المخلفات الطبية الخطرة تجاور غرف المرضى فى المعهد القومى للأورام، حيث يفد المرضى إليه من كل فج عميق، ليتداووا من أقسى الأمراض وأعنفها، وهو «السرطان»، يسكن المرض اللعين أروقة المعهد، يعشش فيه، يتشبث بنوافذه، بأستاره، بقمامته، بكل شيء، يصرخ، ينفعل، يصب جام غضبه، على الأطباء والموظفين والعمال، وكأنه ينتقم منهم، لأنهم يساعدون مرضاه فى التعافى منه. يقف السرطان داخل معهد الأورام، كمجنون طائش يحمل رشاشا، يريد أن يفتك بكل من يتجرأ ويقدم دواء شافيا منه، فيقتحم أجسادهم، ليحول حياتهم إلى موت بطئ،أو ينقلهم سريعا إلى الدار الآخرة، فى سعادة وسرور، وكأنه حقق انتصارا غاليا. فى السنوات الأخيرة، ولأسباب عديدة، نجح «اللعين» فى تنفيذ مخططه، فأصاب العشرات من الأطباء والموظفين والعمال، وفيما قد يتمكن الأطباء، وفقا لظروفهم الاجتماعية والمادية، من علاج أنفسهم، قبل استفحال المرض فى أجسادهم، فإن العمال والموظفين، والذين لا يتقاضون سوى الملاليم رغم مهمتهم الانتحارية، يستسلمون للمرض، فينهى حياتهم فى خضوع واستسلام لافتين! نحن الآن.. نقف داخل المعهد.. رائحة الموت حاضرة بقوة، يكسو ملامح المرضى بؤس وحزن، هم محقون لا شك فى ذلك، وللوهلة الأولى، وعلى غير بعيد من غرف المرضى، تحتشد النفايات الطبية الخطرة، فى مشهد لا يحدث إلا فى الدول المتأخرة. قال لنا العاملون بالمعهد: المخلفات الطبية، ومنها نفايات مشعة، يجمعها عمال المعهد دون أى نوع من عوامل الحماية لهم، ثم يضعونها فى أكياس كبيرة وتترك فى طرقات وممرات المعهد لفترات طويلة، غير بعيد من المرضى والأطفال حتى يتم نقلها أمام باب مخزن المخلفات ليأتى أحد «الزبالين» ويحملها خارج المعهد، لتكون مصدر تهديد له ولغيره بالإصابة بالمرض. وسط هذا الجو المشحون بالمرض، وفى ظل غياب وسائل الأمان فى قسمى الباثولوجى والتخدير، أصيب عدد من الأطباء بالسرطان، وهم: الدكتورة «ف .ح»– بقسم الباثولوجى- أصيبت 4 مرات بأمراض السرطان، وتم علاجها بالتدخل الجراحى والكيماوى فى بداية انتشار المرض، والدكتورة «س. ع»، و الدكتور «م .ا»، و فى قسم التخدير أصيبت الدكتورة «و. ط»- وكيل المعهد وتم علاجها-. لكن يظل العامل والموظف الإدارى بالمعهد هو الأسوأ حظا، حيث أصيب العديد من الموظفين بالسرطان نتيجة تعرضهم للإشعاعات الخطرة، ومنهم من يتم علاجه، ومن فارق الحياة، ومن يتكتم خبر إصابته خشية أن يخسر عمله نهائيا، لا سيما أن كثيرا منهم من المؤقتين ويتطلعون إلى التعيين، ويخشون أن يتم إبعادهم لو علمت إدارة المعهد بخبر إصابتهم! وتضم قائمة المصابين: سكرتيرة بمكتب وكيل المعهد، حيث أصابها سرطان المخ ويتم علاجها بقصر العينى فى حالة حرجة، وعاملة فى وحدة الوقاية والاكتشاف المبكر، وموظف فى عيادة الجراحة وسكرتير بقسم الآشعة التشخيصية، وغيرهم. وهناك موظفون استسلموا للمرض فقضى عليهم، من بينهم: سكرتيرة مكتب مدير المعهد، وسكرتيرة الشئون الصحية، وموظف حسابات بالموازنة. اللافت أن جدران المعهد المغطاة بالرخام تعتريها تشققات، لا تخطئها العين، ويتردد بين العاملين أن السبب هو الإشعاعات المتسربة من الأجهزة التى لا تحظى بأى إجراءات حمائية، مثل: جهاز الطب النووى، فضلا عن أن كثيرا من هذه النوعية من الأجهزة يتم إصلاحه وسط المرضى والموظفين، بالمخالفة لأبسط الإجراءات المتعارف عليها. وتبدو معامل الآشعة فى «حال رثة»، فهى لا تليق باسم المركز القومى للأورام، فيما يفترش المرض الأرض غير بعيد منها فى مشهد عبثى، وكأن إدارة المعهد تستكثر عليهم الحياة. فى معمل آشعة الطب النووى مثلا، يُشترط على من يدخله عدم التعامل مع الأطفال والحوامل لمدة 48 ساعة ورغم ذلك توجد استراحة ملاصقة به، يتكدس بها العشرات من المرضى، سواء ممن يطلبون خدمة الطب النووى أو للاستراحة لانتظار دورهم فى مكان آخر. نفس الشئ ينطبق على معملى الآشعة التشخيصية «c.t» والآشعة المقطعية، حيث لا وجود لأى من عناصر الأمان حولها، أو فى استراحات المرضى الملاصقة لها والمكدسة بالعشرات من المرضى، بحسب أطباء رفضوا الإفصاح عن أسمائهم. من جانبها.. تفسر الدكتورة وفاء طه– وكيل معهد الأورام ومسئول شئون البيئة– تردى الأوضاع داخل المعهد بقولها: إنه تم نقل جميع تجهيزات المبنى القديم ذى ال 12 طابقا إلى مبنى من 6 طوابق فقط، بعدما أصبح الأول آيلا للسقوط، ما أحدث حالة من التكدس داخل المعهد. وأوضحت أن جميع الجدران المحيطة بالأجهزة المشعة تم بناؤها بالرصاص لعدم تسرب الإشعاع لمسافة نصف متر، ويقوم خبراء من الطاقة النووية بقياس نسبة الإشعاع على فترات متباعدة! مضيفة أن نسبة الإصابة بالسرطان داخل المعهد القومى للأورام تتناسب مع نظيرتها بين من هم خارج المعهد، وأن التعامل مع المخلفات الطبية يتم وفقاً لخطورتها، رافضة تحميل المعهد مسئولية إصابة الأطباء والعاملين بالسرطان!. أما الدكتور مجدى صابر– أستاذ طب الأورام بمعهد الأورام- فأقر بإصابة عدد غير قليل من الأطباء والعاملين بالمعهد بالسرطان، بسبب التسرب الإشعاعى وأسباب أخرى، منتقدا عدم توفر جميع إجراءات الحماية بالمعهد. مشيراً إلى أن التسرب الإشعاعى يخترق جدران الطوب، لذلك تم بناء الجدران حول الأجهزة المشعة بالرصاص، لكنها لم تحتمل وتصدعت، ووصف مشاهد القمامة بالمعهد ب»غير الحضارية»، معترفا بخطورتها على من يتعامل معها أو يقترب منها.