يقول الراوى إن مشهد النسوة الفقيرات المصطفّات أمام المركز الانتخابى (مدرسة ذات أسوار مهدمة تزنِّر مبانى كئيبة ومهملة) بدا له من بعد خطا أسود سميكا وطويلا يتمدد بغير نظام فوق خلفية بائسة متربة تضج بصخب وجلبة طنينية تكاد من فرط قوتها تتكثف وتتجسد وتتمرد على طبيعتها فتتحول من محض أصوات إلى كتلة مادية ملموسة تشغل حيزا معتبرا من الزحام العشوائى فى المكان. صاحبنا يقترب رويدا رويدا من تخوم المشهد، وكلما دنا أكثر أخذت التفاصيل المتشابكة المعجون بعضها فى بعض تتضح وتتميز معالمها أمام ناظريه.. يعنى مثلا، هو الآن بمقدوره أن يلحظ (بعين هاوى الرسم القديم الذى ما زال يعيش ويرقد داخله) أن سواد الأسمال الرثة التى تتدثر بها النسوة المحتشدات فى الطابور، ليس ذاك السواد النقى الأنيق الذى عندما تضرب به الفرشاة على سطح اللوحة ينطق باقى ألوانها ويبين حدودها، وإنما مجرد سواد خجول كالح وربما مُرهَق ومكدود، تماما كما حال الوجوه والأجساد التى يسترها ويلفها. الراوى أضحى فى قلب المشهد، بل تستطيع القول إنه صار غارقا فيه وجزءا من فوضى تفاصيله، ومن ثم بات بإمكانه أن يميز (ببعض الصعوبة) عناصر الضجيج الطنينى المحيط به من كل جانب، فالتقطت أذناه عن دون قصد هذا الحوار الذى لم يتسنَّ له أن يعرف أو يخمن كيف بدأ.. - قلت له: شوف بقى يا شيخ، صلى ع النبى.. بقى أنا يا اخويا مش حاروح الانتخابات وارشح الراجل بتاعك ده غير لما تجيبولى «أنبوبة». - والله جدعة.. أيوه كده صح. - آه طبعا، ما هو زى ما بيقولوا يا اختى، اللى يتكسف من بنت عمه ما يجيبش منها عيال. - وبعدين؟ جاب لك «الأنبوبة»؟ - قعد يلف ويدور ويقول لى: يا أختى دى «قايمة» ومش قايمة، ودول ناس بتوع ربنا لازم نرشحهم عشان ننصر الإسلام، قلت له: باقول لك إيه يا اخويا، الله يكرمك.. أنا الحمد لله مسلمة وموحدة بالله، انصرونى بقى وهاتولى «أنبوبة»، وحاعمل لكم اللى انتو عايزينه واجيلكم الانتخابات أنا والعيال وابوهم وحماتى وكلنا إن شاء الله. - والله جدعة.. وجابهالك بقى فى الآخر؟ - باقول لك قعد يناهدنى ويقول لى جنة ونار و... - أيوه.. قالوا لى كده برضه. أوعى يكونوا ما ادوكيش شكارتين الرز والسكر؟! - ليه؟ وانا عبيطة؟ أخدتهم طبعا وفوقيهم قزازة زيت كمان. - بس قولى لى، جابولك الأنبوبة؟! - الراجل الشيخ بقى عايز يفلفص منى مش عارف، وقعد ياخدنى من هنا لهنا ويقول لى كلام الشيوخ اللى انتى عرفاه ويكلمنى عن الجنة ونعيمها والقصر اللى حيسكّنّى فيه فى الآخرة لما ارشح الناس بتوعه، قلت له باقول لك إيه يا اخويا؟ قال لى:ك إيه؟ قلت له أنا عايزة شقة مطرحين وعفشة مية فى الدنيا بدل الجحر اللى انتا شايفنا مدفونين فيه ده، وابقى يا سيدى اخصمها إن شاء الله من القصر بتاع الآخرة.. بس دلوقتى مش حاتنازل عن الأنبوبة، يا تجيبهالى يا إما مش رايحة انتخابات ولا ديالو. - وجابها لك..؟! - قعد يقول لى: اطلبى أى حاجة تانية، انتى عارفة إن فيه أزمة أنابيب فى البلد، قلت له: أمال يا اخويا حتروحوا المجلس تعملوا إيه لما مش عارفين تجيبوا لى أنبوبة؟ قال: طيب خدى رز وسكر تانى، قلت له: وحاعمل بيهم إيه وانا ماعنديش أنبوبة؟ حاسفّهم أنا والعيال..؟! - يعنى فى الآخر جاب لك الأنبوبة ولا لأ؟ - عيب، أختك مش سهلة، فضلت وراه لغاية لما جابها...