أنا ذلك الطير المهاجر إلي أرض الأحلام الذي ترك كل شيء من أجل كل شيء فعاش يفتقد كل شيء في وطنه وشارعه وناسه.. هاجرت بحثا عن أمل في دخل يكمل الشهر دون سلف من المنتصف.. من أجل الوصول للعمل دون اختناق في زحام والخوض في هضاب الركام.. للهروب من بلد يحكمه تصلب الشرايين.. حتي لا أسمع كل سنة وأنت طيب في الإشارة والطابوروتحت الكوبري, ومع الهواء الذي نتنفسه.. لكي أقول رأيي من غير ما يقبض علي من القفا. لكي أعلم أولادي في مدارس يقعد فيها التلامذة فوق التخت وليس علي النوافذ والأرض. لأشرب كوبا من ماء أشوف منه الناحية التانية. لأشد السيفون فلا تهرب دوبارة العوامة لينشع الحائط من جوه وبره. لآخذ حقي بلا رشوة.. لأعامل بدون واسطة كإنسان.. لأمضي بلا هاجس بالوعة مفتوحة علي ناصية, أو يطلع علي بلطجي يثبتني بمطواة أو طبنجة, أو يمنعني متعصب من المشي بالمايوه علي البلاج.. هاجرت بعدما تناولت دوائي المقرر مصنعا في الخارج فعاد لي تنفسي الطبيعي, ولم يكبس القرص المصنوع محليا علي مراوحي ينفخ القولون كبالون.. هاجرت لأن المرمطة أصبحت قاعدة وليست استثناء.. هاجرت لأن الكيل طفح وأرض الله واسعة. هاجرت منذ سنوات لأبلغ كما المصري بمهاراته المستنفرة علي أرض الغربة منزلة عمل رئاسي في المبني العملاق العالمي الذي لا تخلو نشرات العالم من الإشارة إليه بهيئاته ومؤسساته ومعوناته ومشروعاته. بطاقتي الشخصية تحمل لقبي العلمي المتميز وإن كانت حدودي لا تتعدي متر في متر بمكتبي الرئاسي ورفوفي وشاشاتي وأزراري وحوائطي الزجاجية المكشوفة لمراقبتي ومراقبة سير العمل.. كل ما حولي مبرمج, حتي سلسلة الظهر مني أصبحت الأخري مبرمجة تبعا لساعات العمل, فالفقرة القطنية فيها من بعد الجلوس المنحني المتواصل من السابعة صباحا حتي الثانية عشر ظهرا تبدأ في مخطط الانزلاق الجهنمي داخل تجويف العصعوص فأرفع عيني عن الدوسيهات لأهب واقفا من قسوة الألم قبل خروج لعنتي علي الشغل وسنينه وأصحابه واليوم الأغبر اللي رماني علي بلد تمص دمك وجهدك وعمرك وتعطيك راتبا تسترده منك باليد الأخري في أقساط أخطبوطية لا تعرف الرحمة, فالدفع ياالحجز ياالحبس!.. أضبط ساعتي علي ساعات القاعة الضخمة المدلاة في كل مكان في انتظار توقف العمل فوق المكاتب المعدنية داخل الأقفاص الزجاجية.. في الموعد المحدد يدوي رنين الأجراس لينطلق نقيق الضفادع بلكنة العم سام الخنفاء التي تبتر الكلمات وتوزع التأوهات بعد أن حانت ساعة تناول الطعام.. أخطف الجاكتة وأهرع مع سباق الطوابير في الممرات الحلزونية والمصاعد المنبسطة إلي كافيتريات الدور الأرضي لأحمل الصينية وأدور لأنتقي أنصبتي.. مع الطابور المجاور والمقابل والمغادر تتشابك إيماءات وتحيات عابرة بعضها صرخات لا لزوم لها وإن كانت الأووه فيها تعني زيادة في نسب الترحيب أو الاشمئناط, وتهرع إلي الموائد الجانبية بأطباق غالبيتها سلطات للريجيم وكيزان ذرة وصوصات منزوعة الدسم, بينما خلف فاترينات الطعام الشهي بطباخيه الملونين أكداس من اللحوم والأسماك