غادة البدوي: تحرير سيناء يمثل نموذجًا حقيقيًا للشجاعة والتضحية والتفاني في سبيل الوطن    من أرض الفيروز.. رسالة وزير العمل بمناسبة ذكرى تحرير سيناء    «زى النهارده».. عيد تحرير سيناء 25 إبريل 1982    مواجهة بين أحد الصيادين ومؤسس حملة "خليها تعفن" تكشف أسباب ارتفاع أسعار الأسماك    ارتفاع الذهب اليوم الخميس.. تعرف على الأسعار بعد الزيادة    تأجيل بيع محطتي سيمنز .. البنوك الألمانية" أو أزمة الغاز الطبيعي وراء وقف الصفقة ؟    شراكة مصرية إماراتية لتوطين صناعة السيارات الكهربائية والتقليدية    3 شهداء وعدد من الإصابات جراء استهداف الاحتلال لمنزلًا شرق رفح    «زي النهارده».. بداية الحرب الأمريكية الإسبانية 25 إبريل 1898    مصير مجهول ينتظر "مؤتمر المصالحة الليبية" ..تحشيد عسكري روسي وسيف الإسلام مرشحا للقبائل !    مراقبون: فيديو الأسير "هرش بولين" ينقل الشارع الصهيوني لحالة الغليان    مظاهرات لطلاب الجامعات بأمريكا لوقف الحرب على غزة والشرطة تعتقل العشرات (فيديو)    البيت الأبيض: نعول على أن تكفي الموارد المخصصة لمساعدة أوكرانيا حتى نهاية 2024    ميدو: لاعبو الزمالك تسببوا في أزمة لمجلس الإدارة.. والجماهير لن ترحمهم    وزير الرياضة يتفقد استعدادات مصر لاستضافة بطولة الجودو الأفريقية    ميدو ل لاعبي الزمالك «قبل مواجهة دريمز»: «الجماهير لن ترحمكم»    جدول ترتيب الدوري الإنجليزي بعد خسارة ليفربول وفوز مانشستر يونايتد    كاراجر: محمد صلاح ظهر ظلا لنفسه هذا الموسم    "سنحولها إلى الجهات الرقابية".. الزمالك يكشف مفاجأة في قضية بوطيب وتحركات لحل الأزمة    خبر في الجول – الأهلي يتقدم بشكوى ضد لاعب الاتحاد السكندري لاحتساب دوري 2003 لصالحه    بعد خسارة الأهلي ضد أويلرز الأوغندي.. موقف مجموعة النيل ببطولة ال«BAL»    البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    الأرصاد تُحذر من حالة الطقس المتوقعة اليوم الخميس: درجات الحرارة تصل ل43    إصابة أم وأطفالها الثلاثة في انفجار أسطوانة غاز ب الدقهلية    رئيس تحرير «أكتوبر»: الإعلام أحد الأسلحة الهامة في الحروب    حظك اليوم برج الميزان الخميس 25-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    أخبار الفن|طلاق الفنان أحمد جمال من زوجته سارة قمر.. وشريف منير يروّج ل«السرب».. وهذه الصور الأولى من زفاف ابنة بدرية طلبة    فريد زهران: نسعى لوضع الكتاب المصري في مكانة أفضل بكثير |فيديو    في حفل تأبين أشرف عبدالغفور .. أشرف زكي: فقدنا فنانا رسم تاريخه بالذهب    اختيارات النقاد.. بعد سيطرة الكوميديا ما هى الأفلام الأنسب لموسم العيد؟    رئيسة «القومي للمرأة» تزور مكتبة الإسكندرية.. وتشيد بثرائها وأصالتها    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    الصحة تفحص مليون و413 ألف طالب ضمن المبادرة الرئاسية للكشف المبكر عن فيروس سى    سفير ألمانيا بالقاهرة: المدرسة الألمانية للراهبات أصبحت راسخة في نظام التعليم المصري    المواعيد الصيفية لغلق وفتح المحال والمطاعم والمولات والمقاهي    مدير تعليم القاهرة: مراعاة مواعيد الامتحانات طبقا للتوقيت الصيفي    خال الفتاة ضحية انقلاب سيارة زفاف صديقتها: راحت تفرح رجعت على القبر    صور.. الطرق الصوفية تحتفل برجبية السيد البدوي بطنطا    أحمد موسى: مصر قدمت تضحيات كبيرة من أجل إعادة أرض سيناء إلى الوطن    رئيس جامعة دمنهور يشهد فعاليات حفل ختام مهرجان بؤرة المسرحي    إجازات شهر مايو .. مفاجأة للطلاب والموظفين و11 يومًا مدفوعة الأجر    الهلال الأحمر المصري: إسرائيل تعطل إجراءات دخول الشاحنات إلى قطاع غزة    في الموجة الحارة.. هل تناول مشروب ساخن يبرد جسمك؟    طريقة عمل الكبسة السعودي باللحم..