مشكلة المشكلات، فى تطوّر أى أمر حاد، وفى أى تغيير مفاجئ، أنه ليس المهم فى الواقع نُبل الأهداف أو سمو الغاية، بقدر ما تهم الوسيلة الذكية، ويهم الفكر المنظّم، الذى لا يضع قدميه إلا فى المكان الصحيح، فعدم الإقدام على أى خطوة أفضل ألف مرة من الإقدام على خطوة خاطئة، فعبر التاريخ كله، وحتى نهاية العالم، لم ينجح نظام انفعالى اندفاعى، يفتقر إلى القيادة، فى الانتصار على منظومة عاقلة تخطّط لكل خطوة وتستعد لكل الاحتمالات، ولهذا كانت المخابرات الأمريكية تنجح دوما فى إثارة الفتن والثورات والقضاء على بعضها، كما ورد فى كتاب (لعبة الأمم) لمايلز كوبلاند رجل المخابرات الأمريكى السابق، هذا لأن الأمر كله أشبه بلعبة شطرنج دولية، لا يربح فيها الأكثر حماسا، ولا الأكثر وطنية، ولا الأطيب، ولا صاحب الأهداف النبيلة، بل يربحها فقط من يجيد اللعب والتخطيط، والأبعد نظرا، وصاحب الفكر المرتّب الدقيق، وهذا يعيدنا إلى الحديث عن الانتخابات القادمة، التى انشغل عنها الثائرون بالمليونيات والجُمع، وإثارة احتقان الشارع وقلقه وخوفه، والسخرية من الأغلبية الصامتة، والمطالبة بالانتقام من الماضى، فى نفس الوقت الذى نجد فيه أن جماعة الإخوان المسلمين مثلا، على الرغم من أنها أكثر من دفع الثمن، من عشرينيات القرن العشرين حتى سقوط نظام مبارك، راحت تخطّط للمستقبل منذ اللحظة الأولى، وسعت لكسب الشارع المصرى الذى ينهكه الآخرون بمليونياتهم، فصار أصحاب المليونيات يفخرون بحشد مليون شخص تاركين عشرات الملايين للإخوان يمدون لهم يد المساعدة والعون ويطعِمون فقيرهم، ويرعون يتيمهم، ويُشبِعون جائعهم، ويداوون مريضهم، وكانوا أوّل من انتبه إلى غضب الشارع وثورته على الثورة، وغضبه أو عدم احتماله الاحتقان المستمر فابتعدوا عن كل هذا وتقرّبوا من حزب الكنبة أكثر، وقد أدركوا قبل غيرهم أنه وحده سيكون الفيصل فى الانتخابات القادمة، وأن لسانه الصامت لن ينتقل إلى قلمه وهو يقف أمام صناديق الانتخاب لينتخب من يرى أنه سيؤمّن له الأمان والاستقرار. وستكون هناك صرخات بالطبع، تحاول تبرير هذا، بألف سبب وسبب، ليس من بينها اعتراف واحد بأى خطأ، باعتبار أن المتظاهرين لا يرتكبون أى أخطاء، وأنهم من مصاف الملائكة، وهذا أكبر خطأ؛ لأن العناد والإصرار والمكابرة، لا تربح أى معركة، ورفض الاعتراف بالخطأ لا يمحوه، بل يضاعفه، ولا يكون له معنى، بعد أن تسفر الأمور عما ستسفر عنه، وسنسمع من الكل تنصّلا من كل ما حدث، فالهزيمة دوما يتيمة، والنصر له ألف أب، وأم، وعم وخال. وخلونا نحسبها بالعقل وحده.