والجمبري, وتلال من حلويات الكريم شانتيه والتشيز كيك والفروت سالاد, وأصناف عالمية من الجبن علي سبيل حاجة حرشة بعد الحلو, وفي نهاية المشوار لا بدايته بوفيهات لجميع أنواع الحساء والكريبات والمشروبات الطازجة والكورن فليكس بإضافاته المقرمشة المذهلة وجميع أنواع الألبان التي احتفظت بقشدتها والتي نزعوها عنها, ثم أصناف العيش الصلب والهش الفاتح والغامق والنص نص بسكاكينها القاطعة وماكينات تحميرها المتحفزة علي نظام التوست. علي واجهة صينيتي العامرة التقت عيوني السوداء بعيونها الزرقاء المندهشة دوما.. قطة شقراء جلست أمامي من قبيل المصادفة تنقنق وتمد أصابعها بلا أواصر صداقة إلي أطباقي تتذوقها بغلاسة بينما كان عندها الأكل هناك بالكوم خلف الزجاج, إلا أنها فضلت عليه اختيار كوز الذرة المسلوق.. سألتها بكسل من بعد الامتلاء بلهجة روتينية باردة بحكم تكرار مثل هذا الجوار والحوار عن سير العمل في إدارتها, فأجابتني بمثل بلادتي إنه كالمعتاد.. حملت صينيتي الفارغة وتركتها تمشي خلفي تحمل صينيتها بنفسها علي طريقة اخدم نفسك لأعود أسألها بلا تلهف عن ارتباطاتها في عطلة نهاية الأسبوع, فدفعت ناحيتي بصينيتها ليتسني لها فتح أقفال حقيبتها المعلقة في كتفها لاستخراج مفكرتها لتجد نفسها في النهاية ليست مضطرة للذهاب للمغسلة أو لطبيبها النفسي, ومن حسن حظها وحظي عدم ارتباطها بموعد مسبق مع أحد من أصدقاء إدارتها, ومن هنا فهي مرحبة بمصاحبتي لترن علي موبايلي برقمها لتسجيل الرقمين رايح جاي.. ويذهب كل إلي قفصه الزجاجي وقد استطاع ملء فراغ رفيق الإجازة القادمة. فوق رمل صناعي لشاطئ صناعي تقوم الماكينات بتقليب أمواجه الصناعية تمددت الشقراء في عطلة نهاية الأسبوع إلي جواري تدهن أطرافها شاهقة البياض بالزيت, وتطالبني باستكمال المهمة بطول ظهرها الجليدي, وترقد بصبر ليس له حدود تحت دوائر نهايات أشعة شمس خابية أوسعت لها السحب الملبدة مجرد ثقوب شاحبة الإضاءة وذلك أملا في تلوين جلدها الشمعي, فلا يستجيب لها إلا اللون الأحمر الذي يصبغها بالتهابات منفرة تحت جفنيها وأعلي رئتيها وفوق أرنبة أنفها وفي عصاعيص ملاحات كتفيها.. حقيقة مقاييس قوامها مثالية لكن شعر سيقانها وذراعيها كأشواك السافانا الذهبية ووجنتاها في الضوء الخارجي يكسوهما زغب كثيف, وفوق شفاهها ينبت شارب تتعلق بشعيراته فقاقيع الشراب عندما تدس فمها الشره في الكوب الفائر.. بين حجراتي تتقافز نزقة كعنزة خرقاء استهوتها ارتفاعات الأسطح.. تفتح الأبواب وتغلقها بصخب, ثم تستغرق فجأة في تجويد تمرين رياضي آسيوي عنيف متداخل لا أدري دوافعه أو عواقبه أو فوائده وإن أدي في النهاية إلي جلوسها القرفصاء متخشبة لا يطرف لها عين حتي ولو رميتها بجميع الوسائد.. تلقي بشرائط ملابسها في أي مكان وترتدي قمصاني وتكتب أرقام تليفوناتها وحساباتها فوق أغلفة كتبي وتدخن سجائري بشراهة ولا تمل فتح ثلاجتي والبحث عشوائيا في أدراجي وإدارة شرائط تسجيلاتي واللهو بفأر شاشتي ودس الريموت في أماكن خفية تنساها لنظل نبحث عنه