عجيب هو المنطق، الذى تسير عليه الأمور هذه الأيام، فهو ليس منطقا عقلانيا، بقدر ما هو منطق انفعالى بحت، يعتمد على شكوك ستة عقود مضت، ومصالح متضاربة ومتعارضة، لكل فئة من الفئات، حتى تحوّل من السعى إلى المستقبل، إلى السعى للسيطرة، والفوز بأكبر قدر من الغنيمة، فى مرحلة هى أحوج ما يكون إلى التآزر والاتحاد، لو أننا ننشد فعليا مستقبل مصر، ومع غياب المنطق، وتضارب المصالح، بدأ البعض يلعب على مخاوف الناس، ويدفعهم إلى الطريق الذى ينشده، والذى قد يخالف مصالحهم الفعلية، من خلال لعبة (لن).... فكل الانفعالات صارت ترتبط بغيبيات، تخضع لمنظورك الأوّلى للأمور.... الجيش (لن) يترك السلطة.... الانتخابات البرلمانية (لن) تحدث، الرئيس القادم (لن) يأتى... وهكذا ... ولعبة (لن) هذه واسعة المجال، لأنها تعتمد على غيبيات، لا يمكن الجزم بحدوثها من عدمه، ولكنها تؤدى إلى إثارة المخاوف المسبقة، وتفجير الشكوك الكامنة بالفعل فى النفوس، وتصنع حالة من الخوف وعدم الاستقرار، الذى يؤدى إلى الاحتقان المستمر، والذى يغيب معه العقل، وينتهى بفوضى عشوائية، لا أحد يمكنه أن يتنبأ بما يمكن أن تؤدى إليه، فإذا ما أدى إلى هذا، يمكن لطرف ما استغلال ما يحدث، لبث المزيد من المخاوف والشكوك فى النفوس، فيزداد الأمر تدهورا، وينهار الكيان الجديد، وتعم الفوضى، التى يمكن أن تنتهى إلى أى شىء، حتى ما لا يمكن أن يتصوّره أحد الآن، وهذا ما فعله هتلر، عندما أراد احتلال تشيكوسلوفاكيا، فى بدايات الحرب العالمية الثانية، إذ حرّضت مخابراته الأقلية الألمانية، فى إقليم سوديتنلاند على المطالبة بالحكم الذاتى، وعدم الخضوع للحكومة التشيكية، ودفعتهم إلى تصعيد الأمور، مهما كانت النتائج، وحرصت مخابراته على بث الشكوك فى سكان الإقليم، والحرص على استمرار احتقانهم، على الرغم من تنفيذ الحكومة كل مطالبهم، مما أدى إلى اشتباكات عنيفة، بين سكان الإقليم والشرطة، سقط لها عدة ضحايا، جعلت منهم مخابراته وسيلة لزيادة الاحتقان، الذى تواصل، حتى انهارت الدولة، فدخلها بقواته فى يسر، بحجة حماية الأقلية الألمانية فى سوديتنلاند!! ولقد اعتمدت مخابرات هتلر أيامها على لعبة (لن) هذه، وما تؤدى إليه، وصار هذا نهجا فى أجهزة المخابرات المختلفة، اعتمدت عليه المخابرات الأمريكية فى مواجهة انقلاب مصدّق فى إيران، وإفشال الثورة، بعد نجاحها بالفعل، وهذا ليس أمرا عجيبا ولا خياليا، فمن يقرأ كتاب (لعبة الأمم)، الذى كتبه رجل المخابرات الأمريكى السابق (مايلز كوبلاند) يدرك كيف أن أجهزة المخابرات، بكل ما تملكة من خبرات ومعلومات وخبراء ومتخصصين، وعملاء سريين وجواسيس، تستطيع العبث بمصائر دول كاملة، وللحديث بقية... طويلة.