لذيذة وستبهر ضيوفك    خالد الجندي: الاستعاذة بالله تكون من شياطين الإنس والجن (فيديو)    حكم تصوير المنتج وإعلانه عبر مواقع التواصل قبل تملكه    أمين الفتوى: التاجر الصدوق مع الشهداء.. ومحتكر السلع خبيث    تحرير سيناء قصة كفاح نحو البناء والتنمية .. ندوة بمجمع إعلام قنا    تجديد اعتماد كلية الدراسات الإسلامية والعربية ب«أزهر الاسكندرية»    بالفيديو.. أمين الفتوى: موجات الحر من تنفيس نار جهنم على الدنيا    متحدث «الصحة» : هؤلاء ممنوعون من الخروج من المنزل أثناء الموجة الحارة (فيديو)    بعد إنقاذها من الغرق الكامل بقناة السويس.. ارتفاع نسب ميل سفينة البضائع "لاباتروس" في بورسعيد- صور    البورصة تقرر قيد «أكت فاينانشال» تمهيداً للطرح برأسمال 765 مليون جنيه    العاهل البحريني ورئيس الإمارات يدعوان إلى تهدئة الأوضاع بالشرق الأوسط    10 توصيات لأول مؤتمر عن الذكاء الاصطناعي وانتهاك الملكية الفكرية لوزارة العدل    تضامن الغربية: الكشف على 146 مريضا من غير القادرين بقرية بمركز بسيون    تأجيل محاكمة 4 متهمين بقتل طبيب التجمع الخامس لسرقته    القبض على 5 عصابات سرقة في القاهرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفصل العاشر من "بيوت بيضاء" للكاتبة هدى توفيق
نشر في اليوم السابع يوم 31 - 08 - 2011

تحولت بعد موت فاطمة البلوشية إلى شخص بارد، صلب كالصخر، جافة كأننى إسفنجة ناشفة تعصرها فلا تنزل منها قطرة ماء واحدة، والصدمة وَقَفَتنى فى بحر من الندم والشعور بالذنب وأنا أستدعى ذكريات الماضى، وأنا أرمقها بنظرات الحب والصداقة والغيرة تنهش فى قلبى كأى امرأة أحبت من أحب صديقتها الغالية، لأتوارى بمشاعر سلبية خلف نظرات زاهدة قرفانة، لا يستثيرنى أى حديث أو شخص إلاّ إدامة التحديق أو إمعان البصر فى لا شيء، وروحى منفصل عن جسدى الذى يتحرك كروبوت آلى بين القاعة والحجرة وأحاديث عابرة، شعرت أننى كبرت فى تلك الأعوام القليلة، سنوات وأصبحت امرأة شاخت فى السن، وأنا أضغط روحى القديم لينزلق فى نفق مظلم يحوطه الندم والحسرة، لتصير كل تلك القصص والحكايات علة تنخر فى عظامى كالسوس وقد صرت أتنفس بلاهة الصمت وآكله فى الرستاق واعتزلت جميع من حولى، وانهياراتى مكتومة الصوت وأنا الوحيدة التى أسمع صداها، فتجعل النوم والصحو مستحيلَين على والساعات الداخلية بين قاعة التدريس وغرفة بدر تجرى على نحو وحشى ومرعب ينزع إنسانيتى عنِّى، وقد بدت لى ذاتى فكرة شيطانية، تستثير تدمير كل من حولى لينفضوا عنِّى بعبث، رغم يقينى بأنه لا دخل لى فى هذا، لكن أحسّ به شؤمًا يسكننى، يسرى ويتغذى على هزيمة الآخرين، ورحيلهم عنِّى، ليُبقِى لى هواجس الاكتئاب والفقد الممتدّ كأنه خط سيرى المقدر لى فى الحياة وربى يقذفهم لى من السماء ككرات مطّاطية أنشغل باللعب واللهو بها وتتداخل التفاصيل، وتمتزج المشاعر حتى تلتغى تفاصيلى الخاصَّة ويظل لى توجُّس شيطانى بين مرور الوقت الداخلى لأحاسيسى المعلولة والوقت الخارجى لساعة الزمن التى تمر وتجرى وتعدو كالذئب فى طريق الحياة التى لا ولن تتوقف، لذا قررت الهروب والسفر بأى طريقة، فالمكان ليس له أى معنى دون من نعرفهم ونحبهم.
كنا فى نهاية أغسطس، والجدران فى غرفة بدر تنضح صهدًا، ومربع الشمس من النافذة مسلَّط على الأرض لا يتحول، وقد أرسل الحَرُّ لنا لفحات من نيرانه، استغرقت أيامًا طويلة وممتدة تشوى البلد دون تراجع، والشمس فوقى شديدة الوهج تكاد تحرق بشرتى، وتزيد أعصابى المنهارة اشتعالاً وعصبية.
هاتفت ابتسام أرجوها بعد سلام فاتر عن أحوالها، أننى أريد أن أسافر على وجه السرعة، وأننى لم أعد أحتمل العمل والإقامة فى الرستاق، فردَّت بنبرات هادئة وباردة أثارت أعصابى، أن هذا لا ينفع فى الوقت الحالى فلا أحد غيرى فى المعهد للتدريس، وأننى صديقتها المفضلة، ولا يصحّ أن أتخلَّى عنها فعلت حدة نزقى وغضبى، وقلت أصرخ فيها:
- اسمعى، أنا مش عايزة حد يحبنى، أنا زهقت وعايزة أسافر، فاهمة؟ ما تقوليش حاجة عن الصداقة والحب، خلاص أنا كرهت نفسى، مش قادرة، عايزة أسافر، فاهمة؟
وأغلقت فى وجهها السماعة وألقيت التليفون فى حقيبتى بنرفزة، وسرت بخطوات حازمة، عازمة النية بعناد على السفر، لا أبالى بنظراتهن الغريبة لى وأنا أصوّب إليهن نظرات متعالية عليهن وعلى كل الأحداث التى مرت بى كأننى أحاول أن أثبت لنفسى كم أنا قوية، وغير مكترثة بشيء أو بأحد، حتى أستلقى على سرير بدر والغثيان يملؤنى، أحملق إلى السقف، وأهمس لأنفاس بدر أن تأتى لتؤنسنى، وأخاطبه كروح تماسّ مع روحى الممزق كأعضاء محمد المصرى، وأصبحت غائبة عن جسدى مثل بدر، ويعترينى اليأس أن يرد على فأعاود الحملقة إلى السقف ليخترق ندائى السماء التى بها ربى لأرجوه قائلة:
- ارحمنى يا رب، ارحمنى يا قلبى، فأنت وعدتنى فى حبهم صبرًا، فحاذر أن تضيق وتضجر.
