عندما تكون أول معرفة لطفل وليد هى الموت.. يركض ويلعب حتى إذا ما اصطدم بأول حائط أمامه تعلم أن يهدأ.. تظلم الدنيا ويهمس الجميع أن أشخاصاً مثلنا أسفل أديم هذه الأرض يسكنون، وأنهم كما سمحوا لنا أن نعيش فوق تربتهم يجب ألا نزعجهم تحتها... هكذا عاشت «أم زهرة» أربعون عاماً مرت من عمرها دفعة واحدة كانت كجرعة سامة لوثت شرايينها، أسمت ابنتها الكبرى «زهرة».. لم تكن تعلم أن الزهرات لا تعشن فى القبور... فى قرية تابعة لمركز العياط تركت عائلتها خلفها، مضت مع زوجها، «التربي» إلى حيث مقبرة «باب النصر» وسكنت معه فى غرفة «الحوش» الذى يعمل به.. بكت كثيراً فى الأيام الأولى، ظلت تبكى حتى أنجبت، وعندها جفت محاجرها وتحول خوفها من الموت إلى خوف على صغارها منه.. عشرة من الأبناء.. عشرة.. لو كان الأمر بيدها لما أنجبت يوماً، لم تفهم ولم تسأل، هى تنجب كما تقوم بذلك قريناتها فى «الأحواش» المجاورة ربما، أو لأن زوجها «الحاج محمد» لا يجب أن يكون أقل من غيره.. عبثاً تمنت ألا تنجب بنتاً، فأنجبت ست بنات، ثم تمنت لهن حياة أفضل من حياتها، وأزواجاً لا يسكنون المقابر، فتزوجت بناتها الست فى أحواش لا تبعد كثيراً عنها.. بلا أمنيات أسندت ظهرها المكدود إلى أحد حوائط «الشواهد»، علاقة مبهمة تكونت على مدار السنوات مع الأموات، كثيراً ما كانت تحكى لهم أسرارها وتبكى أمامهم بآلام لا تسمح لها الدنيا بإظهارها... خشونة فى قدميها وانسداد فى شرايين يديها لم تمنعها من العمل كمساعدة للتربى فى الردم ورش المياه مقابل 02 جنيها فى كل دفنة، تقوم بذلك منذ 21سنة هى عمر إصابة زوجها بجلطة فى قدمه وذراعه منعته تماماً من العمل... ست سنوات مرت وهى تنتقل إلى الغرف الحكومية تطلب شقة لحالة قاسية ولا مجيب... مائة جنيه أخرى تحصل عليها من «الشئون الاجتماعية» لها طعم آخر، جنيهات لم تلوث بالموت، ولم تغرق فى صراخ وبكاء ونشيج موجع قبل أن تأخذها «الله يرحمهم» تردد مع أهل الميت ودموعها تسيل على كل شيء حولها... «هم عايشين تحت واحنا ميتين فوق».. هكذا تعزى الباكين وهى تقصد نفسها.. تلمح أحفادها الصغار بين الجمع يتسائلون يبكيهم الفزع فلا تحتمل المزيد.. تهوى بألم لا يوصف صارخة إلى السماء «كفاية يارب»... بمرور «زهرة» كل صباح ترد إلى العجوز بعض الروح، يتبسم الأب طريح الفراش وتنتشى الذكريات حولهم، رضيعة لم تكمل العامين، وطفلان لم يتجاوز أكبرهما الرابعة هم أولاد «زهرة» من زوجها الذى يعمل «مبيض» وتأثر عمله كثيراً بظروف البلاد.. تتمنى «زهرة» أن يتعلم أبناؤها فى المدارس التى تسمع عنها، وأن يكون لزوجها وظيفة حكومية بدخل ثابت تستطيع أن تنفق منه على صغارها، ومعاش يبقيهم على الحياة من بعده... تنظر إليها والدتها بانكسار من جرب تحطم الأحلام.. تنهيدة تخرج من صدر «زهرة» تحمل أملا لغد... ترى هل تتحقق أمنياتها؟؟