ميدان التحرير هو ميدان التحرير. الموقع الرسمى لمصر الآن على جميع الأصعدة. صفحتها الرئيسية المكتوبة. لا فرق تقريبا فى تفاصيل الديكور أو طبيعة الأزياء أو كاميرات التصوير التى يجرى تحطيمها بنفس الأساليب القمعية القديمة. كل شىء كما هو بالضبط. الشخصيات المشاركة فى صنع الحدث هى نفسها تقريبا، أو حتى من غير تقريبا. القتلة هم القتلة. والقتلى هم القتلى. والأسلحة هى نفسها. القنابل المسيلة للدموع والرصاص الحى والمطاطى والخرطوش. القناصة من أعلى المبانى والتصويب إلى الرأس أو الصدر مباشرة. استخدام عربات الإسعاف -بعد تفريغها من المصابين- فى نقل الزخيرة المحرمة دوليا، فما الذى تغير؟ هل كنا نتوهم عندما تصورنا أن مصر عاشت إحدى أعظم ثورات التاريخ منذ أقل من عام واحد؟ هل تبخرت ثورة 25 يناير التى وقفت الإنسانية كلها على امتداد القارات الست إجلالا لها؟ ومع هذا، فلقد كان لابد أن تأتى لحظات تتساقط فيها الأقنعة، كل أنواع الأقنعة بدون استثناء. قد تتلكأ لحظة تساقط الأقنعة فى المجىء قليلا أو كثيرا. لكنها لابد آخر الأمر أن تأتى. تبدأ الأقنعة فى التساقط تباعا، أو على فترات متقاربة أو متباعدة نسبيا، أو دفعة واحدة، كما لو أن أعدادا كبيرة من المتمرسين فى استهلاك الأقنعة يصابون فجأة بوباء تعرى الملامح. قلما يتمكن أصحاب الأقنعة من إخفاء التشوهات الرهيبة التى تطرأ على الوجوه مع مرور الوقت، كنتيجة لكثرة الأقنعة المستبدلة بلا مبررات منطقية أو لمدى استهلاكها فضائيا أو لكم الاتساخ الذى قد يصيبها من جراء الإصرار على التحرك داخل البيئات المعروفة بارتفاع نسبة التلوث الأخلاقى. الأحذية الضيقة التى تصر عليها السيدات غالبا ما تنتهى بتعريض أقدامهن إلى بعض التشوهات، فما بالنا بأحذية الوجوه؟ قلما يتمكن أصحاب الأقنعة من إخفاء التشوهات الرهيبة التى تطرأ على الوجوه مع مرور الوقت، لمجرد أنها أصبحت موضة قديمة، أو لأن الشخص يبدو تحت تأثيرها كالمسخة أو أشباح الرعب المضحكة فى الكوميديا السوداء. أحيانا -أيضا- يكون السبب هو عدم توافقها مع طبيعة الوجه من حيث نوع التعبير أو حتى مجرد المقاس، أو -ربما- بحثا عما يظنون أنه القناع الأمثل لهذه المرحلة. القناع الذى يمنون النفس بأنه هو اللى حيكسب البريمو. لكن المشكلة ليست بهذه البساطة. ليتها كانت كذلك. النظام البائد عندما انفجر -كالدمل الممتلئ بالصديد- طفحت على جسد الوطن بأكمله سلالة غريبة من الأراجوزات الشرهين إلى السلطة والمال والنفوذ. كيف استطاع الرئيس المجبر على التنحى أن يحتفظ ثلاثين عاما بكل تلك الأراجوزات داخل مخازن النظام؟ أراجوزات بالملابس الرسمية، أو الكاجوال الذى ينم عن الرغبة فى تمثيل دور المتبسط، تقليدا لما جاء فى أحدث كتلوجات إيف سان لوران. فإذا بالنتيجة صورة كاريكاتورية من طبقة النبلاء المنقرضة فى أوربا، كما يقدمونها هناك الآن مع المارتينى المغشوش فى حانات البغاء المرخص. أراجوزات بالآلاف، تتكاثر كأرانب الهندسة الوراثية فى أنابيب الاستنساخ المجهولة النسب. لا أحد يدرى لماذا أو كيف أو متى تسللت إلى الوظائف العليا بالدولة من القمة إلى القاع، لتدير أخطر شئون الوطن ثلاثين عاما أو يزيد، بل إن الموقف يظل أكثر تعقيدا. هؤلاء مازالوا يتصرفون، كما لو أن لديهم توكيلا رسميا موثقا فى مكان سرى ما بأنهم الصف الثانى من سادة مصر، وأن عليهم أن يحكموها بنفس الأساليب التى استخدمها الدكتاتور المجبر على التنحى والطبقة الطفيلية التى توحشت عند قدميه. من يحل مكان حبيب العادلى عليه أن يقمع البشر بنفس أساليبه الإجرامية. بالضبط كما لو أن الاتفاق سيصبح لاغيا من تلقاء نفسه، لو لم يقتل خلفاء العادلى المتظاهرين بنفس الطريقة. كالكوميديا السوداء يبدو المشهد الغريب، كلما عادوا ينتحلون على الملأ شخصيات القادة المحنكين أو رجال البر والإحسان أو الذين ينحدرون من أصول أرستقراطية أو من هم أدرى منا بمصلحتنا، كما لو أن شيئا لم يحدث. لا شىء جرى فى مصر اسمه ثورة 25 يناير. المكياج الثقيل تذيبه الحرارة العالية المنبعثة من كشافات التصوير، فتظهر على حقيقتها الوجوه المبطنة بألياف الكيزوفوستر التى تدخل أيضا فى صناعة خراطيم المطافى. البويات الزاعقة الألوان، فضلا عن مجموعة الإكسسوارات المساعدة الأخرى، كالسيجار أو الشعر المصبوغ أو النظر من طرف العين، كما لو أن الواحد من هؤلاء يبحث عن الكائنات المتناهية فى الصغر التى تتشرف بالاستماع إليه، كاصطناع الأهمية أو القفا الملمع بورنيش البركيه أو الكلام من الأنف أو التظاهر بتدوين الملاحظات أثناء الاستماع أو التباطؤ المتعمد فى نطق الألفاظ. كلها فشلت فى مداراة أن ما نراه أمامنا على المنصة أو من خلال شاشة التليفزيون ليس سوى عصابة الدمى الخشبية التى تحكم مصر الآن. الأيدى التى تحرك خيوطها من وراء الستار لم تعد حريصة على التخفى كما جرت العادة فى الماضى. تلك الأيدى تصدر تعليماتها من خلف القضبان. اللعب أصبح على المكشوف، ولا يوجد من يستطيع أن يدعى أنه لا يعرف. أعترف بأننى كنت مخطئا حين تصورت أن الأصل فى الأراجوز هو أنه من الشعب. يختاره المواطن البسيط، ليسخر بالنيابة عنه من السلطان أو العصابة الطفيلية التى تعيش فى كنفه، ومن فارضى الضرائب أو محتسبى الأسواق أو البصاصين أو باعة الوهم. يختاره المواطن البسيط، ليثأر بالنيابة عنه من العسس أو محترفى التعذيب الساديين أو كدابين الزفة أو مشايخ البلاط المعوقين أخلاقيا، أو الذين ينتقدون السلطان من باب العشم، ليستولوا هم بدلا من مشايخ البلاط على أنجر الفتة، ومن سواقط القيد الذين يتجمعون كالفيروسات فى مواطن الألم. هذا هو الأصل فى الأراجوز، لكن من الواضح أن الدنيا تغيرت. المشكلة أن التأرجز -كالطعاون الأسود- عدواه سريعة الانتشار، وأن المصابين يفقدون نهائيا القدرة على الشعور بالخجل. حتى على الشعور بالخجل. تلك هى إحدى المزايا الضخمة التى تتمتع بها القلوب الخشبية التى تحكم مصر الآن.