رغم وقاحتى معها جاءت ابتسام سريعًا فى إجازة الخميس تجر معها معلِّمة جديدة تُدعَى جيهان حضرت من أيام قليلة وطلبت منى بهدوء مفتعل أن أجمع أغراضى، وأعود معها إلى مسقط، حتى تتهيأ فرصة للسفر تحددها إدارة العمل والكفيل، كنت أدرك أنها تتعامل معى كطفلة مجنونة عليها أن تهدهدها، وتصغى إليها وتستجيب لمطالبها حتى تحتويها وتبدأ فى تنفيذ ما تريده هي.
ذهبت إلى مسقط وأنا أثير الشفقة لكل من فى المنزل الكبير، حتى نظيرة التى كنت أظنها نبعًا من التعاسة أمامى، صارت مشاعرى تجاهها بيضاء، كبيوت مسقط البيضاء، ذلك البياض المتعكر، المفضى إلى العدم والموت البطيء وقد انتهت صحبتى معها ومع غيرها.
فى هذا العالم الذى يتألف من امتدادات لا نهائية وألوان وأحزان لا حصر لها من الحكايات وقد تلاشت الآن، لتتحلل انفعالاتى فى بركة ماء راكدة، جسدى يضمر كأنه يأكل بعضه بعضًا، وروحى تَكَسَّر وتَهَشَّم كزجاج بلُّورى إلى جزئيات حادة تدمى جراحًا طويلة الأمد، يستحيل استجماعها مرة أخرى فى روحى الجديد وعهدى مع الحياة القادمة.
عدت إلى غرفتى القديمة فى نفس المنزل الكئيب، بوجوه كلها جديدة بعد سفر القديمات بلا عودة لأسباب لا يعلمها إلاّ الله. ولم يتبقَّ غير أبلة فوزية كما هى على نفس السرير الذى كنا نتقاسمه، وقد تبدل حالها وأصبح لها شعبية كبيرة بين الأهالى، وتولت إدارة مدرسة تحفيظ القرآن صباحًا ومساءً كمديرة لها. ولم تعد إلى التدريس فى مدرسة مسقط، وبفضلها عملت معها كنائبة مديرة وتركت التدريس أنا الأخرى، قابلتنى بضحكتها المعهودة، لكن قلبى كان مُقفَلاً، وابتسمت ابتسامة مقتضبة، واحتضنتها حضنًا هزيلاً وهى تنهال على قبلاتٍ وقد تهدج صوتها بالذكريات القديمة التى كانت بيننا حتى قالت ضاحكة مازحة:
- مالك يا بت خسيتى كده ليه؟! ولا يهمك، هترجع أيام زمان وأحلى منها إن شاء الله... وحشتينى، وحشتينى قوى يا فقرية.
أقنعت نفسى أننى فعلت كل ما يمكن فعله فى نفسى بعد موت فاطمة البلوشية، لكن الحزن لم يمضِ بعيدًا، والأيام تمر مرورًا عبثيًّا ولاهيًا كأن شيئًا لم يكُن، إلاّ أن الأمر كان يمر على بشق الأنفس، أدرك أن إحساسنا بالحب والهزيمة والنشوة والفرح يختلف من شخص إلى آخر، أقلهم الأكثر ارتباطًا وتأثُّرًا مثلى ومثل آخرين فى الحياة لا يستطيعون أن ينسوا ويتداركوا الأمور سريعًا، ما يطلق عليها رفاهية فى المشاعر وحساسية مفرطة، لكنه من المؤكد أيضًا أن وجوه الحياة كل الحياة لا تتشابه فيها دقتا قلب وبصمتا صوت وعاشقان مثل فاطمة البلوشية وأحمد، اللذين أدهشانى إلى درجة من الروعة والحسد العالى، لكنهما فى النهاية استخدما حبهما لى كحجة حاسمة لقطع الخيوط لى مع استمرار حياتى التى توقعتها لنفسى، حتى تحولت إلى جحيم وأعصابى حطام بعد كل تلك الرحلات الأثيرية، واللقاءات العديدة مع كائنات متباينة أوهنت بطولتى على البقاء والاستمرار، وأريد بإصرار أن أهرب من المكان، فالمكان بالنسبة إلى أى إنسان خالدٌ وقاسٍ، يتدرب الإنسان على الحب والكراهية، والفراق الذى يحيله إلى مكان خالى المعنى وكئيب، والذكريات تطن فى عقلى كطنين نحلات، تسقينى العسل المر حتى أهمس لنفسى بمسّ جفوني: حتى الموت ليس سهل المنال لك أيتها المسكينة، نعم، ليس بعد، وأنا أمتلئ بفكرة المغادرة عن عالم لم أفلح فى العثور على الاستقرار به وقد رحل عنِّى الجميع لكن ظلاله تشوش رؤيتى ويقينى بأى أمر داخل مشاعرى المحجوبة عن أعين الناظرين إليّ.
