عمرو الجارحي أميناً للخطة والموازنة بحزب الجبهة الوطنية    وزير التموين يؤكد أهمية تطوير منافذ «العامة لتجارة الجملة» لضمان استدامة الإمدادات    وزير السياحة يطلق منصة إلكترونية مجانية لتدريب العاملين.. ومبادرة لاحتواء غير المتخصصين بالقطاع    محافظ أسوان يتابع جهود رصف الطرق للحد من الحوادث    ارتفاع المؤشر الرئيسى للبورصة بنسبة 1.3% ليغلق أعلى مستوى عند 34500 نقطة    رئيس اقتصادية قناة السويس يستقبل وفدا صينيا لبحث التعاون المشترك    زعيما تايلاند وكمبوديا يلتقيان في ماليزيا    المغرب.. إخماد حريق بواحة نخيل في إقليم زاكورة    حماس: خطة الاحتلال بشأن الإنزال الجوي إدارة للتجويع لا لإنهائه وتمثل جريمة حرب    المستشار الألماني يجري مجددا اتصالا هاتفيا مع نتنياهو ويطالب بوقف إطلاق النار في غزة    قوات الاحتلال الإسرائيلي تقتحم قرية جنوب نابلس.. وتطلق قنابل صوت تجاه الفلسطينيين    النصر السعودي يحسم صفقة نجم تشيلسي    مباراة الأهلي والزمالك فى الجولة التاسعة من الموسم الجديد للدوري    6 مباريات خارج القاهرة.. تعرف على مشوار الأهلي في بطولة الدوري    تحديد موعد مباراتي المنتخب ضد إثيوبيا وبوركينا فاسو    بورسعيد تودع "السمعة" أشهر مشجعي النادي المصري في جنازة مهيبة.. فيديو    جنايات الإسكندرية تُصدر حكم الإعدام بحق محامي المعمورة بعد إدانته بقتل 3 أشخاص    درجات الحرارة تزيد على 45.. توقعات حالة الطقس غدا الاثنين 28 يوليو 2025 في مصر    "تعليم أسوان" يعلن قائمة أوائل الدبلومات الفنية.. صور    الداخلية تضبط 254 قضية مخدرات فى القاهرة والجيزة    بسبب هزار مع طفل.. تفاصيل الاعتداء على شاب بسلاح أبيض في بولاق الدكرور    تاجيل محاكمه ام يحيى المصري و8 آخرين ب "الخليه العنقوديه بداعش" لسماع أقوال الشهود    أحمد جمال يروج لحفله وخطيبته فرح الموجي: لأول مرة يجمعنا مهرجان واحد    نجوى كرم تتألق في حفلها بإسطنبول.. وتستعد لمهرجان قرطاج الدولي    «فتح»: غزة بلا ملاذ آمن.. الاحتلال يقصف كل مكان والضحية الشعب الفلسطيني    وزير الثقافة ومحافظ الإسكندرية يفتتحان الدورة العاشرة لمعرض الإسكندرية للكتاب.. غدًا    الثلاثاء.. سهرة غنائية لريهام عبدالحكيم وشباب الموسيقى العربية باستاد الإسكندرية الدولي    رانيا فريد شوقي تحيي ذكرى والدها: الأب الحنين ما بيروحش بيفضل جوه الروح    وزير الصحة يعتمد حركة مديري ووكلاء مديريات الشئون الصحية بالمحافظات لعام 2025    7 عادات صباحية تُسرّع فقدان الوزن    قبل كوكا.. ماذا قدم لاعبو الأهلي في الدوري التركي؟    بمشاركة 4 جامعات.. انطلاق مؤتمر "اختر كليتك" بالبحيرة - صور    بعد عودتها.. تعرف على أسعار أكبر سيارة تقدمها "ساوايست" في مصر    داليا مصطفى تدعم وفاء عامر: "يا جبل ما يهزك ريح"    الدكتور أسامة قابيل: دعاء النبي في الحر تربية إيمانية تذكّرنا بالآخرة    أمين الفتوى: النذر لا يسقط ويجب الوفاء به متى تيسر الحال أو تُخرَج كفارته    "دفاع النواب": حركة الداخلية ضخت دماء جديدة لمواكبة التحديات    بالصور- معاون محافظ أسوان يتابع تجهيزات مقار لجان انتخابات مجلس الشيوخ    15.6 مليون خدمة.. ماذا قدمت حملة "100 يوم صحة" حتى الآن؟    