نعم عادت أجواء 28 يناير فى 19 نوفمبر. قوات الشرطة تهاجم الميدان، تستخدم نفس الأساليب القديمة: سحل، إهانة، ضرب، عنف فى مواجهة أعداد قليلة. يخرج الثوار من كل مكان دفاعا عن مصابى ومجاريح الثورة، تنسحب الشرطة لتدافع عن مقر الوزارة. الثوار يستعيدون الميدان والداخلية تحاصر، وتضرب طوال 20 ساعة بقنابل تستخدمها جيوش الاحتلال فى إسرائيل. روح الثورة لم تُقتل. ظلت تتجول فى الشوارع، وعادت أمس إلى ميدان التحرير، نداء أكبر من الأحزاب والتنظيمات المستريحة إلى مواقعها بجوار سلطة المرحلة الانتقالية، المنتظرة نصيبها فى التورتة. الثورة نادت أمس، ولبّى الثوار فرادى، كل منهم يشعر بالمسؤولية عن الثورة. لا أحد كبير فى الميدان. لا رأس فى الميدان. لا قيادة فى الميدان. بالضبط كما كان الوضع ليلة التنحّى. قالوا إنها اليوم التاسع عشر للثورة. وقالوا إن الثورة استعادت حيويتها فى برد الشتاء. إنها العودة إلى الميدان بإحساس الدفاع عن الحلم بمصر جديدة، لا مكان فيها لدولة تستخدم آلات قمعها، لتحقق السيطرة. المجلس ترك الشرطة تواجه وحدها لأول مرة بعد 28 يناير، تركها بعد أحداث ماسبيرو، لا يريد مواجهة مباشرة، ويخشى من اعتراضات وقلاقل فى صفوف سترفض ضرب أهلها فى الميدان. الشرطة عادت لتنتقم. عادت لتحاول أن تكسب جولة واحدة تستعيد فيه هيبتها القديمة. رغم أن المجتمع منحها فرصة كبيرة باستعادة دورها المحترم فى المجتمع، وإنقاذها من الخدمة للحكام... لكن هناك تنظيما مقاوما لعودة الشرطة إلى الحماية. تنظيم فى الداخلية تحالف مع رغبة المجلس فى السيطرة، لتبدو الفوضى مبررا لتدخل أكبر، وهذا ما جعل عشاق التاريخ يستعيدون أجواء 1954. لا يمكن العودة إلى 1954 إلا بفاتورة باهظة، لأن هناك شريكا كامل الشراكة الآن هو ثوار التحرير. إنهم القوة التى حركت الجبل الراكد فوق صدورنا، وأسقطت رأس جمهورية الاستبداد والفساد، ولم تنجح كل محاولات الترويض أو التدجين فى صفوفهم من أجل الحصول على قطعة من التورتة. المجلس عقليته قديمة ولم يستوعب أن الثوار أكبر من أحزاب يستطيع التحكم فى خطواتها طمعا أو خوفا. ولم يعرف بعد أن هناك أحزابا تبنى نفسها فى الميدان، بقوة لا تقهرها سلطة، ولم يعرف بعد أن زمنا كاملا انتهى، كان المصرى فيه يُضرب بكل قسوة من الشرطة ويهرب فى الشوارع من المطاردة، وعندما يصل إلى بيته يحمد ربه أنه ضُرب ولم يُقبض عليه. انتهى زمن الشعب المدافع وأصبح الشعب فى موقع الهجوم، يدافع عن أحلامه فى دولة لا يُهان فيها ولا يشتمه شخص لأنه يحمل فى يده عصا ويضع على كتفه رتبة اشتراها المجتمع بأمواله ليحميه هذا الضابط ولا يتحكم فيه. جرح الشعب من الشرطة أكثر عمقا من تخيلات الجميع. لم يتحمل الثوار عودة الشرطة إلى سيرتها القديمة، عادت بكل أشباح دولة الإهانة والذل والظلم والقهر. هذه الدولة لن تعود إلا بفاتورة باهظة. والحكومة التى تشكو الفلس والحاجة لم تستورد للشعب إلا أنواعا جديدة من قنابل الغازات هذه المرة، لا تسيل الدموع لكنها ترخى الأعصاب والعضلات وتسبب التهابات فى الصدر، وبدلا من استيراد أدوات إنتاج جديدة استورد المجلس وحكومته أدوات قمع متطورة. هل هذه وعود المجلس الذى لم يتعلم إلا من مبارك وحاشيته؟ استعار منهم كل الخطة الأمنية والإعلامية، ولم تتغير إلا الوجوه، اللواء الفنجرى أصبح بديلا لوجوه النظام من صفوت الشريف إلى أحمد فتحى سرور، وماسبيرو ارتبك لكنه حافظ على نبرة التحريض والكذب وقلب الحقائق... الجديد هذه المرة أن الكلام العبثى تحول إلى خطاب تديره ميليشيات منظمة فى ماسبيرو هدفها استمرار الفوضى والتشويش على مطالب الثورة. الأحزاب المدجَّنة فقدت سيطرتها على أعضاء استعادوا روح التحرير وعاد من جديد مشهد ترى فيه السلفى يجلس بجوار الفتاة دون حجاب، والإخوانى يتفق مع الليبرالى على كراهية تنظيمات السمع والطاعة، والألتراس يشحن السياسيين بشحنات مضادة لقبول التسلط. ... عادت إذن... تحتاج العقدة إلى خطوة أكبر من كل ما يفكر فيه شطار المرحلة الانتقالية.