فى ذلك المساء بالذات، انقبض قلبى، وطفق يقلب النظر فى ما حوله شاردًا مقهورًا، وتكاسلت عن الذهاب دوام المساء مع أبلة فوزية، ومكثت بمفردى، فكلهن فى العمل أو التنزُّه أو شراء احتياجاتهم الشخصية. سمعت طرقًا على الباب الخارجى، فتجاهلته محتارة، مَن سيطرق الباب الآن؟! حتى ازداد فذهبت غير مبالية أرتدى جلباب النوم وعارية الرأس، فربما إحداهن نسيت المفتاح، لكنى فوجئت به يرشق إلى نظرات قديمة ما زلت أتذكرها كلما تلاقت أعيننا، ظل للحظات مرتبكًا، لا يعرف من أين يبدأ الحوار، وخرجت الكلمات من حلقه مبحوحة:
- جئت لأراك وأطمئن عليك، فلم أعد أراك بعد أن عملت فى المدرسة الأخرى.
قلت بجفاء:
- أشكرك يا وجدى، وماذا أيضًا؟
تردد لحظات وتنهد بعمق حتى أردف يقول:
- هل تسمحين لى بالدخول؟ يبدو أنه لا يوجد أحد، أريد أن أتحدث معك فى موضوع خاصّ وهامّ...
وجدت نفسى دهِشة من طلبه، والتزمت الصمت للحظات، لكن الكلمات خرجت قوية من أعماقى حازمة كما أردت:
- لا لن أسمح لد بالدخول، هل جُننت؟ أنا بمفردى هنا.
فاتخذ وجهه لونًا آخر غير لونه، وشعر بالحرج والمرارة تغصّ فى حلقه وهو يتظاهر بالجدية واللطف حتى يفرض هيبة مقنعة تستر أفعاله الدنيئة التى أعرفها جيدًا حتى اختفى صوته قليلاً فى حلقه ثم خرج بغتة مندفعًا كالتيار:
- حريق هائل شبّ فى مدينتك، فجئت أخبرك لأنك لا تقرئين الجرائد، وإذا فتحت التلفاز ستتأكدين وتعرفين التفاصيل، وتلك رسالة من أماني...
ومد يده يعطينى جريدة يبدو أنها مصرية، ورسالة، وقد هربت الكلمات التى امتلأت بها داخله، وكان ينوى قولها لى، وفر هاربًا كفأر مذعور من أمامى فورًا.
طالعت الجريدة وقلبى يخفق كأن بركانًا شبَّ فيه من الخوف والارتباك كما شبَّ الحريق المروِّع فى قصر ثقافة مدينتى فى أثناء عروضها المسرحية والغنائية فى مهرجان ضخم. بحثت عن تليفونى الخاصّ حتى وجدته تحت الوسادة صامتًا، لكنه مضاء يهتز بذبذباته، يصرخ من عدة محاولات للاتصال، وكانت -كما توقعت- أمى، التى كنت سأهاتفها أول واحدة للاطمئنان عليها، ثم فعلت هذا مع بقية إخوتى وأسرتى وصديقاتى المقربات، أنتهى من مكالمة إلى أخرى حتى نفد رصيدى، ونسيت النوم والراحة وخرجت أشترى أكثر من كارت، حتى لا أُضطرّ إلى الخروج ثانية، وأثرثر على راحتي. هاتفتهم جميعًا وضعت الهاتف الذى كان صامتا استعدادا للنوم، أعدته إلى وضع عادى على الكومودينو وبجانبه رسالة أمانى، وسقطت على السرير أحاول الاسترخاء حتى تهدأ دقات قلبى التى كادت تنفجر وهى تنتفض بقوة وتنبض من شدة الخوف وأنا أتساءل بتوتر وإنهاك:
- ماذا بتلك الرسالة؟ ومَن الآخرون الذين ماتوا؟
أفقت مذعورة على رنين تليفون متلاحق، وكان جسدى بكامله يتفصد عرقًا غزيرًا كقطنة مبلَّلة، وأنا بين نعاس ثقيل مضمَّخ بصداع أليم حتى التقطت الموبايل بصعوبة لأنصت:
- ازيّك يا فاطمة؟ عاملة إيه؟ وحشتينى، أنا اطمّنت على أمك، واخواتك كويسين ما فيش حاجة.
عرفت الصوت، إنها صديقتى نهى التى أحضرتنى إلى هنا، وقد حضرت هنا من قبلى ثم تزوجت بمدرس وسافرت معه إلى السعودية، وانقلبت بعد عودتها إلى داعية وارتدت النقاب، وتمارس نشاطًا دينيًّا اجتماعيًّا تحث فيه الفتيات على ارتداء النقاب وحفظ الأدعية صباحًا ومساءً وذكر الله فى كل الأوقات، وهداية البنات والسيدات إلى طريق التوبة والعودة إلى الله.
كنت قد أفقت بعض الشيء فقلت لها:
- ربنا يخليكى يا نهى. وانتى عاملة إيه؟ جيتى من السعودية؟
تجاهلت سؤالى واستطردت تتحدث عن شيء آخر:
- شُفتى اللى حصل لولاد الكلب الكفرة؟ ربنا بيعاقبهم على فجرهم...
قلت غير منتبهة لقصدها الحقيقى وأنا أقاوم الصداع الذى يدميني:
- اليهود؟ قصدك اليهود؟
فرنَّت ضحكة عالية هزَّت التليفون من جلجلتها وهى تتخلل أذني:
- يخرب عقلك يا فاطمة... طول عمرك دمك خفيف، والنبى عندك حق ما هم زى اليهود، ربنا شواهم فى النار وبقوا زى العفاريت بيسرحوا بالليل فى القصر اللى بقى زى الخرابة. ما انتى عارفة انى ساكنة جنب القصر المنيّل ده.. قال فنانين قال...