وزير البترول يبحث خطط IPIC لصناعة المواسير لزيادة استثماراتها في مصر    مجلس جامعة بني سويف ينظم ممراً شرفياً لاستقبال الدكتور منصور حسن    لمروره بأزمة نفسيه.. انتحار سائق سرفيس شنقًا في الفيوم    تنسيق الجامعات 2025، تعرف على أهم التخصصات الدراسية بجامعة مصر للمعلوماتية الأهلية    «مصر تستحق» «الوطنية للانتخابات» تحث الناخبين على التصويت فى انتخابات الشيوخ    المكتب الإعلامي الحكومي بغزة: القطاع يحتاج إلى 600 شاحنة إغاثية يوميا    وزير التموين يفتتح سوق "اليوم الواحد" بمنطقة الجمالية    تفاصيل تشاجر 12 شخصا بسبب شقة فى السلام    وزارة الصحة توجة نصائح هامة للمواطنين بالتزامن مع ارتفاع درجات الحرارة    جواو فيليكس يقترب من الانتقال إلى النصر السعودي    مصر تنتصر ل«نون النسوة».. نائبات مصر تحت قبة البرلمان وحضور رقابي وتشريعي.. تمثيل نسائي واسع في مواقع قيادية    ريم أحمد: شخصية «هدى» ما زالت تلاحقني.. وصورة الطفلة تعطل انطلاقتي الفنية| خاص    بدعم من شيطان العرب .."حميدتي" يشكل حكومة موازية ومجلسا رئاسيا غربي السودان    إصابة 11 شخصا في حادثة طعن بولاية ميشيجان الأمريكية    وزير الأوقاف: الحشيش حرام كحرمة الخمر.. والإدعاء بحِلِّه تضليل وفتح لأبواب الانحراف    بعد فتوى الحشيش.. سعاد صالح: أتعرض لحرب قذرة.. والشجرة المثمرة تُقذف بالحجارة    «الحشيش مش حرام؟».. دار الإفتاء تكشف تضليل المروجين!    "سنلتقي مجددًًا".. وسام أبوعلي يوجه رسالة مفاجئة لجمهور الأهلي    الأمم المتحدة: العام الماضي وفاة 39 ألف طفل في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بلفور .. قصة قصيرة .. الأجزاء 1، 2، 3
نشر في شموس يوم 29 - 07 - 2013

" مستر بلفور هل نفهم من ذلك أنك تود التقدم ببلاغ عن اختفاء زوجتك ؟! "
" لا .. بل أود أن أطلب منكم مساعدتي في العثور على جثتها !"
هب مفتش الشرطة واقفا وهتف باستنكار :
" هل تعتقد أن زوجتك ميتة .. هل أنت تعتقد أنها قًتلت ؟! "
فابتسم مستر بلفور وأجاب دون ظهور أي انزعاج على وجهه :
" نعم أنا على ثقة من أنها ميتة الآن في مكان ما ! "
" هل تتهم أحدا بقتلها .. كيف تكون متأكدا من وفاتها ؟! "
فاتسعت ابتسامة مستر " بلفور " ورد بثقة :
" أنا متأكد من وفاتها .. لأنني يا سيدي قمت بقتلها بنفسي .. المشكلة فقط أنني لم أعد أعرف أين يمكن أن تكون الجثة الآن .. ولم يعد بإمكاني العثور عليها ثانية ! "
حدق مفتش الشرطة منكود الحظ في وجه المبلغ غريب الأطوار .. وقد أدرك حقيقة الأمر بسرعة .. إنه في حضرة مخبول خطير !
..........................................
ولكن لم يكن هناك بد من السير في الإجراءات المعتادة .. تم حجز مستر " بلفور " في المخفر وجري معه تحقيق طويل بغية التوصل لحقيقة الأمر .. إنه يدعي إنه قتل زوجته لذلك كان من الواجب إجراء تحقيق دقيق جدا .. يلي ذلك القيام بالخطوة الأهم .. تفتيش المنزل والعثور على وسيلة إثبات تدين الرجل وتؤيد اعترافه .. ولا يوجد دليل أهم من جثة زوجته المدعاة !
ولكن أي تحقيق مع معتوه ؟!