دون جدوي, وفجأة تجده ليعلو هتافها وتصفيقها وكأنها أتت بفعل المعجزة.. تعب من شرابي وتأتي علي طعامي وتلتهم حلواي تاركة الفوارغ والأغلفة في كل مكان, حتي معجون أسناني تضغطه بلا رحمة وتترك زجاجة الشامبو مفتوحة وتسرح شعرها المبتل أثناء دورانها في جميع المساحات لأجد شعراتها الشاحبة الطويلة ملتصقة علي جوانب البانيو, وملتفة حول البلاعات, ومتشابكة بين أسنان المشط, ومندسة في بطن الفرشاة, ومتداخلة في نسيج الغطاء, وعالقة بملابسي داخل الدولاب.. حتي كولونيا حلاقتي تمثل لها الأخري تحديا للانتقام لتجهز عليها في خطتها الاستعمارية فتغسل بها ذراعيها بلا داع وكأنها ماء الحنفية, ثم تتهمني بعدها بعدم تمتعي بموهبة الاختيار للأصناف الخفيفة رفيعة المستوي, وتزيد من عدم كياستها بإرجاع السبب المباشر لشرقيتي في أمر عشقي للروائح النفاذة, كذلك بشأن مكوثي داخل شقتي بالبيجاما. الشيئان الوحيدان اللذان تأتي بهما معها فرشاة الأسنان وعلبة لبان تكون حريصة كل الحرص علي إعادة كل منهما إلي حقيبتها بعد تجفيف الأولي بعناية بالغة ببكرة كاملة من ورق التواليت, والتقاط فص لبان واحد من الثانية ثم غلقها سريعا, ومن بعد أن تلوك الفص لفترة تقوم بلصقه أسفل أي طبق طعام لمعاودة مضغه ثانية, والغريب أنها تتعرف في الحال علي الطبق ومكان اللصق والفص الممضوغ.. تحتضنني بروتينية, وفجأة تتدله إلي حد الهوس في أسلاك شعري اللولبية وسمرة بشرتي الطبيعية, بل تكاد تفقأ عيني بأصبعها لمعرفة سر بقبق عيني الأسود, وتسألني بسذاجة غباء يصدمني عما إذا كنت أري جميع المناظر من حولي أبيض وأسود, وتضحك إلي حد الصراخ بعد محاولاتها الفاشلة في محاكاة مخارج ألفاظ لغة الضاد في بعض تعبيرات بذاتها.. تتسلي كثيرا بنزع النقط السوداء من بشرة وجهي, وتميل فوق الكاللو الذي ينغص علي حياتي بجدية صارمة لتعالجه بصبر ومواساة ليمتص اهتمامها به وقتا أطول من اهتمامها بي أنا, هذا بينما لا تحاول مشاركة في رفع منضدة مقلوبة, أو عدل ثنية سجادة, أو تنحية بشكير مبتل, أو سكب منفضدة سجائر ممتلئة, أو جمع وسائد متناثرة أو فرد تجاعيد ملاءة, أو مناولتي ثمرة فاكهة كالتي تخروش في قضمها بشراهة بصوت مرتفع أمام ناظري.. و..عندما قدمت لي هديتها التي قامت بنحتها من الخشب خصيصا من أجلي للكريسماس فوجئت بأنها بومة سوداء! في اجازاتي أصبح قربها متوقعا ومألوفا وبديهيا ويقارب الروتين, وغدت رغم مقاييسها المثالية لا تدهشني أو تؤجج روح الاكتشاف بداخلي, فستائرها علي الدوام مرفوعة بعد أن تركت منذ البداية سكة الغموض ووقفت وسط الميدان مكشوفة من جميع الاتجاهات.. بل.. ولم يعد نقيقها غريبا وإنما أصبح الصدي المألوف في حجراتي... ومضت بنا أمسيات بلا كلام بعد أن اهترأ الكلام.. وغدوت معها عصبيا وحارقا ومارقا وجارحا لأسألها عن عدد مرات لقاءاتنا؟! فلا تتذكر إلا أن بعضها طويل وبعضها قصير, وأكثر من مرة كان بصحبة أصدقاء منسيين في أماكن لم تعد تذكرها.. متي التقينا؟!.. هناك.. أهزها لنخلق ذكري تجمعنا فتبدي امتعاضها