أعشق الخريف، وخريف 2011، ليس مثل سالف الأوان، لأنه خريف بمذاق الثورة، وطعم الكرامة، وكل الثمرات المحرمة. أتى الخريف بالكثير من الشمس، والقليل من الدفء. يؤمن الخريف أن الشمس وإن كانت للجميع على المشاع، ودون استثناء، إلا أنا. الدفء يختار من يعرف قيمته، ويشكر نعمته، ويحظى برضاه. أتى الخريف مرتبكا، محتارا. ولأننى أعشق الخريف، فأنا أعرف أسرار حيرته، وارتباكه. يندهش الخريف، متسائلا فى مرارة: أهذا هو الشعب نفسه، الذى صنع الثورة المجيدة ؟ يتأمل الخريف، ملصقات الدعاية السياسية التى غطت حيطان الشوارع.. تزداد مرارته المندهشة: «كيف سمح شعب الثورة المجيدة بتحول الدعاية السياسية إلى دعاية دينية؟ أو كيف سمح باستغلال الدين فى الترويج للمرشحين فى لعبة السياسة؟ وأنا أضم صوتى إلى صوت الخريف، فتتحول التساؤلات إلى صرخات، تشق سحابات النهار، وتخترق عتمة الليل. ولا أحد يسمع. ولا أعتقد أن هناك أملا فى الأفق لكى يسمع أحد. الجميع فى حلبة الصراع.. الجميع فى ساحة العراك.. الجميع يشحذ أسلحة المعركة.. الجميع يبرر الوسائل من أجل الغايات.. الجميع يلبس ثوب الحمل الوديع.. الجميع ينفق الأموال الهائلة للدعاية.. أصبح الوطن كله «موظفا» من قبل «المرشحين» الذين يستبيحون كل الأشياء، وأولها، استخدام الإسلام لكسب الأصوات. إن الزج بالدين فى مناورات السياسة هو أبشع شىء يمكن أن يحدث للوطن. إنه الخطر الأكبر على الوحدة الوطنية، وعلى المواطنة، وعلى الدستور المدنى. وإذا لم يتم القضاء عليه مبكرا، وبحزم نصبح أمام حرب أهلية، وفتن طائفية، وبحور دم، واضطهاد للمرأة، يحصد الأخضر، واليابس. وغير اكتساح المعانى الدينية، فى الدعاية السياسية، يطل علينا شعار يقول: «من أجل مصر». وهو ملصق امتلأت به حيطان الشوارع، وزجاج السيارات، وواجهات المحلات، وفوق أعمدة الإضاءة، وعلى أسطح البيوت، والنوافذ. إن العمل الحقيقى «من أجل مصر»، لا يتم عرضه بهذا الشكل. العمل الجاد الذى يبغى وجه الخير، لا يتم إلا فى صمت وفى زهد. «من أجل مصر» ليس شعارا للمزايدة فى السياسة، أو لكسب أصوات الناخبين، والناخبات، ولكنه «واجب».. و«شغل».. و«عرق».. و«يقظة وطنية للخداع باسم مصر». «من أجل مصر» ينفق كل هذا البذخ على الدعاية الانتخابية؟ الذى كان من الأفضل، أن ينفق على أحد المشروعات الوطنية، لتحسن أحوال مصر. «من أجل مصر»، تحت هذا الشعار «المدنى»، يتم الصراع السياسى تحت عباءة الدين، وتتم التحالفات الدينية شكلا، السياسية مضمونا، حيث إنها من أجل «السيطرة السياسية». «من أجل حكم مصر».. لا من أجل مصر.. هذا هو التعبير الصحيح المعبر، عن النوايا الملتحفة، بشرع الله، والشريعة الإسلامية، والنص القرآنى، وثقافة السلف، وكل من يتكلم بلغة الدين. نعم، من أجل حكم مصر، يحدث كل ما نراه، هذه الأيام من مشاحنات، وإصابات، وتهديدات، وإرهاب، ومليونيات، وتضليل، وكذب، وإشاعة جو من البلطجة، والتسيب، والخوف. أيحدث كل هذا، من أجل مصر.. من أجل حضارة مصر العريقة.. من أجل مستقبلها المستقر الآمن.. من أجل الدولة المدنية.. من أجل ازدهار حريات النساء.. من أجل العدالة، والمساواة؟ بالطبع لا. إنما يحدث، من أجل «كرسى الحكم»، الساحر، الذى من أجله تهدر الفلوس، والكرامة، والنفوس. ولأن مصر بلد خيراته كثيرة، وموارده تكفى ألف بلد، وتفيض، فإن المنافسة على «كرسى الحكم»، تصبح شرسة، متوحشة، لا تقيم اعتبارا لمثل، أو أعراف، أو أخلاقيات. وبالطبع تستخدم المنافسة، كلمات لها وقع السحر، على الناس، مثل «إرادة الشعب»، بينما هى فى الحقيقة، لا يهمها الشعب، إلا عندما تنجح فى تضليله، وكسب أصواته، وانتصارها فى معركة، «فرق تسد» وحرب استغلال الدين، بالفلوس الطائلة. ومن الذى قال، لهذه التيارات التى تستغل الدين، تحت اسم «من أجل مصر» أو تحت أسماء أخرى، إنها تمثل إرادة الشعب، ولها حق التكلم بالنيابة عنه، وتحديد مدة نقل الحكم إلى سلطة مدنية.. والتهديد بتنظيم مليونيات، إذا لم تلب مطالبها المستمرة؟ كيف يختزلون الشعب المصرى فى أنفسهم فقط، إما فى التيار الإخوانى، وإما فى التيار السلفى؟ رأيتهم يوم الجمعة 18 نوفمبر 2011، فى ميدان التحرير. احتشاد الآلاف من الإخوان، والسلفيين. الوجوه متجهمة.. الأصوات زاعقة مثل الأذان فى مكبرات الصوت.. النقاب يحول الميدان إلى ساحة من السواد المكتوم. سمعت أحد أصحاب الذقون يقول: «أنا مش طرطور عشان تتعمل وثيقة دستورية أنا معترض عليها... لازم على السلمى يسحب الوثيقة بتاعته اللى ركب فيها على إرادة الشعب كله.. ولازم يمشى ويسيب الوزارة.. إحنا عملنا ثورة عشان نغير مصر والوثيقة دى عار على مصر». قال واحد آخر: «بقول لعلى السلمى يرحل سلمى». نقول أولا، إن الوثيقة، ليست «بتاعة السلمى». لكنهم يصرون على هذه التسمية، حتى يستفزوا الناس ضدها، على اعتبار أنها «فردية التوجه». ثانيا تعبير «يرحل سلمى»، يحتوى ضمنيا على إمكانية استخدام العنف، إذا لم تتم الاستجابة، وسحبت الوثيقة. ثالثا، هم يشككون فى وطنية، ونزاهة جميع القوى، والتيارات، التى اجتمعت، لإعداد الوثيقة، بحيث ينال الاتهام الجميع، عدا التيار الإخوانى، والتيار السلفى، اللذين يبقيان فى دائرة الوطنية، والنزاهة. أن الذى يعمل حقا، «من أجل مصر»، يكون عمله البناء الإيجابى هو الأساس، لا الاتهامات، والإدانات، والتخوين، والارتياب، التى هى هدم، وأعمال سلبية. ليس «من أجل مصر».. ولكن «من أجل حكم مصر».. تباح كل الأشياء.. تباع كل الأشياء.. ليس «من أجل مصر».. ولكن «من أجل حكم مصر».. يدخل كل شىء المزاد، حتى «مصر». من واحة أشعارى ————– أحيانا أشعر أننى لست فى الألفية الثالثة ولكن فى معتقلات المغول وعصور محاكم التفتيش أحيانا أهرب من دعوة العشاء الفاخرة وأحن إلى كسرة من الخبز وقطعة من الجبن القريش