لقد فشل المحقق المتمرس مستر " ستانديل " في التوصل إلى أية معلومة مفيدة من هذا المخبول الذي كان يردد نفس الجملة دون توقف ودون أي توضيح :
" لقد قتلت زوجتي بنفسي .. لكنني لم أعد أعرف أين ذهبت جثتها ! "
حتى ضج منه " ستانديل " فتنحي عن المتابعة واضطرت الشرطة للاستعانة بطبيب نفسي يدعي " لوكرون " ، لم يكن حظه أفضل من حظ المحقق الأول ، وفي النهاية وجدت الشرطة نفسها مضطرة للاستعانة بواحد من أكبر محققي جرائم القتل في البلاد كلها وهو " موس " ..
" جريش موس " الذي كان لطريقة استجوابه الفريدة المهلكة لأعصاب اعتي المجرمين في الدفع بسفاح النساء الضاري " وليم روبسارت " إلى الانهيار والاعتراف بكل ما اقترفته يداه .. وجاء " موس " وجلس لمدة خمسة وثلاثين دقيقة على إنفراد في غرفة التحقيق برفقة مستر " بلفور " فشل خلالها في الحصول على أي معلومة مفيدة منه أو معرفة حقيقة الأمر .. ثم خرج المحقق الكبير من الغرفة وهو يزفر ضيقا ومللا وهتف في سخط في وجه " ستانديل " :
" دعنا من مسألة الاستجواب مؤقتا .. لنفتش المنزل ونعثر على أدلة تدينه بقتل زوجته ثم نعاود استجوابه ! "
وبالفعل تم تشكيل قوة تحركت إلى منزل السيد " بلفور " مصطحبة إياه معها .. ووصلت القوة إلى الحي الهادئ المنعزل الذي يقع فيه منزل الرجل لتفاجئ بشيء غريب .. إن منزل الرجل من الخارج يدل على ثراء مبالغ فيه وثروة مكينة تقدر بالملايين ربما ، لكن المفاجأة الأكبر كانت تنتظرهم بالداخل .. كان المنزل بالداخل كتلة من الفوضى العارمة .. ففي المدخل المطلي بلون ذهبي يخطف الأبصار كانت هناك أعقاب سجائر ملقاة على الأرض حول المكان بطريقة شوهت منظره وأفسدت رقة ألوان الطلاء والأثاث الراقي الفخم ..
وبمجرد عبور المدخل أصابت قوة الشرطة صدمة هائلة إذ كانت تنتظرهم على منضدة ضخمة مفاجأة مرعبة .. جثة فتاة !
فقد كانت هناك منضدة تتوسط قاعة لامعة براقة في وسط المنزل ، بعد المدخل مباشرة ، وفوقها تتمدد جثة لفتاة يافعة .. أصاب الرعب رجال الشرطة الذين لم يتوقعوا شيء كهذا أصلا !
نظر رجال الشرطة بحذر إلى السيد " بلفور " وسأله أحدهم وهو يدنوا من الجثة الساكنة فوق المنضدة بصمت :
" أليست هذه زوجتك يا مستر " بلفور " ! "
ابتسم " بلفور " وأجاب بسخرية غير مبررة :
" لا بالطبع .. ليست زوجتي ولا زوجة أي رجل آخر ! "
نظر له أقرب رجال الشرطة إلى المنضدة ثم أقترب أكثر ناظرا بعمق إلى وجه الجثة المثير للشفقة .. كانت فتاة في بداية العشرينيات ، جميلة للغاية وذات ملامح بالغة الرقة والأناقة ، بيضاء ذات ملامح قوقازية لا تخطئها العين ، ولها جسد ممشوق طويل متناسق يتلفع بملاءة سرير متسخة ممزقة الأطراف ، ولا أثر لوجود ثياب عليها .. تملي رجل الشرطة قليلا في ملامحها الجميلة الناضرة ، رغم الموت ، بأسي ، ثم نظر لبلفور الواقف أمامه وقال له رغما عنها :
" أيها الوغد اللعين .. من تلك الفتاة المسكينة ؟! "
فر عليه رئيس قوة الشرطة وأكبر الضباط رتبة وسنا بحزن وغيظ :
" لابد إنها أحدي ضحاياه .. يبدو أنه ليست زوجته فقط التي قتلها ! "