من التوقف حول أحداث مر بها القطار.. مشاعرك نحوي؟!.. عادية.. إلي أي مدي؟!.. عادي.. ماذا أعني لك؟!.. سكر.. هل هناك جدوي من استمرار لقاءاتنا؟!.. ها أنت لم تزل شرقيا رومانسيا تنتابك المطبات العاطفية, وربما ما يعتريك الآن من بدايات اكتئاب واختلال في التوازن مما يتطلب بجدية التوجه لطبيبك النفسي والفضفضة وكنس الكراكيب الفولكلورية المتأصلة.. زوجك هل يعلم بأمرنا؟!.. حقيقة لم نتحدث في الموضوع, ولم أجد من جانبي داعيا لذلك فربما ينتابه غضب غير ذي موضوع, وإن أبدي لي دائما عدم جنوحه للغيرة, ثم إن المال يهمه في الكثير كغالبية الأزواج الأمريكيين, والطلاق عندنا يكلف الزوج الكثير إلي حد شفا الإفلاس, ثم إن عمله يتطلب منه السفر الكثير لمدد طويلة, وهو يعلم تماما أني لست عاشقة للوحدة أو ابتلاع المهدئات.. وعلاقاته؟!.. لا أفتش عنها.. يحبك؟!.. سؤال لم يعد مطروحا لكنه عندما يعود نقضي معا أوقاتا سعيدة نذهب فيها إلي المطاعم ونرقص ونعوم ونتزحلق ونسمع الموسيقي ونتبادل الهدايا في الفالنتين ورأس السنة ونزور المعارض والأصدقاء ونلعب الاسكواش ونسافر لنزور الابن في مدرسته الداخلية, ونحرص علي أن يكون بيننا اتصال تليفوني كل أسبوع علي الأقل.... ضيفة العطلة في نهاية زياراتها لم تكن تنسي مداعبة مقدمة رأسي بأظافرها, وفتح عقدة جبيني بأطراف أصابعها مع عبارتها الخشبية: أراك فيما بعد يا سكر.. وتسلمني عيون زرقاء لأخري, ويغادرني نقيق ليعاودني نقيق, وأمسح ظهورا بالزيت, وأغلق رفوفا من زجاجات الشامبو, وأحمل لأنابيب القمامة أكواما من قشر الفستق المهدور, وللغسالة بالات من البشاكير المنتهكة, وأجيب علي سؤالي لماذا لا أتزوج بأجنبية؟!.. ربما لتأصل الرغبة في الاستهانة بشأن الزوجات الأجنبيات, فقد كنا نسمع بعضهم يقول إن زوجة رئيس وزراء سابق كان أصلها ممرضة انجليزية, وزوجة رجل الاقتصاد الكبير كانت في بلادها فتاة بار, وحرم الكاتب المخضرم التقاها جرسونة في مطعم, وزوجة أغاخان زعيم الطائفة الإسماعيلية كانت كومبارس, وزوجة طه حسين كانت في بلادها عاملة مانيكير, وكل ذلك بقصد الانتقاص من قدر الأجنبية رغم أن طه حسين نفسه لم يدع في الأيام أنها كانت بنت ماركيز أولورد, وإنما ذكر فقط أنها كانت ابنة صاحب البنسيون التي كانت تعينه علي قراءة كتب المقرر.. لماذا لم أتزوج حتي الآن؟! ربما لتوفر البضاعة في الأسواق إلي جانب أن غالبية الأصدقاء المصريين من حولي الذين أقدموا علي خطوة الزواج من أجنبيات للحصول علي الجنسية, أو الوقوع بالفعل في حبائل الحب باتوا يعانون من مشكلة تربية الأبناء بمفردهم بعدما هجرتهم الزوجات تاركات الجمل بما حمل ليصنعن بعيدا حياوات جديدة أكثر إشراقآ وأقل نكدا ومعاناة وأخف مسئولية.. و..