قديم مجهول أو لا يُعرض الآن، لكنها تجارب ساحرة يكره المرء ألا يعرفها من يحب. أتيكا.. أتيكا!! قد ينسى الناس تفاصيل هذا الفيلم، لكن مشهد آل باتشينو وهو يصرخ في الجماهير "أتيكا.. أتيكا" محفور في الأذهان.. هذا هو المشهد الأيقوني الخاص في الفيلم، كمشهد هجوم الهليوكوبتر في "سفر الرؤية الآن"، وقطيع الأغنام في "العصور الحديثة"، ومباراة الكرة بلا كرة في "تكبير"، ولقاء محطة القطار في "رجل وامرأة"، ويدي أبي سويلم تتشبثان بالتراب في "الأرض".
اعتدنا أن نقرأ الترجمة لاسم هذا الفيلم "كلب بعد الظهر"، وهي ترجمة غريبة طبعًا.. الترجمة الأصوب هي "بعد ظهر يوم حار". "أيام الكلاب" في الإنجليزية هي أيام الصيف الأكثر حرًّا ورطوبة. هناك متلازمة نفسية يعرفها أطباء النفس اسمها "متلازمة ستوكهولم"، وتحدث عندما يقوم بعض الخاطفين بالسيطرة على مكان ما.. عندما يُدرك الرهائن أن المعتدين مهذّبون يُعاملونهم جيّدًا، فإنهم يُحبّونهم ويدافعون عنهم. هذه التيمة النفسية عُولجت في أعمال مصرية كثيرة؛ مثل: "الإرهاب والكباب"، و"نهر الخوف". عكس ذلك أن يقع الخاطفون في حُب الرهائن، ويطلق على هذا اسم "متلازمة ليما". في هذا الفيلم الجميل نرى خليطًا إنسانيًّا جميلاً مِن ليما وستوكهولم. قليلة هي الأفلام التي تعج بالمشاعر الإنسانية والدفء والسخرية، برغم أنها تعالج موضوعًا عنيفًا مثل سرقة مصرف، لهذا تميّز هذا الفيلم بشكل واضح، خاصة مع الأداء العبقري لوجه شاب وسيم جديد على الشاشة اسمه آل باتشينو، ومجموعة مذهلة مِن الممثلين قامت بأداء أدوار موظفات المصرف ورجال الشرطة والجمهور... إلخ.. مع تحريك متقن لكل التفاصيل يقوم به مخرج يعرفه الجميع هو سيدني لوميت الذي حفظ الناس اسمه بعد فيلم "اثنا عشر رجلاً غاضبًا" الذي سنقابله الأسبوع القادم إن شاء الله.
المخرج سيدني لوميت حفظ الناس اسمه بعد فيلم "اثنا عشر رجلاً غاضبًا" كان الناس قد عرفوا آل باتشينو مِن فيلم "الأب الروحي" قبل هذا، وعرفوا أنه بارع، لكنه كان محاطًا بوحوش تمثيل مِن عيّنة: مارلون براندو، وروبرت دوفال، وجيمس كان، لكن هذا الفيلم أعطاه الفرصة الكاملة ليُخرج كل ما لديه. أداء رائع يتأرجح بين الارتباك والعصبية والجنون والرقة، وهو على حافة الانهيار العصبي النهائي.. في النهاية نحن نعرف يقينًا أنه لا يستطيع أن يقتل دجاجة.. وفي مشهد ذكي نراه نائمًا، بينما واحدة مِن الرهائن تتسلّى ببندقيته الآلية؛ لتتعلَّم كيف تُؤدّي التحية كما في الجيش. يظهر في الفيلم كذلك جون كازال، وهو ممثّل آخر مِن أصل إيطالي ظهر في فيلم "الأب الروحي" في دور الأخ طيب القلب ضعيف الشخصية؛ أي أن الفيلم يضمّ اثنين مِن أبناء الأب الروحي. الفيلم الذي عُرِض عام 1975 ينتمي لنوعية الأفلام التي يطلقون عليها "عملية سطو فاشلة" (Heist Gone wrong). ومن أشهر أفلام هذه النوعية "كلاب المستودع". هناك عملية سطو يقوم بها ذلك الشاب عديم الخبرة "سوني" وصاحبه "سال". عملية السطو هذه قد حدث مثلها في الواقع منذ عامين في بروكلين، والفيلم يعتمد على مقال عن الحادث كتبه ب. ف. كلوج ومور.