عند سماعه لهذه الكلمات أنطلق مستر " بلفور " يضحك ، كان يضحك كالمجنون وعلت ضحكاته الساخرة اللامبالية بشكل سبب غيظا دفينا لرجال الشرطة الواقفين حوله .. فجأة هدأ " بلفور " وبدأ يخطو متوجها نحو موضع المنضدة .. كان بعضهم على وشك منعه عندما نظر لهم كبيرهم بنظرة آمرة تعني بوضوح : " دعوه "
فتركوه يتقدم .. وعندما أصبح على قيد خطوات من موضع الجثة ابتسم " بلفور " بجزل ومد يده بحركة فجائية وأمسك بيد رجل الشرطة القريب منها ، توتر الباقون لتلك الحركة وكادوا يستلون أسلحتهم ، ولكن الرجل لم يقم بأية بادرة خطرة بل أكتفي بإمساك يد رجل الشرطة ووضعها على وجه الجثة ، أرتعش الضابط لتلك الحركة ولكنه تماسك بينما مضي " بلفور " يمرر يد رجل الشرطة على وجه الجثة ثم على رقبتها وذراعيها وهو يكرر بنوع من الفخر الغريب :
" أنظر إلي وجهها أليست فائقة الجمال ؟! تحسس جلدها أليس ناعما نضرا كأنه جلد وليد خرج لتوه إلى النور .. ألم أبدع في خلقها ؟! "
هتف الرجل المخبول ثم بدأ يضحك ثانية وقال من بين ضحكاته :
" لابد وأنك حزين على ما جري لتلك الفتاة الفاتنة .. لكن لا تحزن كثيرا فهي لا تستحق ! "
بغيظ نظر رجال الشرطة لذلك المجرد من معاني الرحمة واللياقة ، بل وتمني بعضهم أن يخلي بينهم وبينه ليطلقوا النار على رأسه ويريحوا المجتمع من تلك النماذج المريضة ، لكن بدا على النموذج المريض أنه لا يبالي أصل بتلك النظرات بل أنه أقدم فورا على عمل يؤكد خباله المنقطع النظير .. فقد أستل سكينا من درج بالمنضدة الراقدة عليها الجثة ، وطبعا تصرف رجال الشرطة المحيطين به واستلوا أسحلتهم فورا ووجهوها إليه وصرخوا فيه آمرين إياه بإلقاء السكين من يده ، لكنه كان أسرع منهم فامسك بالسكين بإحكام ووجه ضربة قاصمة لذراع الجثة الظاهر من الغطاء المحيط بها فأنفصل الذراع عن الجثة فورا .. انهالت اللعنات من الرجال على " بلفور " وغطي أقرب الرجال إليه وجهه تحسبا لطرطشة الدم على وجهه .. ولكن الغريب إنه لم تسقط نقطة دم واحدة من موضع الذراع المبتور ... لكن الأغرب أن انفصال الذراع أدي لظهور الحشوة الداخلية للجثة .. وكانت من القطن !
نظر رجال الشرطة غير مصدقين وهتف أحدهم بذعر :
" أيها المسيح .. ماذا يكون ذلك الشيء ؟! "
ابتسم " بلفور " بسعادة بالغة وقال بفخر شديد :
" أنها ليست جثة حقيقية بل هي نموذج من صنعي .. أنا أصنع أفضل نماذج بشرية في الكون .. يوجد في هذا البيت خمسة آلاف نموذج من تلك النوعية وكلها لزوجتي الحبيبة .. وتلك هي المشكلة ! "
نظر رجال الشرطة لبعضهم في فزع وقد بدأوا يفهمون مشكلة هذا الرجل المختل بينما واصل " بلفور " كلامه متحدثا بهدوء وكأنه يتحدث عن البحث عن صابونه الحمام الخاصة به :
" لقد قتلت زوجتي ولكنها فيما يبدو لم تمت .. لكنها هنا الآن وتتخفي وسط تلك النماذج الجميلة .. نماذجي الجميلة ! إنها تعتقد أنني لن أستطيع العثور عليها وسطهم .. لكنها واهمة ! لذلك طلبت مساعدتكم للعثور عليها .. من فضلكم ساعدوني في إيجادها حتى لا أضطر لتحطيم كل نماذجي الجميلة من أجل ذلك ! "
...................................
