«.. تنحااااااااااااااا» صرخة هزت بنايات قلب القاهرة منذ 6 أشهر كاملة. هذه البنايات، المستسلمة إلى قدرها تحت حكم أغبياء، جهلة لا يفهمون سحر المدينة، ولا طبقات حضارتها، يكتفون من الفراعنة بالفرعنة، وحكم الكهنوت الفرعونى. «مع السلامة.. مع السلامة.. يا بو عمة مايلة». ... ضحك المغنون التلقائيون وهم يرددون الأغنية بين سيارات أطلقت سارينات فرحها، وغنت مع المنفجرين بالفرح.. وأضافت بسخريتها التلقائية «.... مع السلامة يا ابن الحرامية». الرئيس حرامى، هذا ما اكتشفه المصريون بعد 30 سنة من الحكم.. رأوا فيها سيرته كلها، وهو ببدلة المحلة، ثم وهو ببدلة مطبوع عليها اسمه. تخلصت مصر فجأة من الخوف، الرئة تتنفس بعد طول انسداد، والفرحة تعيد هندسة الشوارع فى مرونة تستوعب جسم الثورة الفاتن، رغم ضخامته. الأجهزة العاطفية عملت بقوة تقارب ما عملت به طوال 20 سنة.. الدموع ترقرقت فى أعين قوية.. المستحيل تحقق.. والسياسة فى مصر تحولت دون اتفاق إلى ساحة صمود.. ملعب لترويض العجز، وكهف لهزائم يومية أمام جدار برلين شخصى، يرتفع أمام كل اتصال مع المجال العام.. الجماعة مرعبة، عنيفة.. قطيع لم يعد قادرا على تحمل هياجه الداخلى. الجدار للحماية، للهرب، للتعالى عن مصير القطعان المتصادمة فى شوارع حديقة حيوان مفتوحة. جدار برلين محمول، درع من خبرات الألم والخوف ضد رصاص مطاطى، ومخبأ من مطاردات وحوش تطارد فى ليل المدينة، منفلتين عن اتفاقية صمت عمومى، واستسلام لسلطة كادت تتحول إلى قدر، يبنى مؤسساته الغامضة تحت عين الشمس، وأقصى ما تستطيع التفكير فيه: محاولة فهم ما يدور، سر الكهنوت المتحرك خلف جدران صلدة، مجرد فهم.. لا أكثر. السياسة هى فهم القدر أو تفسيره، ومحاولة الخربشة على معابده، التى تطبخ فيه السلطة طعامها المقدس، وتوزعه مع الخوف، بضاعتها الأثيرة. كيف ولدت الثورة من خلف جدران برلين؟ كيف اتفق كل هؤلاء على موعد ليكسر كل منهم جداره؟ ثورة بموعد، هذه أول المفاجآت، لم يصدقها الثوار، ولا جيش الدفاع عن النظام. الجسارة وحدها، كسرت غرور جيش حبيب العادلى، وكسرت جبروت أسلحته وقاذفات دخانه الحارق، وغطرسة بلطجيته، ورصاص قناصته الحى، جيش تحطمت أسطورته على يد مدنيين عزل، لم يجدوا غير أجسادهم بعد إغلاق النظام لكل هوامش المناورة فى التغيير، لم يعد سوى تحويل الفكرة إلى قوة مادية عبر أجساد عارية، وأياد مرفوعة بطاقتها على تحريك الهواء باللعنات. إنها ثورة المدينة على نفسها.. شباب الطبقة الوسطى، قاد اكتشاف المصريين لشعب آخر يعيش تحت ركام جمهوريات الخوف والفساد. المارد بكامل رقته ينتفض من تحت الرماد الثقيل، بنداء من عالم افتراضى، تمرد على الخطابات الجوفاء، والمرارات الفاقعة، والتوافقات المخزية، تنظيم افتراضى جعل من صفحات الشبكة الاجتماعية، ميدانا للحرية، تفككت البلاغة الخشبية، وانتشرت ثقافة حرية، لا تعترف بحواجز الإقصاء وكمائن التخوين، وفذلكات الهزيمة الدائمة. المدينة فى تعددها، رجال ونساء، محجبات وعصريات، ملتحون ومسيحيون، ملتزمون بالعبادات، ومتمردون على القيم المحافظة، نساء تدخن ورجال يهتفون بالدعاء، لم يعد الدين مجرد ساتر، وتعويذ، اقترب من لاهوت تحرير، والعلمانية لا تتحسس مسدسها كلما رأت جموع المصلين، قبول وقتى ربما، لكنه شكل الجسم الذى لا يمكن للذاكرة أن تنساه، جسم اكتشف أجساد غيّبها القهر السياسى والاجتماعى، بهذه الأجساد دفعت مصر فاتورة عبورها إلى المستقبل. نحن اليوم بعد 6 أشهر دون رئيس.. وبعد أن تحطمت جدران الخوف، نشعر بالزهو أحيانا، وبالرعب أحيانا، لكننا ومن دون رئيس 6 أشهر كاملة، ولم تقم القيامة، ولا انفجرت الفوضى تأكلنا.. نحن دون فرعون حرامى، نخطئ ونصيب، لكننا نصنع مصر التى نستحقها. ملحوظة: هذا المقال يذكر كل من يشعر بالاكتئاب بأنه منذ 6 أشهر فقط صنعنا المستحيل.