كلامها أصابنى بالخرس للحظات، ومررت براحة يدى على جبينى المبتل حتى استوعبت كلامها الذى أغضبنى فقلت مندفعة كموجة بحر هادرة طائشة:
- يا شيخة حرام عليكى، فنانين إيه وزفت إيه، هما مش ناس زينا وعندهم أسر وعيال؟ هو الدين اللى بتدعى له علّمك إن موت الناس والشماتة فيهم يبقى حلال؟ اتقى ربنا وبلاش شماتة حرام عليكى، دول مسلمين زينا...
وقاطعتنى تردّ بتبرُّم:
- بس فيهم مسيحيين...
ولم أجد حلاًّ للردِّ عليها غير إبداء الوقاحة، فالبذاءة فى أحيان كثيرة تكون المعنى الأوضح والمعبّر عن الموقف تمامًا ولا يصلح أى تهذيب فى كل لغات العالم، فقلت لها وقد عاد عقلى بإفاقة بالغة:
- يا بنت الوسخة، الله يرحم الجيبة المفتوحة لحد ركبتك والمكياج والوقفة على النواصى مع البنات أصحابك، وشرب السجاير الفرط مع ولاد الجيران صبيان الحتة اللى كنتى بتقابليهم فى المنور تحت بير سلم بيت أبوكي... فاكرة يا وسخة ولا خلاص عشان سافرتى واتجوزتى شيخ وبقى عندك فلوس، بقيتى انتى كمان شيخة وبتربى الناس؟ اقفلى السكة يا نهى، لأ، غورى من وشى خالص، أنا مش عايزة اعرفك تاني... انتى بت واطية وحقيرة... لا إله إلاّ الله بتشمتى فى أذى الناس.
تثاقلت الهموم كجبل تسد أنفاس صدرى، وطاش عقلى من هذا الصداع المزمن فقلت مرة أخيرة. لا بد من الهرب... لا بد من الفكاك حتى أنجو بجلدى من هذا الزخم المأساوى، الذى يحوطنى خارج الوطن وداخله، ولكن على أولا أن آخذ دشًّا باردًا... نعم، الآن.
كانت رسالة أمانى لى تحية نابعة من القلب، تطالعنى بها عن أخبار سعيدة وانزلاقها من أصعب موقف فى حياة أى بنت تريد أن تكون عذراء فى ليلة الدخلة، حتى تفوز بلقب الشرف والعفة والزواج الشرعى، وقد دبرت أمورها مع إحدى صديقاتها، وتمت الليلة الموعودة بسلام، وحامل فى شهرها الثالث، وتعيش حياة مستقرة وآمنة وقطعت كل حبال الماضى القديم، وبدلت رقم هاتفها وأنها لولا مساعدتى لها ما كانت لها تلك الحياة، وهى تدين لى بالشكر، وتطمح إلى صداقة وود كلما سمحت الظروف بالزيارة أو الاتصال، تاركة لى رقم التليفون والعنوان، وترجو الاتصال قريبًا. ترددت ماذا أفعل بتلك الرسالة، ربما لو كانت أرسلتها فى وقت سابق كنت سأنفجر من السعادة والفرحة لأمرها، لكننى فى الوقت الحاضر روحى بعيد تمامًا عن أى مثالية أو تعاطف أو مشاركة أحد فرحه أو حزنه، فأرجأته بعيدًا فى حقيبة خاصَّة بها قفل مع دفتر يومياتى "مذكرات العباقرة"، حتى أرى ماذا سأفعل به.
وانتهى عام 2005 بكارثة موت فاطمة البلوشية، وحريق قصر ثقافة بنى سويف الهائل فى مدينتى الصغيرة.
مرت الأيام دون أن أجد حلاًّ، وابتسام تحاول المراوغة والهروب منى حتى أستسلم للبقاء، والتخلِّى عن فكرة السفر. الحق أننى حاولت النسيان والبقاء، لكنى لم أستطع، كنت أشعر بنفس ثقيلة، ولم تعد اجتماعات الأماسى مع أبلة فوزية وصديقاتها الجديدات العمانيات اللاتى أصبحن كثيرات تثير فى أى بهجة رغم حُنُوِّها وعطفها البالغ كأنى طفلتها، لا ترفض لى طلبًا، وتحضر لى ما لذ وطاب وتدفعنى للخروج والتمشِّى والحديث، وكنت أقابل كل هذا بالصمت، وتجهم وابتسامات كأن فكَّى فمى أصابهما عجز يمنعهما عن الانفراج الطبيعى والابتسامة الوافرة.
تشابه الأيام جعل الذكريات كتنويعة على رأس مُحبَط يريد الهروب إلى أقصى حدّ، لذا أصررت على مقابلة ابتسام بعد انتقالها إلى منزل آخر تعده وتجهزه لاستقبال زوج المستقبل، حيث سيتم زفافها فى إجازة منتصف العام، فذهبت إليها فى فترة الراحة بين الدوامَين الصباحى والمسائى فى عز الظهيرة، طلبت من سائق الباص أن يذهب بى إليها، طرقت الباب ولم أسمع ردًّا، فوقفت بجانب الباب ساكنة والشمس ترسل أشعتها اللافحة، فتضايقت من وطأة الحرارة على رأسى، لكننى انتظرت لأكثر من ثلث ساعة، حتى توقف سائق تاكسى ونزلت منه ابتسام وهى تأمره أن يحضر الساعة السادسة مرة أخرى. بمجرد أن رأتنى تهللت تقول بفرح:
- تصدقى انتى بنت حلال! كنت هاتصل بيكى النهارده، لكن انتى سبقتينى وجيتي.