شاهد الجزء الافتتاحي هنا إضغط لمشاهدة الفيديو: المصرف يعجّ بالموظفات المذعورات، ورئيسهن المسن، والحارس الأسود المصاب بالربو. يكتشف سوني أنه نحس أكثر مما توقّع؛ فالمصرف خالٍ من المال.. كل ما نجح فيه هو أن كل شرطة الولاية تحاصر المصرف. لقد تحوّل الموقف بسرعة البرق إلى "موقف رهائن" من الذي يراه في التليفزيون. بالواقع يتحوّل الموقف إلى سيرك؛ فالناس كلها تحاصر المصرف، وقوات السوات المخيفة مستعدّة لقتل أية ذبابة تحوم.. قنّاصة فوق الأسطح وطائرات هليوكوبتر في كل مكان. التليفزيون ووسائل الإعلام كلها هنا.. مدير الشرطة يُحاول التفاهم معهم، ويزجر رجاله الذين يتوقّون لإطلاق الرصاص في أية لحظة. يخرج سوني للتفاوض تحت حماية صديقه بداخل المصرف، وهو يُعلن منذ البداية أنه لا يثق في رجال الشرطة.. سوف يدوخونهما إلى أن يطلقوا الرصاص عليهما في مجزرة شبيهة بمجزرة سجن أتيكا، التي حصد فيها رجال الشرطة الأمريكية الجميع بمن فيهم الرهائن.. ويصرخ أمام الكاميرات والجماهير: أتيكا.. أتيكا! فيُصفّق الناس.. لقد تحوّل إلى نجم إعلامي..
يمكنك أن ترى هذا المشهد الرائع هنا
إضغط لمشاهدة الفيديو: عندما يطلب بيتزا للرهائن -في مشهد يُذكّرك جدًا بفيلم "الإرهاب والكباب"- فإن صبي البيتزا يُقدّم له الوجبة، ويتمنّى لهما التوفيق، فما إن يجد الصبي نفسه وحده حتى يلقي بالكاسكت أرضًا، ويرقص صارخًا: أنا ممثّل مذهل! هكذا تتقدّم خطوط السرد بين علاقة الشابين بموظفات المصرف، اللاتي يتعاطفن معهما كلية، ومدير المصرف المريض بالسكري الذي يأبى بشدّة أن يُغادر المصرف للعلاج ويترك البنات وحدهن. تفاصيل صغيرة جدًا مثل حاجة البنات لدخول دورة المياه مما يُشكّل كارثة بالنسبة لسوني الذي تلفت أعصابه أصلاً. ومفاوضات سوني للحصول على طائرة هليوكوبتر تحملهما خارج البلاد، والجنون الذي يحكم المجتمع الأمريكي بالكامل، والدافع العجيب لعملية السطو هذه (وهذا جزء لن أستطيع الكلام عنه هنا). إن باتشينو يرتب أن تأخذهما الطائرة لبلد بعيد.. ربما الجزائر.. يسأل زميله في السطو عن بلد أجنبي يرغب في أن يعيش فيه، فيردّ: - "وايومنج!". فهو لا يعرف أن وايومنج في أمريكا..
شاهد هذا المشهد هنا إضغط لمشاهدة الفيديو: في النهاية يُوافق رجال الشرطة على أن تنقلهما سيارة مع الرهائن إلى المطار.. هنا يجب أن أتوقّف وأترك لك أن ترى ما حدث بعدها.. لكن النهاية قاسية وأليمة فعلاً. الفيلم ممتع ويبقى معك لفترة طويلة، وقد رُشّح لعدد كبير مِن جوائز الأوسكار، لكنه لم يحصل إلا على أوسكار أفضل سيناريو أصلي. كما قلنا يُمكنك بسهولة أن تشمّ رائحة هذا الفيلم في أعمال تالية عديدة، ولدينا فيلم "نهر الخوف" الذي يوشك أن يكون نسخة أخرى منه، وإن صار المصرف أتوبيسًا نهريًا، كما أنه قريب جدًا مِن فيلم "الإرهاب والكباب". أما أهم ما قام به الفيلم فهو أنه حدّد المكانة الراسخة لممثّل شاب واسع العينين حاد النظرات مِن أصل إيطالي اسمه آل باتشينو.