كان موقفا مثيرا للعجب ذلك الذي مر به رجال شرطة المدينة في ذلك النهار الصافي .. في منزل مخبول يصنع نماذج بشرية فريدة من نوعها ، وكلها تحمل ذات الشكل وذات الملامح ، تتخفي وسطها ، كما يدعي ، زوجته الحقيقية مختبئة منه خشية أن يقتلها ، أو لعلها ماتت فعلا وملقاة في أي موضع من ذلك البيت العجيب .. وهم رجال الشرطة ، ومنفذو القانون الصارمين ، مطلوب منهم أن يساعدوا ذلك الشيء المختل في العثور على جثة زوجته أو عليها حية إن أمكن .. ولكن هناك عشرات الأسئلة المهمة لم تسئل بعد وهي التي ستحدد نهاية تلك اللعبة السخيفة :
" مستر " بلفور " هل بوسعك أن تخبرنا كيف حاولت قتل زوجتك ؟! "
بدا للحظة على " بلفور " إنه لم يفهم السؤال ، أو ربما كان يتغابي متعمدا ، ولكنه أجاب في النهاية ببرود :
" لقد طعنتها في بطنها بسكين مطبخ ! "
بصق أحد رجال الشرطة بقوة ليظهر له اشمئزازه منه ولكن مستر " بلفور " أكمل دون أدني تأثر بتلك الإهانة الواضحة :
" ميتة تقليدية جدا .. أليس كذلك ؟! لكنها لم تمت في النهاية فيما يبدو ! "
عاد رجل الشرطة يسأله مكذبا :
" كيف تدعي أنك طعنتها في بطنها بسكين ومع ذلك تقول أنها لم تمت وتتخفي وسط نماذجك .. لابد أنها ملقاة جثة هامدة هنا أو هناك ! "
ابتسم " بلفور " مستهينا وهتف بهدوء :
" لم تكن الطعنة نافذة كما تتخيل .. بل كانت مجرد مزحة عابرة ! "
" مزحة عابرة بسكين مطبخ ؟! "
سأل أحد رجال القوة من بين أسنانه فرد " بلفور " ببرود :
" نعم مزحة .. يبدو إنها كانت تعتقد إنني انوي قتلها فهربت من وجهي بعد أن طعنتها بالسكين .. ناديتها مرارا طالبا منها العودة لأنظف لها جرحها وأضمده لكنها لم تستجب .. أعتقد أنها صدقت إنني أريد إيذائها أو لعلي بالغت في مزاحي قليلا ! "
" مزاح سخيف يدل على أنك مجرد مختل ! "
سمع " بلفور " العبارة ببروده المعتاد فلم يعلق بل اتسعت ابتسامته أكثر ومضي أمام عدد من رجال الشرطة صاعدين إلى الدور الأعلى من المنزل ليفتشوه بحثا عن زوجته أو جثتها المفقودة .. في الحقيقة كان رجال الشرطة لا يهتمون كثيرا بأيهما سوف يتم العثور عليه ..المهم أن يعثروا على أي شيء ينهي هذه المهمة السخيفة !
.................................
" حبيبي " توبي " هل انتهيت ؟! "
سألت السيدة الرقيقة الجميلة ذات الثمانية والعشرين ، السيدة " بلفور " ، موجهة سؤالها لزوجها القابع على الأرض في ورشته خلف منزلهما الفخم ، كان السيد " توبياس بلفور " الزوج معتكفا في ورشته وعاكفا على صنع نموذج جديد من نماذجه البشرية المكررة .. لم يكن المستر " بلفور " يعمل ، لم يكن في حاجة إلى العمل أصلا ، فهي ثري جدا ومن سلالة توارثت الثراء والغني الفاحش منذ يوم نزوح جدهم الأكبر " جوناثان بلفور " من ( رامس جيت ) إلى العالم الجديد مباشرة حاملا معه عقليته التجارية البارعة وحبه المجنون للفنون ، ذلك الحب المشبوب الذي توارثته عائلته وأحفاده على مدي أجيالا طويلة .. لكن مهما كانت درجة الولع بالفن في عائلة " بلفور " قوية إلا أن أحدا من أفراد العائلة لم يصل لتلك الدرجة من الهوس إلى وصل إليها " توبياس بلفور " .. فقد