تجاهلت ترحيبها وقلت بحسم:
- أنا عايزة أتكلم معاكى فى موضوع يا ابتسام.
ربتت على كتفى بحنو:
- وماله يا حبيبتي؟ تعالى أنا عازماكى على هاريس اللى بتحبيه فى مطعم عمر أمك ولا أهلك كلهم ما دخلوه.
ولأننى أعرف أنها تمازحنى لتستقى مدى الود والتباسط الذى بيننا فقد قلت بشيء من الضيق:
- وإيه اللى جاب سيرة أمى دلوقتى يا ابتسام؟
- ولا يهمك يا قمر بلاش أمك خليها أهلك بس.
استقللنا تاكسيًا إلى مطعم مدخله فاخر وأنيق ويشبه البيوتات الخشبية الصغيرة كل حجرة خشبية مكيفة وبها حمام وترابيزة طعام يقابلها أريكة وثيرة وعريضة على النمط الأمريكى وطاولة نحاسية مستديرة عليها إبريق قهوة عربى بكؤوسه الفضية المزخرفة للراحة والاسترخاء لشرب النارجيلة.
ويبدو أنها تعتاد الحضور إلى هذا المطعم بالذات، فما إن رآها الهندى رحب بها بشدة وقادها إلى حجرتها التى دائمًا ما تختارها إذا كانت فارغة، ظلت تتحرك بانبساط حتى إنها رحّبَت بى مرة أخرى وهى تخلع العباءة وتفكّ دبوس طرحتها لينسدل شعرها على ذراعيها أسود جميلاً لامعًا ينساب كليل عميق، واستطردت تقول كمن تذكر شيئًا هامًّا وهى تحتضنني:
- ياه! وحشتينى قوى يا فاطمة... كل دا يا جبانة ولا حتى اتصال؟!
تناولنا طعاما شهيًّا وجلسنا على الأريكة، تشرب هى الشيشة التى أحضرها لها الهندى بعد الغداء، وأخذت تنفث الدخان بتلذُّذ وأنا مشدوهة أنظر إليها باستغراب حتى خرج الكلام عفويًّا:
- من إمتى يا اختى بتشربى شيشة؟
- دى شيشة تفاح، معظم العمانيات بيشربوها، وفيه كل أنواع الفاكهة... أجيب لك واحدة؟ والنبى مش أحسن من السجاير؟
تجاهلت رأيها عن الشيشة والأفضل، وأحست بحاجتى إلى الحديث، وبنبرة ذكية ولَمَّاحة قالت على الفور:
- إنتى عايزة تسافرى ليه يا فاطمة؟ ليكى إيه فى مصر؟ أنا كمان مش هارجع مصر، هاتجوز هانى وأجيبه هنا يشتغل معانا، ما انتى عارفة انه مدرس زيك. هتحبيه قوى يا فاطمة، زيك بالظبط طيب ومخلص وبيحب الشغل زيك، وفوق دا كله بيموت فى التراب اللى بامشى عليه.. ما أنا قلت لك قبل كده انه كان بيحبنى من أيام ثانوى، بس أنا اللى كنت مش واخدة بالي.
أطرقت رأسى ناظرة إلى أرضية الحجرة اللامعة من شدة النظافة، واستأنفت هى كطبيب تناول مشرطًا ليفتح جرحًا غائرًا وأخذ يعبث فيه قائلة بقوة وحماس المغتاظ:
- كل ده علشان صاحبتك ماتت وأحمد ما حبكيش وسيف مشى وعبد العزيز سافر؟ كنتى بتحبيها قوي؟ ليه؟ هى فيها إيه أحسن مني؟ واحنا من بلد واحدة، إيه فاطمة؟ فيها سكر وأنا كخة؟!
اشتعل رأسى، وكادت الدموع تطفر من عينى وأمسكت أعصابى حتى لا تخذلنى وتسقط وهى لا تكف، ثم قالت:
- انتى مالكيش ذنب فى موتها يا فاطمة... دا قدر، انتى مش مؤمنة ولا إيه؟
وأخيرًا انسابت دموعى غزيرة، فأمسكَت بيدى واحتضنتنى وشعرها الأسود الجميل يلفح أنفاسى بشهيق البكاء الذى هز جسدى كله، وغصت فى حُمَّى الألم وهى تطبطب بباطن راحتَى يديها على ظهرى حتى أهدأ وتتفوه بحديث الأحلام وترمى لى بطوق النجاة وهى تقول:
- تعرفي؟ لما ييجى هانى هنعيش مع بعض، عارفة ازاي؟ هانى ليه أخ اسمه صلاح مراته ماتت وعنده عيلين، إيه رأيك؟ أرمل وعنده العيال اللى ربنا حرمك منهم، هتكونى عليهم أحنّ من أمهم اللى ماتت.. أنا عارفة كده.
وانتزعتنى من حضنها كمن يخرج من الجنة بغتة، وأمسكت بذراعيها كتفي:
- أنا عندى ليكى مفاجأة.. الكفيل هيفتح مدرسة جديدة فى بركة وأنا هاكون المديرة وانتى الناظرة وهانى هيشتغل معانا... أنا خلاص زهقت من مسقط، والمعلِّمات اللى هنا.. هنروح مكان جديد مع بعض يا فاطمة.