كنت أظنني أحيا إلي أن جاءت واحدة من مصر وضعتني علي صخر الحقيقة.. مهاجر مفتقد الخيال والحب والعطر والظلال ظمآن للحب والفن والسحر والجمال.. ابنة النيل والهرم والعاطفة والخلود والعيب وثأر الغيرة والزغرودة وعناق النخيل وشمس الأصيل والخرزة الزرقاء وطرقعة اللبان وسطوة الأب ومسلة لعنان السماء والأوله آه والتانية آه والتالتة آه وبصلة المحب خروف وكل شيء في أوله صعب ووجع ساعة ولا كل ساعة واللقا نصيب وأحلام نجيب محفوظ وطلة الخال في دعاء الكروان وضحكة سميحة أيوب في السلطان الحائر والسفارة في العمارة وبلد بتاعة شهادات واللي اختشوا ماتوا وألف ألف مئذنة تدعو لصلاة الفجر.. كطفل ضال هرعت إليها.. وجدت أمي وأرضي وعرضي وأصلي وفصلي وشجرة صفصاف وارفة تظلل نفسا حائرة. في وجودها أطلقت لغتي الحبيسة, تمرح بالشعر والنثر وحواديت الطفولة.. رطبت عيني بخمرية بشرتها, واستراحت نظراتي في سواد مقلتيها لتصبح العيون الأخري زجاجا في أحداق قطط.. جاءت مع وفد في رحلة سريعة كالشهاب بعدها تعود لزوجها وابنها.. دعوتها لأريها معالم بلد الأفلام والأحلام الملونة.. شيء ما أشعرها معي بألفة, وبأني لن أؤدي مهمة ثقيلة.. معا تسكعنا نتأمل واجهات المحال نركز الشراء في اهتمامات سن المراهقة تلبية لرغبات وحيدها, ومن أجل أن يصبح المقاس منضبطا ارتديت من أجلها جينز الهلاهيل وحزام الروشنة, وأدخلت ذراعاي في أكمام بالطو ثمين لزوجها كي تتخيله داخله.. بائعة ورد ماكرة قدمت لها زهرة حمراء وهي تهمس في أذنها مشيرة ناحيتي: هذا السيد يحبك كثيرا.. فتصاعدت الدماء إلي وجهها والتفتت بعيدا ترقب سير المرور باهتمام وكأنه قضيتها.. سألتها: جائعة؟!.. أقدامنا قادتنا إلي شارع حجري ضيق علي أطراف الحي القديم في المدينة تتساقط فوق مربعاته تيجان زهور بيضاء كأنها الفراشات سابحة.. في نهاية خطواتنا لافتة مطعم إسباني صغير, سحره أنه صغير وفي حي قديم.. وقفنا أمام بابه العريق ندق مطرقة نحاسية ففتحت لنا فيه كوة أطل منها وجه باسم فتح لنا ليعلق لكل منا عقدا من الزهور مشيرا إلي سلالم خشبية تنحدر إلي أسفل.. أخذت يدها أقودها عبر الدرج المعتم واضطررنا للانحناء ونحن نعبر نحو هدفنا.. عندما أغلق الباب من خلفنا شعرنا بأن صلتنا بالعالم الخارجي قد انقطعت.. كل ما وراء ذلك الباب تخطيناه.. تركناه.. اعتزلناه.. لنصبح أبناء ما بعد الباب والحساب والعتاب والعقاب.. المكان تضيئه شموع وسنانه تتراقص في احتضار ترسل ومضاتها المرتجفة لتسفر عن أشباح نائية مرسومة علي الحوائط تصل إلي الأذن أحاديثها كخرير جداول ماء بعيدة, وجرسون كملاك الليل يتحرك بلا صوت ويقترب ليبتعد ويبتعد.. ألحان وليدة انبثقت كثغاء طفل تبدأ مصحوبة بأنات خافتة تتصاعد متباعدة ساخنة بعازف علي الجيتار يتواري في أحد الأركان يغني بصوت دافئ يعلو ويهبط شجنا كانتفاضات جريح, تصاحبه غجرية دبيبها علي الأرض طير ذبيح.. يخفت النغم يخفت يخفت يذوب يتلاشي يخرس تماما, ثم فجأة يرتفع هادرا مصحوبا بأنات الصوت الشجي المشروخ والتفاتات الكرانيش الملتاثة الطائرة.. صاحبتي معتادة علي أخذ الإذن في حالة التأخر في العودة لبيتها.. تركتني مرات لتتصل بالفندق تطلب أي واحد من وفد بعثتها لأجل تخبره بأنها ستتأخر.. لم تجد أحدا في حجرته.. الاستعلامات نقلت لها أن الجميع في خارج الفندق.. عادت لتجلس أمامي حائرة فقرأت أفكارها بأنه لولا اختلاف التوقيت مع القاهرة لطلبت زوجها تستأذنه في عودة متأخرة.. شيئا فشيئا اختفت من ملامحها دلائل التوتر بعدما طمأنها تفهمي فأضاء وجهها كطفلة لا تصدق حريتها في السهر لأول مرة وحدها خارج المنزل. هذه المصرية أمامي ألقت حجرا حرك ركودا.. أنبت جذوات لهيب وسط الجليد.. أخذ بيد مواتي إلي جنات بعث جديد و..