جن جنون " توبياس " الصغير حينما زار حديقة مزينة بالتوباري ( فن تجميل الحدائق ) في أحدي رحلات الأسرة الترفيهية ، فأصابه ما يشبه الصدمة السعيدة التي غيرت مسار حياته للأبد .. أولع بالفن وجماله ثم جرب مواهبه الدفينة فإذ به فنان لا يشق له غبار في الرسم ونحات بارع ومصمم ومنفذ نماذج مبهر بحق ، مبهر لدرجة أن الفتي المراهق قرر أن يدخل الجامعة ليدرس الفن ، ولم يمانع الوالدين .. ولكن بعدها بدأ يترك كل شيء ويفرغ نفسه لصنع النماذج .. نماذج حيوانية وبشرية تنطق بالروعة والجمال والفن الأصيلة .. كل ذلك وقع قبل أن يلتقي " توبياس " بزوجته " جيسيكا " ، فقد تغير فجأة وحول مساره بطريقة تدعوا للدهشة .. ترك الرسم والنحت وصنع النماذج المختلفة وتوفر فقط على صنع نماذج لحبيبته فقط .. ولذلك لم يكن من المستغرب أنه ، ومنذ يوم أن وقع في حبها ، وحتى تزوجها ومضت تسع سنوات على زواجهما كان عدد النماذج التي صنعها لجيسيكا قد بلغ خمسة آلاف نموذج بالتمام والكمال !
جنون وعته هذا ..لكن أية امرأة في الكون تعترض على عشق زوجها لها حتى وإن كان عشقا مبالغا فيه كثيرا !
وعلي ذلك ولأنه ليس لديه ما يشغله ، وزوجه المتيمة به لا تعي مدي الخطر الذي ينزلق إليه لا تبالي ، فإن مستر " بلفور " استمر بصنع نماذجه الجميلة المكررة حتى صار عددها بالآلاف ومع كل نموذج جديد يصنعه لها كان ولعه وعشقه لزوجته يزيد وتزيد معها درجة خطورته !
فلم يكن إذن من المستغرب أن يقدم على طعنها بسكين لمجرد أنه رأي صورة شبيهة لها بلباس البحر على أحد الشواطئ برفقة شاب وسيم في مجلة صفراء .. لقد حاولت أن تقنعه أنها ليست هي من بالصورة ، وأقسمت له بكل المقدسات وغير المقدسات دون جدوى ، فقد كانت غيرته نوع من عشق التملك المجنون ، ووسط توسلاتها وتأكيداتها على إخلاصها ووفائها لها فاجأها بطعنة سكين في بطنها .. لم يكن يرغب في قتلها في الحقيقة بل كان فقد يود تأديبها وتحذيرها من الإقدام على خيانته .. لكنها ماتت فيما يبدو !
الطعنة كانت نافذة أكثر مما يجب لذلك لم تتحملها " جيسيكا " وسقطت أرضا قاطعة النفس أمامه .. جن جنونه وتحير وفكر في إخفاء الجثة فذهب لإحضار كيس بلاستيكي لوضعها فيه ، لم يفكر بخباله حتى في استدعاء الطبيب لإنقاذ ما يمكن إنقاذه .. لكنها عندما عاد إلى حيث سجي جسدها البارد لم يجدها !
لابد أنها لم تمت بل تظاهرت بذلك .. وحينما غادرها هرولت لتختبئ منه في أنحاء البيت الشاسعة !
" لقد ظللت تسع ساعات كاملة وأنا أبحث عنها وأناديها دون جدوى ! "
" تسع ساعات ؟! لابد أنها لفظت أنفاسها وترقد الآن ميتة في مكان ما أيها الأحمق المعتوه ! "
لم يظهر على " بلفور " أي تأثر بالإهانة بل رد بثقة :
" لا لم تمت ! لو ماتت لكنت قد عثرت عليها هنا أو هناك .. أنا أعرف أنها لا زالت حية لكنها تختبئ وسط النماذج معتقدة أنني سأجهز عليها الحمقاء ! "
" هي الحمقاء يا مستر " بلفور " ؟! "
سأل أحد رجال الشرطة مستنكراً في غيظ ثم تبع الركب إلى أعلي .. بحثا عن تلك المرأة الميتة أو النموذج الحي لها أيهما أقرب أيها المحظوظ !
.......................................