استندت بظهرى إلى الأريكة، وقد تباعدت كل الأحلام عنها وعنى وقد جفت دموعى وناولتنى مناديل ورقية لأتمخط وأبتلع لعاب فمى بدموع ولَّت، وقلت بكل هدوء وحسرة وعيناى ذابلتان من غزارة الدموع، وجسدى خامد ورخو بفعل الطعام الكثير وحديث ابتسام حتى قلت:
- أنا هاقضى معاكى رمضان لأنه قريب، وهاسافر بعد العيد، صرَّفى أمورك وهاتى بديل ليا فى أقرب وقت.
واستأنفت أقول كأنى أخاطب نفسي:
- عارفة انى طيبة وغبية وحمارة فى نفس الوقت، بس مش هاقدر يا ابتسام، أنا فعلاً تعبانة وعايزة ارتاح، وراحتى فى السفر، أمى هى أولى بيا دلوقتي.
جاء شهر رمضان بطقوسه المعتادة فى كل البلاد العربية، العمل القليل، طهى أشهى المأكولات، الكسل والتراخى والنوم كثيرًا حتى يؤذن المغرب وتنحل ذمة البطون. اتفقت المعلِّمات أن يأكلن جميعًا معًا وأن تكون أبلة فوزية المسؤولة عن الطهى مع اختيار معلِّمة كل يوم لمساعدتها، ويكون مكان الالتقاء هو الصالة، يفرشن العديد من الجرائد ويتجمعن فى شبه دائرة لتناول الإفطار، فالطعام هو أقوى لغة فى قاموس الحياة المصرية فى الأفراح والمآتم يأكلون، لكننى أحسست بسطحية تلك المشاعر القومية ومللت نظرات الشفقة التى يحدجون بها إلى من بؤس حالى، وروحى هائم بالضياع. وعزمت على خوض تجرِبة لأول مرة فى حياتى هى الاعتكاف فى الجامع بعد الذهاب إلى العمل الصباحى الذى اكتفيت به، ولم أذهب إلى المساء. بعد العمل أتجه إلى الجامع ومعى غيار داخلى وعباءة سوداء ولحاف أسود أيضًا وأظل بعد قراءة القرآن والتسابيح حتى يؤذن الإمام للصلاة بعد أن يقرأ ما لا يقلّ عن جزأين من القرآن مع الصلاة المستمرة لأكثر من اثنتَى عشرة ركعة حتى الساعة الثانية عشرة ثم يكون التهجد إلى موعد السحور فيتوقف الشيخ لتناول السحور وراحة للاستعداد لصلاة الفجر حاضرًا، ثم أنتظر شروق الشمس لصلاة الضحى وأتأهب للذهاب إلى العمل، وهكذا دواليك، وأحسّ نفسى مملوءة بخشوع غامر يتلبس كل الدنيا مع صوت الشيخ العذب الندى، وعندما أشعر بالتعب من القيام والقعود أتكئ على الجدار أو أنام باسترخاء وقد حل بجسدى خدر يشبه ذلك الذى يشعر به الإنسان بعد رحلة طويلة، وفوهة تساؤلاتى الوجودية تتأمل وتسأل عن ذلك الكائن البشرى المتحرك واللاهث تحت كل سماء وفوق كل أرض حول معنى حياتنا ووجودنا. يا إلهي! ما هذا الإنسان؟! كيف خُلق؟ ولماذا؟ وما معنى حياته؟ وما غايتها؟ بالخير والشر؟ ما مصدر الآلام وما غايتها؟ ما الطريق الذى يقود إلى السعادة، يشتد بى أنين موجع مكتوم بدموع مدرارة صامتة وأخيرًا الموت؟ لماذا يا ربي؟ لماذا ماتت فاطمة البلوشية ولما لم أكن أنا؟ لقد كانت تنتظر فستان زفافها، بينما أنا لا ينتظرنى أحد! ما السر المطلق المتعالى عن كل مشاعر البشر، حتى يتعذر وصفه ويحيط بوجودنا من كل جانب، الذى منه نستمد أصل وجودنا وإليه تصير ونصير إلى رب السماوات السبع والأرض والبحار والأنهار والمحيطات، وكل الكائنات الحية؟ كم أشتاق إلى تلك المسيرة ليخبرنى ما الموت، وما مصير الإنسان بعد الموت! هل هناك حساب وجزاء؟ وكيف ذلك؟ كيف؟! رفعت رأسى محدقة النظر إلى بهو الجامع المزخرف زخرفات إسلامية بديعة بأنواره الباهرة والساطعة سطوعًا ناعمًا ودافئًا إلى مشاعرى الآن بين شعور لانهائى، وأبدى يمشيان معًا وأنا أبحث عن ذلك الكائن البشرى المتسائل عن زمن لا ينتهى ولا يمر أبدا ليصبح الكون غير محدد، له حاضر واسع المدى، لا يدرك لغة الموت الذى ترقد معه كل أسرار الحياة والتأمل فى كل اللقاءات لى مع الآخرين حتى تحولت إلى رباط من الحب والرغبة والفراق والغضب لم يجنِ لى إلاّ التعاسة والشك فى مكنون الراحة والرضا، لكن يبدو أن وضعى سيِّئ مع عالم الأحياء الآن.
انتهى رمضان وجاء العيد الصغير وعدت إلى العمل صباحًا ومساءً مع أبلة فوزية، وانتظرت أى رد أو أخبار عن سفرى ولا يأتينى شيء وابتسام مشغولة تمامًا بالتجهيز لعرسها فى نصف العام، ففعلت ما لا بد منه، وانقطعت عن الذهاب إلى العمل، مهما حاولن إقناعى، ومكثت فى السكن حتى كان لى ما أريد، وإن حدث بعد فترة من الوقت.
