فى ليلة العيد لم ينم الصغير فانكا، الذى سلموه قبل ثلاثة أشهر للإسكافى ألياخين لكى يعمل صبيا فى ورشته.. انتظر حتى ذهب أصحاب البيت والأسطوات للصلاة فقام من رقدته وانطلق بخفة وحذر نحو دولاب الإسكافى واختلس منه قلما بسن صدئ وفرش أمامه ورقة مجعدة، وقبل أن يخط حرفا واحدا تلفت حوله ونظر متوجسا إلى النافذة، ثم جثا على ركبتيه وكتب: «جدى العزيز قسطنتين.. أكتب لك هذا الخطاب مهنئا بعيد الميلاد.. تعرف أننى ليس لى أب ولا أم، ولم يتبق لى أحد فى الدنيا غيرك». توقف فانكا ورفع رأسه، وراح يستدعى ملامح وجه جده العجوز الطيب الذى رغم نحوله وتقوّس ظهره لم يتقاعد، وما زال يعمل حارسا ليليا لدى آل جيفارف سادة البلدة.. أغمض الصغير جفنيه لحظات على صورة الجد قسطنتين، ثم عاد وأمسك بالقلم وهو يزفر بصوت مسموع وراح يكتب من جديد: «بالأمس يا جدى ضربونى علقة شديدة وشدنى المعلم من شعرى إلى الحوش وانهال علىّ بقالب الأحذية لأنى كنت أهزّ ابنه فى سريره الصغير فنعست غصب عنى، وقبل أيام قليلة أمرتنى المعلمة أن أقشر فسيخة، وبدأت أقشرها من ذيلها، فلم تعجب طريقتى الست فشدتها منى وأخذت تحك رأس السمكة فى وجهى.. يا جدى الأسطوات هنا يسخرون منى ويشتموننى شتيمة بذيئة طوال الوقت، ويرسلوننى إلى الخمارة لشراء الفودكا ويأمروننى أن أسرق لهم خيارا من بيت المعلم، والمعلم كلما رآنى يضربنى بأى شىء فى يده.. يا جدى أنا هنا جوعان دائما، فى الصباح لا يعطنوننى شيئا إلا الخبز، وفى الغداء عصيدة رديئة، وفى المساء خبز أيضا، أما الشاى أو الشوربة فيشربها السادة وحدهم. هل تعرف يا جدى أين أنام كل ليلة؟ فى مدخل الورشة القذر، وعندما يبكى ابنهم لا أنام وإنما أظل أهز مهده ولو بقى صاحيا حتى الصباح.. يا جدى العزيز اعمل معروفا لله وخذنى من هنا وأعِدنى إلى بيتنا الصغير فى القرية.. لم أعد أحتمل.. أتوسل إليك وسوف أصلى معك كما تريد، خذنى من هنا وإلا سأموت». رفع الطفل فانكا يده من على الورقة واعتدل فى جلسته ومسح جبهته وعينيه بظهر يده التى صار لونها أسود تماما، ثم غاب فى نوبة بكاء مر لكنه انتزع نفسه منها انتزاعا لئلا يتسرب الوقت ويعود معذبوه فلا يكمل الخطاب.. واستأنف استعطاف جده قائلا: «جدى العزيز، سأطحن لك التبغ، وأصلى فى الكنيسة والبيت، سأفعل كل ما تريد، وإذا بدر منى شىء لا يعجبك اضربنى كما يُضرب الكلب، وإذا كنت تريدنى أن أعمل لكى آتى بمال يعيننا على الحياة، فسأرجو خولى مزرعة آل جيفارف وأستحلفه بالمسيح أن يأخذنى ولو لتنظيف حذائه.. المهم أن أبقى معك فى قريتنا لأنى لم أعد أحتمل.. لقد فكرت فى الهرب وأن آتى إليك ماشيا ولكن ليس عندى حذاء.. يا جدى عندما أكبر سوف أطعمك وأرعاك ولن أسمح لأحد أن يمسسك، وعندما تموت سوف أصلى من أجل روحك كما أصلى من أجل أمى بيلاجا.. احضر يا جدى وخذنى من هنا، أستحلفك بالمسيح.... وأخيرا تحياتى وسلامى لك ولأليونا، والعم يجوركا الأحول والحوذى الطيب.. اعطف علىَّ يا جدى العزيز أنا حفيدك اليتيم المسكين ولا تنس رجائى لك، وأرجوك احتفظ لى بالهارمونيكا بتاعتى، وإلى اللقاء قريبا.. قريبا يا جدى». طوى فانكا ورقة الرسالة بعناية أربع ثنيات ووضعها فى المظروف الذى اشتراه بكوبيك (قرش) يعلم الله وحده كيف ادخره وخبأه.. وكان عليه الآن أن يكتب العنوان.. سرح قليلا ثم شرع يخط على المظروف: إلى جدى قسطنتين ماكاريتش! كان فانكا فرحا سعيدا أنه أنجز كتابة رسالة الخلاص لجده من دون أن يداهمه أحد من آسريه.. وانطلق عدوا فى الطرقات الموحلة حتى بلغ صندوق البريد فدس الخطاب فى فتحته بعناية، وعاد للورشة جريا أيضا واستلقى مرتاحا على فرشته البائسة، وسرعان ما غط فى نوم عميق بينما الأحلام وأمانى العودة الحلوة إلى قريته البعيدة تهدهد روحه.. لقد رأى فى منامه جده قسطنتين جالسا على الفرن مدليا ساقيه النحيلتين العريانتين بينما هو يقرأ بصوت عال وبتأثر شديد رسالة حفيده. (من قصة «فانكا» لأنطون تشيكوف)