ذات ليلة دار بين " توبياس بلفور " وزوجته " جيسيكا " حوار قصير لا معني لكنه يحمل دلالات مخيفة :
" حبيبي " توبياس " هناك شخص ما على الهاتف يطلبك ! "
قالت " جيسيكا " وهي تداعب شعر زوجها المنحني على نموذج جديد لها يصنعها برقة .. فقطب الزوج وسألها مستنكرا :
" شخص ما .. من هو ؟! "
فأجابت " جيسيكا " بسرعة :
" لا أعرفه يا عزيزي .. قال اسما بصوت منخفض أعتقد أنه " بيرت " أو " بيرتا " ربما ! "
" أهو رجل أم امرأة ؟! "
ابتسمت الزوجة وهتفت ساخرة :
" يصعب تحديد ذلك ! فصوته الرفيع يجعله قابلا للتشكل في أية صورة حتى في صورتي أنا ! "
لم يضحك " توبياس " وإنما ترك أدواته التي كان يعبث بها وهب واقفا وأمسك بكتفي زوجه وقال لها بغل مكبوت :
" أليس " برت " هذا هو اسم صديقك السابق ؟! "
بهتت " جيسيكا " من الدهشة وهتفت متعجبة :
" ألا زلت تذكر هذا الأمر يا عزيزي .. لقد مضي عشر سنوات على آخر مرة رأيت فيها وجه " بيرت " ! "
لم يسعد " توبياس " لسماع تلك الحقيقة التي يعرفها جيدا بل أغمقت ملامحه وقال لزوجته من بين أسنانه بصوت مخيف :
" من الخير لك أن يكون ذلك صحيحا .. تماما ! "
ترك " توبياس " زوجته واقفة شاحبة وأتجه نحو حجرة الاستقبال ، حيث يوجد الهاتف الثابت ، وتناول السماعة ووضعها على أذنه للحظات وأخذ يردد بصبر :
" نعم .. نعم .. هنا " توبياس بلفور " من هناك ؟! "
.. ولسوء الحظ لم يكن هناك أية إجابة على نداءاته المتكررة .. فلم يكن هناك سوي نقيق مزعج متصل !
تصبر الزوج للحظات حتى صار مؤكدا أن تلك المكالمة لم تكن سوي معابثة سمجة .. أو كذبة أكثر سماجة !
وضع " توبياس " السماعة في مكانها .. ثم ألتفت ببطء نحو زوجته الواقفة عند الجدار صامتة تماما .. نظر لها بضع لحظات بصمت ، ثم ابتسم ابتسامة مخيفة وهتف قائلا لها بصوت ثلجي مخيف :
" يبدو يا عزيزتي أن ذكري صديقك السابق تراودك كثيرا هذه الأيام ! "
صمتت " جيسيكا " تماما ولم تجب .. بل ابتلعت ريقها بصعوبة ودق قلبها خوفا وريبة !
.........................................
الطابق الأول لم يكن يقل فخامة وجمالا عن الطابق الأرضي .. نفس الأثاث الفخيم والذوق الراقي المعدني الطابع .. لكن كان هناك شيء غريب ها هنا .. فبالإضافة إلى اللمعان المؤذي للعينين كان تصميم المكان نفسه غريبا للغاية .. فلم يكن هناك أبواب حجرات أو مرافق عادية ، بل كانت هناك أبواب ضخمة مصقولة ، تدل على أن خلفها ، غالبا ، قاعات كبيرة متسعة .. الأغرب أن كافة أبواب تلك القاعات كانت مواربة مما يدل على أن هذا المخبول لا يخشي السرقة .. وطبعا لم يكن هناك أثر للخدم هنا كذلك .. أين ذهب الخدم ؟!
أيعقل أن بيت بهذا الضخامة ، لرجل بكل هذا الثراء الفاحش ، بلا خدم !
انفصلت قوة الشرطة ، التي لم يكن قوامها يتعدي الستة أشخاص ، وذهب كل فرد ليستكشف جزء ما من تلك المتاهة .. أقصد بيت " توبياس بلفور " العجيب !