كما عودتني حياتي الصريحة هنا اعترفت لها فورا بمشاعري فقد كان انفعالي أكثر مما أحتمل.. ثقلت وطأة صمتها وانشغلت عني مع الجرسون في قائمة طعامه واختياراته, وعندما عادت لي لمحت تأثرها البالغ لسطور دموع انسابت بلا وعي علي وجهي.. متزوجة أنا!!.. عارف عارف عارف لكني أطلب يدك للزواج.. بربك لا ترفضي.. اتركيه.. لا تعلني رفضك بقسوة.. لا أحتمله.. زوجك ألا يكفيه طول سنين قربك.. هل يعرف إلي أي حد قد تميز؟.. هل يدرك قدر العطاء الذي يغمره بفيضه؟.. هل يعي قدر أنانيته بعدما استحوذ علي جنة الخلد وحده.. هل من العدل أن يسبح وحده في نبع الأنوثة؟.. أعرف أن ليس ذنبه.. ولا هو ذنبي أن أحبك.. كيف أحمل كل هذا الحب نحوك في هذا الوقت القصير؟!.. لست أدري سوي أنك هنا وأني هنا وأني أحبك.. مدرك أن ليس فيما أهمس لك به قدر من حكمة أو ذرة من تعقل, لكن الحب يا مولاتي حجر يسقط من فوق الجبل علي أم الرأس.. توقيته.. وقوعه.. زلزلته.. مساره.. أولياته ونهايته.. لا أحد يدري ولا كنت أدري.. تسألينني لماذا أحببتك؟ إن السفينة يا مولاتي في البحر, لا تعرف من أين يعتريها الدوار؟.. ابنك.. أتوجه إليه زاحفا منكفئا أسير علي أربع.. أحمله فوق عنقي حتي أعتابك أدفن في أقدامه وجهي أقول له مبتهلا إني اليتيم بدون أمه.. أمك يا حبيبها أماتتني وأحيتني لحظة رأيتها ووجدتها.. يا حبيب أمك أوسع لي مكانا صغيرا بجوارك في قلبها.. لا ترفضيني.. سائلك عطفك.. سائلك حبك.. بك يغفر الله ذنوبي.. عائدة أنت بي للدين والإيمان والدنيا معا.. دونك سأظل ضالا في بركة الضفادع.. أنت الوطن.. أنت الحنين يا مولاتي لبنات الأصول وصاحبات العصمة وسليلات المجد والشرف.. عودي بي يا مالكة القلب لمشاعر خجل الوجنتين ورجفة الرمش ولعثمة اللسان وأستار الحياء.. مشتاق لشرقيتي.. أوحشني أن أغار.. أن أسمع: حاضر وعلي قولك وبس ماتعكرش دمك وتسلم وتعيش والنبي تبسم ويا راجل اختشي وقل يا باسط وقوم صلي لك ركعتين.. مشتاق أن تصبح امرأتي أنثي في خدرها ترضي بقسمتها ونصيبها وبختها.. أن تذوب خجلا كقطعة السكر.. أقول لها لن تخرجي إلا بإذني.. لا تتركي أصابعك اللدنة طويلا في كفوف السلام.. لا تنامين إلا بعدما أنام.. مركز الإشعاع أنا.. أنا رجلها وحاميها.. دارها ومدارها.. معذرة يا سيدتي الجميلة وآسف لتطاولي.. نقلت لي ضيفتي رفضها لمشاعري الملتهبة برقة بالغة كعقد الياسمين الذي أحاط بأعناقنا.. قالت تفسر اندفاعي نحوها بأن ذكريات الوطن ارتدت في شخصها ثوبا بشريا.. مصرية من بلدي نبشت داخلي فأيقظت غول الحنين.. و.. ومضينا نتحدث ولم يعد يعنينا كم مر من وقت علينا.. فقط