كانت مصر تزوره فى الكوابيس الليلية. استوقفتنى العبارة فى مقال قديم عن غياب الدكتور نصر أبو زيد، صاحب «مفهوم النص» و«نقد العقل الدينى» وبسببهما تعرض لمحكمة تفتيش هددت حياته ودفعته إلى الحياة فى منفى هولندى. خرج نصر أبو زيد من مصر فى يوليو وعاد فى يوليو وعيد ميلاده فى يوليو «إنه شهر خطير ومهم فى العالم العربى كله، شهر ثورات وانقلابات» ضحك وهو يعلق على ملاحظتى فى التليفون وهو يردد الاسم الأسطورى لشهر يوليو «تموز»، الذى يعنى إله الخصوبة عند الإغريق. نصر كان رومانسيا وهو يصف أحواله فى ليل هولندا: «ينهض الوطن بقامته ليتمدد فى كل شرايين الليل بأحلامه وكوابيسه.. الموتى الذين لم يغادروا دورة زماننا، والأحياء الذين فقدوا صلاحيتهم منذ عقود، يلتقون جميعا فى أحلامى وكوابيسى كأننا على موعد. لا أتحدث هنا بالضرورة عن أعلام، فأحلامى وكوابيسى يجتمع فيها الأعلام والعامة، الأساتذة والطلاب، الأعداء والأحباء، الخصوم والأنصار، الرجال والنساء، الكبار والصغار. إنه الوطن بكامله يُصِرُّ على أن يحتل ليلى كاملا، ربما لأننى أحاول أن أقصيه عن نهارى». فى «قحافة» عرف نصر أبو زيد المسؤولية فى سن مبكرة بعد موت الأب، حيث أصبح المسؤول عن العائلة. اكتفى وقتها بنصيب متوسط من التعليم وبدأ فى البحث عن عمل (كانت مطافئ طنطا هى أكثر هذه الأعمال استقرارا). تعرف إلى الإخوان المسلمين وبدأ يخطب الجمعة وظل يعرف هناك حتى وقت قريب باسم «الشيخ نصر». صدمة نصر الأساسية وقتها كانت الجامعة، التى كانت من المفروض أن تدافع عن جوهر وجودها فى المجتمع ولا تترك نصر وحيدا فى مصيدة التكفير. لم ترد الجامعة ولم تحرك ساكنا عندما طالبنا بعودة نصر أبو زيد من «منفاه» الذى أُجبر فيه على أن يكون أقرب إلى «لاجئ ثقافى» طالبنا بإنهاء حال الغربة التى لا يعيشها نصر وحده بل تمتد إلى كثيرين هنا فى مصر يشعرون بالاختناق والمطاردة والمراقبة فى مجتمع يرحب بشطار الفساد وفقهاء التطرف وعباقرة الجهل يجعلهم نجومه، يسدون نوافذه ويمتصون الهواء الذى نتنفسه، وفى المقابل لا يتحمل الرأى المختلف ولا يقبل بالحجر الصغير الذى يحرك البركة الراكدة. كنا نريد أن نتخلص من «فضيحة الصمت» على نفى مثقف بسبب أفكاره ونعيد من جديد أبسط شروط المواطنة وهى الحق فى الحياة وسط أهلك وفى الشوارع التى عرفتها والتحدث باللغة التى تعلمت بها أول الكلام مهما كانت معتقداتك. مصر ليست وطنا لدين واحد أو تيار سياسى واحد أو عائلة واحدة، وليست قبيلة يحكمها فكر واحد وحزب واحد وحقيقة مطلقة لا يعلم سرها إلا الكهنة والحكام. وعلى ما يبدو فإن هذه الحقيقة البسيطة لا يفهمها «كهنة» التيار الإسلامى الذين سألناهم وقتها عن رأيهم فى عودة نصر أبو زيد إلى مصر (وهو قد عاد بعدها وبحماية من تصديق فكرة أن مصر ليست وطنا للمتطرفين) الأذكياء من التيار الإسلامى أعلنوا ترحيبهم بالعودة، لكنهم وضعوا شرط التراجع عن الأفكار. أما الأقل ذكاء فأصروا على أنه يمر بفترة عقوبة تكفّر عن خطاياه، وهم بذلك لا يريدون الاعتراف بأنهم مجرد تيار سياسى وأفكارهم مجرد آراء وتصورات ليست نصوصا مقدسة أو «كتالوجا» من وحى السماء لممارسة الحياة على الأرض، يشعر معه ملايين المؤمنين بالعجز عن التفكير والتأمل فى ما يطرحه بشر عاديون يصعدون الجبل المقدس ويحيطونه بأسوار عالية ليستمتعوا بلذة السلطة وإصدار الأحكام على الآخرين وليوهموا الجميع بأن طريقهم يؤدى فى نهايته إلى الجنة. والكارثة أنه هناك من يحتكر الحق فى التفكير كما احتكر المحظوظون الاستمتاع بأموال البنوك وفرص الصعود الذهبية ليخرج القطاع العريض من المجتمع المصرى خارج التحالف غير المرئى بين الفساد والفاشية الفكرية. فى نفس الأوراق عثرت على تفريغ جلسة هامة كانت دون تسجيل أو صحافة، وتتضمن كلاما هاما بين نصر أبو زيد والدكتور حسن حنفى الذى أتعجب من غياب أفكاره عن اللحظة الراهنة. وهذه حكاية أخرى.