فاجأنا الكفيل بدعوته إيانا جميعًا لقضاء العيد الكبير فى مزرعته فى الرستاق لرؤية الذبائح والتضحية وتناول الشواء اللذيذ، والأرز المحشو بالصنوبر واللوز والجوز، كما فاجأنى إعدام صدام حسين فى صباح ليلة العيد، بفتح جوّال أى أحد ليريك مشهد إعدامه الذى يتراسلونه على الهواتف وهم يشعرون بالشفقة والتعجب والصمت، فشعرت بسخافة الأحزان وحقارة الأفكار وأنا أنظر إلى المشهد القاتل حزينة لاهثة.
وبعد يومين من عودتنا إلى مسقط، تسلمت كل أوراقى وتذكرة السفر من أبلة فوزية، وقد خاصمتنى ابتسام لعنادى وتجاهلى مشاعرها ولم تأتِ حتى لتوديعى، كنت الوحيدة التى تسافر فى هذا الموعد الغريب، فلا هو نصف العام ولا نهاية العام.
وأنا أرتب حقائبى عمَّنى سلام عميق، وأخيرًا أحسست أن كل المشاعر السلبية خرجت إلى السطح، مشاعر ظلت مختبئة لليالٍ طويلة داخل روحى دون وعى منِّى، فشعرت الآن أنها لم تعد لها ضرورة وقد غادرتنى، كما غادرتنى البيوت البيضاء وأنا أرى عينيها السوداوين، وشعرها الأسود ووجهها الطفولى الخمرى بثغره الباسم وجمالها الوضاء، خمسة وعشرون عامًا فقط، قضيت معها نحو سنتين فقط وفارقتنى إلى الأبد. آه يا فاطمة البلوشية! كم سأشتاق إليك! بل آه يا فاطمتين! كم سنوات وسنوات تستمرّ لتسقينى الألم العظيم على فراقكما، وقد اندمجت اليقظة فى السحر، وأصبحت الحكاية مع حلول السفر هى الواقع الذى تحول إلى عبث عقيم يملأ المكان بذكريات حياة لم تعُد حياتى وقد انقطعت الحكاية، وسيحلّ غد جديد فى وطن آخر، لأواصل أعجوبة التحليق إلى عوالم سحرية أخرى مختلفة تمامًا عما كان وصار وأمسى زائلاً، كل ما أتلهف عليه الآن هو شيء واحد، الرحيل لأعود إلى حضن منزل أمى القديم وأنام نومًا عميقًا دون صراع ولا تقلب فى الفراش، مختنقة وجوعانة إلى معرفة الحقيقة، ولن أشكو من الفراغ الكئيب الذى كان يجثم على صدرى وينتشر فى رأسى الدقيق ويهزّ توازنى، ويجمِّد مشاعرى كالصنم، ولكن هل سيتحقق هذا فى الوطن الأم، أم أنه بداية لضياع واغتراب آخر أكبر وأوسع مدًى...؟ لا أعرف...
التقطت رسالة أمانى من مذكراتى، التى هجرتها من وقت طويل، فكدت أمزقها، لكننى آثرت الاحتفاظ بأوراق وكلمات الماضى، واكتفيت بتمزيق رسالة أمانى وقلت لنفسى فى أثناء تمزيقى الرسالة:
-أنا أيضًا جزء من ماضيها الأسود، وعليها أن تنساه، وتسير فى حياتها دون منغِّصات.
دوَّنت برغبة ملحَّة فى مذكراتى تاريخ عيد الأضحى الذى زامن إعدام صدام حسين 3/12/2006 الموافق السبت، حتى لا يتسلل إليه النسيان والصدأ فى أثناء عبورى الطريق، لكنى اكتشفت أن هذا يحتاج إلى قلم غير كل الأقلام، لذا على عندما أريد أن أكتب أن آخذ قلمى المعدنى إلى أكثر السَّنَّانين قوة وأذهب به إلى أكثر الحدَّادين نارية... حيث يقوم قلمى على آلته النارية الشرارية حتى يصبح أكثر بريقًا... أكثر تعبيرًا... عندما أريد أن أكتب إن ذلك يجهدنى قليلاً.
لكنى بعد هذا أستطيع أن أجلس لأكتب... هناك على قمم الجبال الصنمية العالية... حيث يصبح العالم بعيدًا... صغيرًا.
أضع الورقة أمامى مباشرة، وأستلّ قلمى كما لو أنى أستلُّ خنجرًا أقربه من الورقة البيضاء جدًّا... فترتعش راغبة فى ملامسته، تشتد رغبتى، فأرتجف، إذ يثير ذاك قلمى كثيرًا... يلمسها، يفضّ... بكارتها فى الحال، أنظر إلى قلمى البراق، فأراه محتضنًا الورقة، والدماء تملأ المكان... يرتجف عقلي... وأغمض عينى بسرعة.
لذا دعونا نسمح لفاطمة البلوشية، وفاطمة عبد الناصر، أن تغادرا هذا المكان إلى الأبد، ونذهب إلى القصة الأولى التى بدأت الحكى عنها وكانت مُلهِمًا لشهوة القلم... هل تتذكرونها؟ إنها صديقتى السرية المفضلة التى على أن أسرع بالذهاب إليها وقد هاتفتنى بعد خروجها من السجن، فهى تشكو تروجان (طروادة) يهاجمها وهى جالسة على الكمبيوتر، وقد أحضرت لها المجلة لنرى كيف سأقتل التروجان وأشاهد أفلامى المفضلة مع صديقتى السرية المفضلة.
هدى توفيق


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.