وكان أول من تحرك مبتعدا هو " وينفري " ضابط الشرطة الحديث الصغير السن الأسمر .. تحرك بشجاعة ، ولكن بتردد ، نحو أحد أبواب القاعات المعدنية اللامعة وهتف لأقرب زميل بجواره وهو " جيم " قائلا :
" سأتفقد تلك الحجرة يا " جيمي " .. هل يمكنك تفقد تلك التي في الناحية الأخرى ! "
هز " جيم " رأسه موافقا ثم نظر بتردد للناحية الأخرى وهتف متراجعا :
" لم لا نبقي معا يا " وينفري " .. لنتفقد القاعة الأولي معا ثم سأصطحبك لتفتيش الثانية "
هز " وينفري " رأسه وضحك قائلا :
" نحن هنا في منزل " بلفور " ومنزل " بلفور " ليس منزل ماما " جاجا " ! "
ابتسم " جيم " بدوره وأجاب وقد فهمها بذكاء :
" قلعة الكونت دراكولا ! "
ابتسم كلاهما للحظة قبل أن يحدث شيء غير محبب .. أنقطع التيار الكهربي فجأة وغرق المنزل في ظلام حالك مخيف !
أبتلع " وينفري " ريقه بخوف ومد يده يتحسس ما بجواره حتى اصطدمت بكتف " جيم " وهتف فيه بصوت مذعور :
" ماذا حدث ؟! "
أجاب " جيم على الفور :
" لقد أنقطع التيار الكهربي ! "
عاد " وينفري " يسأل بخوف متزايد :
" لماذا غرق المنزل في كل هذا الظلام .. إننا لا نزال في الظهيرة ! "
وأشفع " وينفري " تساؤله باتجاهه نحو رأس السلم ليتفقد من في الأسفل وهتف مناديا :
" هل الجميع بخير هناك ؟! "
ولكن لم يأتيه أي رد .. فصرخ " جيم " بفزع :
" لنهبط ونتأكد مما يحدث بأنفسنا .. اللعنة أليس لدي هذا الثري المخبول مولد كهربائي لتلك الحالات الطارئة ! "
وهنا وفجأة كذلك عاد التيار الكهربي .. وشهق الشرطيان بفزع عندما وجدا امرأة واقفة أمامهما ..
كانت امرأة شقراء بالغة الجمال لكنها شاحبة شحوب الموت .. كانت تقف وهي ترتعش وبيدها تضغط على جرح عميق في بطنها تتناثر منه الدماء وتسيل على يديها وعلى ملابسها .. هتفت لهما بتوسل :
" ساعدوني .. أرجوكم ساعدوني ! "
فرد " وينفري " الذي لم يفق من صدمة رؤيتها المباغتة بعد :
" السيدة " بلفور " .. " جيسكيا " ؟! "
فأشارت لهما برأسها بنعم .. ثم سقطت على الأرض مغشي عليها .. صرخ " جيم " بصوته الجهوري منبها من بالأسفل :
" لقد عثرنا عليها .. إنها هنا ! "
وهنا أنقطع التيار الكهربي مرة أخري فأصابه رعب شديد لكنه أطمأن لسماعه أصوات أقدام مسرعة تصعد السلم .. بعد دقيقة وصل عند الضابطين بقية الرفاق من زملائهما ومعهم السيد " بلفور " حاملا كشافا بالغ السطوع وقال بلهفة :
" أين هي .. أين هي ؟! "
فأشار لهم " وينفري " نحو الأسفل وأجاب بسرعة :
" هنا .. فوق الأرض لقد سقطت مغشي عليها ! "
بسرعة وجه " بلفور " كشافه إلى أسفل وأخذ يمسح الأرضية كلها من أقصي اليمين وحتى أقصي اليسار بلهفة شديدة .. ولكن لم يكن هناك أي شيء على الأرضية اللامعة !
سأل قائد القوة بانزعاج وغضب :
" أين هي ؟! "
فأجاب " جيم " برعب :
" كانت هنا ... اللعنة لقد رأينها بأعيننا .. رأينها بأعيننا قبل أن ينقطع التيار الكهربي .. أليس كذلك يا " وينفري " ! "
لم يجب " وينفري " بينما ارتسمت نظرة غامضة غريبة في عيني السيد " بلفور " وسأل بمنتهي الهدوء :
" كيف كانت تبدو ؟! "
فأجاب " جيم " على الفور :
" شقراء وجميلة وشاحبة وتنزف دما بغزارة ! "
اتسعت ابتسامة " بلفور " ورد بمنتهي الهدوء :
" حاول مرة أخري يا سيدي الضابط .. زوجتي ليست شقراء على الإطلاق ! "
................................


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.