ما وعيته أن أطباقنا بردت ولم نأكلها, وأن عازف الجيتار قد أغلق جيتاره ومضي, وأن راقصة الدبيب قد نزعت زهرتها وأقراطها وكرانيشها وجلست تأكل طبقها, وأن ذوب الشموع المنتهية قد انسكب فوق أغطية الموائد ليعبق المكان برائحة الياسمين والانصهار.. صعدنا الدرجات المعتمة مرة أخري.. الهواء البارد يلفح وجهينا... وقع خطانا في الليل الممتد يسمع لمسافات بعيدة.. صحبتها إلي صالة فندقها واستدرت وحدي في ليلة السفر. علي أرض المطار كانت ملء عيوني وقلبي.. العد التنازلي ينخر بوطأته الشرايين.. مريض واجهه الطبيب بموعد الوفاة.. أصوات الرحيل تدوي طبولا في صدري.. الانتزاع قسوة والفرقة غدر والسلام بلا سلام.. هذا الوجود السخي لن يغدو له وجود.. سأمد يدا تحتضن الخواء ولا صدي لرجع الصوت ولا للكلمات من بعد أن تلاقيا.. أري ما بعدك وكنت تحجبين كل ما حولك.. رحيل شلال حنانك ذنب لا يغتفر.. تبحرين.. تفردين أجنحتك وتحلقين.. جزء من الوطن المسافر يلتحم هناك بالوطن الأم.. ترحلين لدفء العائلة وتتركين علي شاطئ الجليد مسكينا وحيدا مقرورا.. وحدي أنا هنا وأنتم كلكم هناك والقلب هناك والوطن هناك.. بعد لحظات تنشق الأرض. تنسحب اليابسة.. تقفر الدنيا.. يظلم الكون.. يرحل القمر.. يخمد الكيان.... المشهد الأخير التفاتة دامعة منها, وبعدها تتواري سعادتي داخل باب أخذها من محيطي.. من ملء يدي وعيني.. من جواري.. ليغدو بيننا بحر ومحيط وجبال وبلاد وأوطان وأحزان هجرة. و..فجأة تحدث المعجزة.. لم أعد ذلك المهاجر في الأرض البعيدة.. لا يا حبيبتي لم يعد بيننا بحر ولا جبل ولا تأشيرة دخول أو حدود.. عاد بيننا الاتصال. عودة الوصال. عدت لي.. عادت مصر لي عندما عادت الدماء تضخ في الحبل السري بين رحم الأم والأبناء المبعثرين.. ارتوت شجرة الميدان ليسري الخصب في الآماد البعيدة.. بذلت دماء الشهداء فارتفعت الجباه وأتت أفواج المغيبين المنسيين المهاجرين يهتفون للوطن: لبيك.. تداركت العائلة أن ابنها غائب فبعثت تقول له ليس الغائب عن العين غائب عن القلب.. عندما استشعرت يا حبيبتي جدية الدعوة المباركة للمشاركة في تقرير مصير بلدي لم أكتف بإرسال صوتي عبر البريد السريع بل طويت بشوق بالغ آلاف الأميال إلي العاصمة, وكأني في طريقي إليك, لأدلي بصوتي العربي المصري في سفارتنا كجزء من أرض مصر.. عدت مصريا لحما ودما وقلبا وعقلا وانتماء ومستقبلا.. هل تذكرين يا ابنة المنبت الحسن قلما كان في حقيبتك مختوما بشارة الفندق الذي استضافك أيام كنت هنا؟ قلمك هذا احتفظت به كتعويذة أخرجته بالأمس من مخبئه السري بجوار القلب لأوقع به في الانتخاب موقنا, دونما اتفاق مسبق, أننا نسكن معا داخل نفس المربع الحزبي, وأننا أيضا سنشير معا إلي نفس رموز الأسماء, فقد تآلفت مسبقا روحانا ورؤانا.. وعلي موعد قريب سنلتقي يا حبيبتي من جديد لننتخب رئيسا جديدا لمصرنا لن نرفع في وجهه لافتة ارحل, فالديمقراطية من بعد مخاض الثورة لن تؤدي إلي مزيد من المهاجرين.. بل من الأنصار.. المزيد من مقالات سناء البيسى